رحاب إبراهيم - العروسة..

– يومان فقط بلا تأخير , مفهوم ؟ ولا تطلبي من أمك الاتصال بي للاستئذان في مدة أطول ..فاهمة ؟

نظرت إلى الأرض

– حاضر

سوف أشاهد فيديوهات الحفل وكل الصور بدقة, أعرف أنك عاقلة وستختارين ملابس لائقة وتجلسين بهدوء.. فاهمة؟

نظرت للنافذة على يمينها.. وتنهدت

– أكيد

بدلا من أن يهدأ شعر بالتوتر أكثر وهي تبدو مستسلمة تماما كما لو أنها تود التخلص منه بأي شكل

– طبعا لن أستطيع الحضور بسبب العمل لكن السائق سيوصلك للمحطة وسينتظرك في الموعد

نظرت للسقف وتنهدت بصوت أكثر ارتفاعا

– طيب

كانت قد ارتدت عباءة سوداء لتقطع عليه أي طريق للاعتراض على مظهرها وأخذت الأشياء الضرورية فقط كي لا يغضب بسبب الحقيبة الكبيرة ويتهمها بأنها تنوي قضاء وقتا اطول مع أسرتها

وقفت مثل تلميذة تنتظر جرس الانصراف وهو مستمر في إلقاء التعليمات كما لو كان يود أن يضيع عليها موعد القطار

حين صمت أخيرا وأفسح لها الطريق نحو الباب سمعت صوت أمه ..ذلك الصوت الحاد الرفيع الذي لا تحبه ولا تسمعه إلا قبل أو بعد مصيبة ما

– إيه الشنطة اللي ف ايدك دي !! يقولوا علينا ايه

ثم دخلت حجرتها وعادت بحقيبة يد بيضاء عتيقة ناولتها إياها : خدي ..دي جلد طبيعي مستورد عمرك ما تحلمي بيها.

تناولتها بصمت ووضعت فيها تذكرة القطار التي ظلت تمسكها بين أصابعها بقوة كجندي يحمل سلاحه الوحيد ,وأسرعت نحو الباب قبل أن تسمع المزيد من التعليقات.

كان السائق ينتظرها ..ألقت عليه تحية سريعة وأغلقت الباب بعنف ..أسندت رأسها وأغلقت عينيها محاولة السيطرة على كل هذا البكاء الذي ينتظر الفرصة لينفجر.

خمس سنوات في سجن ..كل تصرفاتها تحت المراقبة ولا شيء تفعله مقبول أبدا حتى أنها في الفترة الأخيرة قررت ألا تفعل أي شيء ربما وجدت بعض الراحة..

في السنة الأولى كان أقل عنفا ..بل الحقيقة يمكن أن تقول أنه كان رقيقا معها..عندما مرت الشهور ولم تظهر أي إشارة لأنها سوف تصبح أما بدأت تقلق ..وزادت أمها من قلقها بأسئلتها المستمرة.

هو لم يسأل , والعجيب أن أمه التي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة لم تسأل أيضا…أحيانا تحس كما لو كان بينهما سر لا تعرفه.

هي لم تجرؤ على السؤال ولا على مجرد التلميح للذهاب للطبيب لأنه كان يتحول لكائن مفترس إذا أحس بانها تحاول مجرد محاولة الاقتراب من الموضوع ..

منذ أيام جاءتها مكالمة أمها من البلد , اعتادوا ألا يحدثونها إلا أثناء وجوده في العمل لكن هذه المرة اتصلت أمها وهو موجود مما أثار دهشتها ..أبلغتها باختصار بموعد زفاف شقيقتها الصغرى وطلبت محادثة زوجها لتدعوه للفرح .

بالطبع اعتذر عن الذهاب ولكنه لم يجد مفرا من السماح لها بالذهاب ..

آخر مرة زارتهم في البلد كانت منذ ثلاث سنوات تقريبا , في عزاء خالها ..يا الله كم تحن للبيت ..لغرفتها القديمة وأشيائها

للبيت رائحة تستطيع تمييزها من مسافة ميل ..مزيج من رائحة الخبز الطازج والنعناع الأخضر والبخور ..

انتبهت على توقف السيارة والسائق يفتح لها الباب , أراد مرافقتها حتى رصيف القطار لكنها شكرته بابتسامة قائلة أن الحقيبة خفيفة والأمر لا يحتاج ..بدا مترددا فالأوامر كانت واضحة , ألا يتركها إلا وقد تحرك القطار وهي بداخله ..أخرجت بعض النقود

– لابد أنك لم تتناول إفطارك بعد , لا تقلق لن أخبره

انصرف أخيرا وخطت هي داخل المحطة وكأنها ترى الحياة لأول مرة

ياااه ..من أين أتى كل هؤلاء الناس ! وكيف يمشون ويتحركون ويأكلون ويتعاركون هكذا ببساطة…

شعرت بنفسها أكثر خفة وبقدميها كأنهما تتحركان في الهواء ..أمامها يومان من الحياة , وربما لا تعود إلى هنا أبدا ..ستتصل بعمها وتستطيع أن تطلب منه التدخل في الأمر , ومادامت لن تطلب منه نقودا فاحتمال كبير أن يوافق..

وحتى إذا خانتها شجاعتها كالمعتاد ..هي لا تريد أن تفكر في أي شيء الآن ..فقط أمامها يومان من الحرية …يومان من الحياة.

انتبهت للحقيبة البيضاء ذات الجلد المتجعد في يدها , رأتها وكأنها تشبه وجه حماتها , وبدت كما لو كانت تحدق فيها بلؤم ..

حاولت طرد الأفكار السيئة والحفاظ على بهجتها المؤقتة ..

انتبهت على صوت القطار, قفزت واحتلت مكانها بجوار النافذة في ثوان.. حين بدأ القطار يتحرك أخرجت رأسهامن النافذة قليلا تستشعر هبات الهواء.. أمسكت الحقيبة البيضاء الأنيقة قبل أن تفلتها من بين أصابعها بخفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى