سهى زكي - روح البنت

اليوم أمر أمامه أنظر لصفرة البيت الذي سكنته صغيرة ، أرى دموعه المتساقطة على الجدارن الخارجية ، تماسك رغم ما تعرض له مـن إهانات بالغة ، حاصرته المنطقة بكل أنواع القمامة وتفاعلت حتى احترقت داخل أحشائه، لكنــه تحملها ، رغما عني يلمع دمعي فكلما رأيته أجده لا يقوى على الدفاع عن نفسه أخيرا جاء له أحد فاعلي الخير قرر أن ينفض عنه حمله القذر وأفرغ القمامة من أحشائه وأطفأ حرائقه ،وهنا ظهرت حقيقته من الداخل ، جديد تماما وواسع ... كل الغرف تحمل ذكرى خطـواتـنا الصغيرة ، كنا نلهو في الفناء مع حيواناتنا الصغيرة والباب الحديدي الكبير جدا على طولي في ذاك الوقت مغلق دائما ، ورغم أتساع الغرف والصالة والفناء إلا أن أمي شعرت باختناق في المكان الذي كان يسع كل أحلامنا ، رضع فيه أخي الأكبر ولدُت أنا وأخي الأصغر فصبغ علينا روح الأرواح الهائمة فيها فتشكل كل منا بروح الروح المناسبة له وبعد اتخاذ القرار بالرحيل عنه تركنا أشياء صغيرة هامة جدا ، ذلك لأن المكان الجديد الذي انتقلنا إليه لم يكن بوسع القديم ..

هل تعلمون أن هذه الأشياء الصغيرة هي الأخرى حملت معها أرواح البيت القديم هذا...لم يسكنه بعـدنا إلا القاذورات والأرواح وعندما ذهبت تلك الفتاة لتسكن فيه ولم تطـل ، عانت معاناة جميلة مع أرواحنا الصديقة التي تركناها لنحاول اكتشاف أصحابها لأننا كنا صغارا وكانت أمي تهتم أكثر بتربية الفراخ وفقس البيض والزرع ، نحن فقط الذين شعرنا بوجود الأرواح في المكان ولم نتكلم خوفا من اتهامنا بالخوف والخيال الجامح وما علمته بعد ذلك أن تلك الفتاة حدث معها ما كنت أتمنى أن يحدث معي ، لقد قابلتها الروح التي سكنتني ورغم اعتقادها التام بعدم وجود الأرواح وسكناها للأماكن ؟ إلا أن ما جذبها في هذا المكان ذاك الصفار البادي على حجارته ووجوده أمام كنيسة باهتة اللون أيضا فأصرت على أن تكون من ساكنيه الذين مر علي أخرهم ما يقرب من 27 عاما ومنذ وضعت قدمها شعرت أنها ليست وحدها ، بل تكاد من هول خيالها أن تسمع أصواتا تتحدث معها وتقنع نفسها أنها خيالات ولأنها ممن لا يترقبون أحداثا تخيفهم فلم تشعـر بالخوف بسهولة ، لكن تلك الروح أصرت أن تشعرها بوجودها ،تتحرك في المكان بحريتها تماما ، تفتح النوافذ أو الأنوار أو حتى تحرك البراويز وتضعها في أماكن مناسبة جدا ... لقد غيرت هي مواضع البراويز التي تركناها في المكان فأعادتها لوضعها ، بدأت تحدث الأصدقاء عما تشعر به ، كان جوابهم " عندما تنامين أحكمي غطاءك عليك ولا تثقلي في الطعام " لكنها لم تهتم وبدأت تعيش في المكان أكثر من الخروج الذي تهواه فهي دائما تكره الجدار ... أحبت وجود هذا الكائن الآخر الذي أخذ يداعبها طول الوقت بأن يترك لها زهورا لها عطر غريب محبب في أركان المكان؟!

كلما حاولت استدعاءه لتتعرف عليه وأخذت استعداداتها الروحانية بإظلام المكان وإضاءة شمعة وحيدة وإشعال بخور ثم تجلس متأملة منتظرة قدومه تفاجأ دائما بمن يقطع عليها اتصالها فتهرب منها الروح ... ... تتحدث لورقتها الملقاة على أرض مشققة ...

نزلت تحت الأرض تحاول ترميم الشقوق وإحاطتها بأسوار حديدية و دق مسامير معدنية محاولة أن وأن .... أرهقتها محاولاتها ... استسلمت لمقعدها الجلدي ، نامت ، استيقظت بعـد طول حلم علي هذه العين المترقبة لها وهي نائمة ... تبحث عنها فهي لم تراع لها حسابات في الخوف ، انتظار أخـر نظرت لورودها الذابلة المعلقة في الأركان لفلفت جسدها علي الأرض المشققة بفعل الزمن على صوت موسيقى جنائزية أتت من جدار المكان وهي تضحك ضحكة هستيرية من القلب أمسكت الورود الذابلة في الأركان وبذرتها في الشقوق معتقدة في نموها من جديد أخذت ترويها بنظراتها الخائفة من الوحدة الجديدة في وجود كائن مختف في أرجاء المكان القديم هذا ، مقتنعة هي أن ورودها ليست لها وانما هي ضيوف عليها ويجب عليها أن تحسن استضافتها بأن ترعاها في الشقوق ... تهشمت بعض زجاجات الزهور العتيقة فصنعت بقطعها المتناثرة بعض الحروف التي لا معنى لها ، وإذا بها تسمع صوتا له شجن يجيبها " نعم " تنظر حولها من أنت ؟!

أنا من كتبت أسمه ببلوراتي المكسورة تلك المهداة من حبيبتـي

لكن ماذا تريد مني وماذا تفعل في هذا البيت ؟!

هل ترين تلك اللوحات إنها لي وإمضائي عليها ؟

أخرجي باقي اللوحات المختزنة فوق المطبخ وهذا الكتاب الأصفر وبعض الأشياء الأخرى وأرسليهم لحبيبتي واكتبي لها خطابا قولي لها أنني لا أستطيع أن أترك المكان الذي قتلتني فيه ! تنتبه له ! حبيبتك قتلتك ؟!

أصرت على البعد ، ذهبت هناك...

أنت لم تخبرني أين العنوان ؟

إنها في أحدى الأديرة في بلدة بعيدة ... لم تشأ أن تعيش معي هجلاتني فاختارت لها حياة أبدية فهي لن تستطيع العيش مع غيري ... كنا نتلاشي من العشق...عشت على روحها الهائمة بالمكان أستنشق زي الراهبات الذي ستجدينه مع الاشياء الأخرى وظللت أرسم لها وأرسم حتى قتلتني الوحدة هنا فهي لم تشأ الغربة !

كنت أنام ساكنا في هدوء وهي مستكينة خاشعة في ديرها ،لكنها دائما ما كانت تبعث لي

بروحها فتقيمني من مكاني ونتقابل أنا وهي هنا في البيت الذي شهد أيامنا ؟ أتى الكثيرون للبيت لكننا لم نشأ أن نطلعهم على الأمر وكنا نجتهد في إخفاء أشيائنا ، صمت ، نادت عليه ، أين أنت ؟ سكن تماماً …

مرت أيام وأيام … جاءت لي تروي لي ما حدث وأنها تنتظر عودته أو حتى عودة تحركاته فقط داخل المنزل ، لم يعد أبدا … ففعلت مثلما أوصاها ، أخذت الأشياء وذهبت بها إلى دير قريب دفنتهم وقفت تنظر في أرجاء الدير وكأنها تنتظر قدوم روحه لمشاركتها .

عادت للبيت ، رائحة طيبه .. تملؤه ، صوت العصافير الواقفة على أركان الشباك جعلها تبتهج ، علقت لوحته الأخيرة وودعت البيت الذي عادت له ضجته مستمتعة باستماعها وهي تختفي بخطواتها بعيدا .. بعيدا ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى