سامي عبد العال - الفيرُوسات وإدارة الحياة

يعدُّ تاريخ الفيروسات جديراً بالبحث والتقصي، ولا سيما أنَّه قد أحدَثَ تحولاً في مسارات الحياة سلباً وإيجاباً نحو الأزمنة الراهنة. ويَجْدُر أنْ يُطْرح تاريخُها الكونِي مرتبطاً بقضايا فلسفية وثقافية تخص الحقيقة وتنوع الرؤى البيولوجية للعالم والكائنات. إذ هناك علاقة ضرورية بين انتشار الفيروسات ومفاهيم الحياة والتحْضُر وخطورة العلاقة بالآخرين. والأمراض تجدد المسألة في كل مرةٍ على نحو عاجل، لدرجة أننا معنيون بالتفكير الجذري إزاء وجود أي فيروس على نطاقٍ عام. فطالما أنَّه لا يخُصني مفرداً بقدر ما يخص الإنسانية، فسيكون رَّدُ الفعلِ على المستوى ذاته من العمومية.

ربما كانت أولُّ بذور الثقافات البشرية هي إدارة الحياة، بل إذا طرحنا تعريفاً بسيطاً ومركباً للثقافة، فهو(أنَّها فنُ إدارة الحياة، إدارة نمط العيش وطقوسه) art of life management. وقد لا يكون ذلك بالمعنى المعاصر للإدارة حرفياً وهذا لا يمنع من تطوير مفاهيم الحياة، لكنه بمعناها العمق المرتبط بحفريات التعامل مع الطبيعة ودقائق الأشياء( كما يؤكد روسو العودة إلى الطبيعة الأم). ولذلك بمقتضى الأحوال المتعاقبة، تطورت فنون إدارة الحياة تبعاً لاختلاف أنماط الإقامة، أي عبر تباين السُكنى في العالم(بعبارة مارتن هيدجر) وكذلك بتحولات المجتمعات وتطور المعارف وأدوات التواصل.

وليس أدلُ على ذلك من أنَّ الفيروسات تُوجد بيولوجياً كمعطى ثقافي بصدد كيفية العيش وتقنيات النظافة والبيئة. هكذا اسهمت الكائنات الدقيقة في انتاج تصورات الغذاء والقوة الجسمية والترحال والزمن والصحة العمومية. لتترتب على ذلك أخلاقيات التعامل مع الجسد والأشياء، وبأية معانٍ تحدث الأخطار غير المرئية. وخاصةً أنَّ حروب الأساطير والجماعات كانت تتزامن مع حروب الفيروسات التي وقع في وسطها الإنسان بالتوازي. فالموت المفاجئ الذي حدثَ لجماعات بشرية قديماً نتيجة الأوبئة كان مجهول المصدر حينذاك، وفي وقته ربما تضافرت السياسات مع الأساطير في ربط الموت بالحياة لتكملة سناريو الأحداث. ولم توجد تفسيرات علمية ولا فلسفية لمعرفة أبعاد هذه الظواهر الغامضة.

كانت الديانات تدرج الموت وتفشي الأمراض داخل دائرة المقدس. ولم يكن ثمة إطار معرفي كاشف دون أنْ يمر بهذه الخلفية اللاهوتية. وفلسفياً لم تظهر دلالة الفيروسات إلاَّ عرضَّاً مع اكتشافات العلوم الحديثة والمعاصرة حول العالم دون المجهري microscopic الذي يؤسس للعالم الكبير( الأشياء والمواد كبيرة الحجم)macroscopic، وكانت الفيزياء الذرية أحد أطراف بادرة الاهتمام بتحولاته وقوانينه.

ومع البيولوجيا كانت ثمة دراسات معمقة حول طبيعة الفيروسات في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، حين استخدم عالم الأحياء الروسي ديميتري ايفانوفسكي Dmitri Ivanovsky عام 1892أحد المرشحات ذات المسمات الدقيقة لمعرفة البكتيريا، وقد أثبت وجود هذه الكائنات المتناهية الصغر من تجربته البسيطة. ثم تأكدت الفكرة مع العالم الهولندي مارتينيوس بيجيرنيك Martinus Beijerinck حين اعتبر أنَّ عصارة نبات التبغ المصابة معدية للنباتات السليمة رغم تصفية هذه العصارة. هذا معناه وجود عدوى تحملها كائنات خفية تترك آثارها على الأشياء والنباتات دون أن تُرى( وقد أطلق عليها الفيروسات).

ليست الفيروسات مرئيةً بالعين المجردة، لكنها تتيح عادةً رؤيةَ الأعراض والأمراض الناتجة عنها. فالمرض العمومي يخص أي إنسان حتى لو كان بعيداً عنه. والإحساس العمومي نفسه تجاه الأمراض ولَّد مفاهيم الدولة والحياة الاجتماعية والرأي العام. والأمر المُرعب أنّ المرض الفيروسي لا حدود له من حيث الإمكانية والنتائج، ذلك أنَّه يسري بقدرات الإنسان أينما وُجد.

قديماً لم يكن المرض يحمل هذا الخطر المحدِق، نظراً لعدم اتصال الإنسان بالآخرين على نطاقٍ واسع. كانت الفيروسات تكتفي بما هو مُتاح من أجسامٍ حتى وإنْ افنتها أو نالت من بعضها. والإنسان لم يكُّن إلاَّ حبيساً لحركة المكان والزمان. وبالتالي ستكون "طوبوغرافيا الفيروسات" هي الخريطة الحية لفاعلية الأمراض ودلالتها بالنسبة لذهنية المجتمعات وأجسامها الحية.

ولقد رُسمت خرائط متعددة لشكل الفيروسات وبخاصة كورونا وكيف يشابه الكرة المليئة بالإبر والأشواك اللاصقة والتي تكشف أنه حينما يلتصق بالأسطح والأجسام والجهاز التنفسي لا يترك ضحاياه بسهولةٍ. والشكل والفاعلية التي يعمل بها فيروس كورونا جعلت المتابعين يتصورون كونه فيروساً مصنّعاً على هيئة أفلام هوليوود( وهذا احتمال قائم في ضوء تقارير صينية تتهم الجيش الأمريكي). كما أنه يستدعي بالمقابل طوبوغرافيا( تضاريس وتفاصيل وخطوط وأشكال) الثقافة والتصورات الجارية حول الأمراض والأجسام ومكانة الإنسان وحقوقه. وأخذ يظهر كيف يتم التعامل معه من مجتمع لآخر. لأن العالم بدأ يتمايز ثقافياً مع وجود الفيروس ومقاومته بحسب التطور الفكري والسياسي الذي يتمتع به أو قد لا يُشعر به بالوقت نفسه.

فلسفياً تثير هذه الفكرة عدةَ أسئلةٍ: ما وجه الخطر في كورونا كمرضٍ هو نحن في حالة مرضنا؟! بأي معنى تهدد الفيروسات الإنسانية؟ ولماذا تمارس هذا التخويف فيما يخص الجسد كحياة؟! كيف يعكس كورونا نظرتنا السياسية الراهنة حول أجسامنا؟!

أولاً: جاء الجسد(المصاب) من فضاء تواصلي قابل للتجاوز إلى وسيط عدوى، واصبح خطراً على الأجساد الأخرى. لدرجة أن الحياة تتحول فجأة إلى دائرة من الأجسام التي تترقب بعضها البعض. لقد تم حظر التجوُل في المدن الإيطالية خوفاً من انشار كورونا. واصبح الجسد هو العلاقة الفيروسية الأولى بجانب كونها علامة ومرآة ودلالة وتعبيراً عن إدارة الحياة.

ثانياً: ما يهددنا في الجسد هو كوننا نسيجاً واحداً( الإنسان هو الإنسان). المفارقة أنَّ نقطة الالتقاء هي نقطة العدوى، والعزل المحتمل للمرضى اعتراف بما نكونه من تقارب كذلك. وهذا يفسر تاريخ العلاقات الحسية بين البشر. فلو كانت الأجسام مجرد مظهر عابر لما كانت لها تلكم الأهمية في كل الأحوال. في الصين كانت السلطات المحلية تصطاد الأجسام المصابة كما لو كانت تصطاد الفيروسات الطائرة، بطريقة العزل والحجر الصحي.

ثالثاً: لا يأتي الرعب من كورونا إلاَّ بفهم وضعية الإنسان الآخر، وبخاصة إذا كان مريضاً. وهو الصورة الممتدة لوجودنا الغُفل، لوجودنا التلقائي. أي أننا نظل في حالة طمأنينة الحياة كلما اتفق، على نحو تلقائي وبشكل يومي انسيابي. لكننا حينما نشعر بموت الآخرين، فإننا نرسِّب شعوراً كهذا على هيئة "خوف من" أو "خوف على". "خوف من" الآخر داخلنا الذي ينادينا تمسكاً بالحياة وأحيانا يأخذ مكانه من وجودنا كأننا نخشى ملامسته ومعايشته. و"الخوف على" نابع من وجود سياسات الدول التي تعتني بالمواطنين في أطار حقوق الإنسان.

رابعاً: الفيروسات كشفت بنية المجتمعات، فهناك من اعتبر كورونا مجرد مرض لا يتطلب هذا الخوف الهستيري، وهو مجتمعات لا تقيم وزناً للإنسان ولا لمكانته في التاريخ والزمن لأنها كانت مجتمعات تقوم بالأساس على سلطة تحتقر مواطنيها. وأنَّ اقتصادها المهترئ أولى العناية من رعايتهم وتكلفة العناية بالصحة العمومية تقع بالنسبة إليها في مرتبة أدنى من أي شيء آخر. وتلك المجتمعات - ويدخل فيهال الدول الشرقية والعربية - دول أخطر من الفيروسات على الإنسانية لا على مواطنيها فقط. فلا تعتبر الإنسان ثروة وجودية يجب الحفاظ عليها ولا هو إمكانية إبداعية قابل للتطور والنمو، لكنه رقم ثقيل الوطأة على عقارب الساعة السكانية وأنَّه عبء سياسي يعصف به مرض فلا يهم أو يقتله جوع وجهل فلا يهم بالمثل.

بجانب ذلك هناك دول تهتم بمواطنيها في المقام الأول، بل تعلن بوضوح أنَّ السلطة وظيفتها حماية المواطنين من أيَّة أوبئة لها طابع عمومي وأية أوبئة تؤثر على الإيقاع الاجتماعي السياسي. وهي دول لها تراث يخص قدرة الإنسان على صناعة الحياة. هي دول حية بالمعنى الإنساني للكلمة وتشعر بالثروات البشرية التنموية التي توجد لديها.

خامساً: السلطات المستبدة مثل الفيروس تتعامل مع المواطنين باعتبارهم وسيطاً لوجودها ليس أكثر. وأن عليهم الخنوع لنظامها الوبائي الذي لا يقل خطورةً عن وباء كورونا. سلطة الاستبداد قاتلة كما الفيروسات لا تبقي ولا تذر. وهي لا تعتني بالإنسان لكونها لا تحتاج إليه إلاَّ في إطار ما يشغل ساحتها ويجعل الآخرين طائعين لها. كما تحرص السلطة على نشر عدواها، مورثاتها اينما حلت. لقد حولت السلطة فيروس كورونا إلى درجة من درجات القبضة السياسية. وحاولت ملاحقة ضحاياه وإخفاء أثاره وانتشاره مع التكتم الشديد على وجوده من عدمه كما في بعض الدول العربية.

سادساً: العلاقة بارزة بين إدارة الحياة ومكافحة الفيروسات. فقد قيل إن العادات الغذائية السيئة لدى الصينيين هي سبب ظهور كورونا. لكن المجتمعات التي لا تجيد إدارة الحياة العمومية لن تكون إلاَّ بيئة خصبة لانتشار الفيروس. وإدارة الحياة تنتج عن خبرة عميقة بالثقافة الإنسانية العاملة على تأكيد وجود الإنسان وقدراته. ولذلك سرعان ما تخفق المجتمعات والدول في ترويض الفيروسات من حيث فشلها في إدارة الحياة.

وبهذا ترسخ الأنظمة القمعية فوضى الحياة لا إدارتها، ذلك حتى تستطيع التحكم في أفرادها. وإدارة الحياة تحتاج دوماً مساحة الحريات التي تصل بالبشر إلى مرحلة الإنسانية. وهذا مغزاه أن الاستبداد هو حضيض البشرية الأول والأخير، إنه يرسخ العبودية القميئة التي تجعل الإذلال جزءاً من حياة الشعوب ويشكل وعياً مقيتاً لن يفلت منه إلاَّ الأحرار.

سابعاً: يعكس فيروس كورونا درجة التحضر الإنساني للمجتمعات، فالصينيون تعاملوا معه بشكل إجرائي وبيئي واسع، واعلنوا مؤخراً تقلص رقعة انتشار المرض. وسريعاً تفهم الناس ما معنى الإصابات وكيفية الوقاية منه. وهذا بخلاف الدول العربية التي أحيت النعرات بين الشعوب وبدأ تصنيف المصابين بين المقيم والوطني. ورمت الخطابات الاعلامية باتجاه أنَّ المصابين جميعهم وافدون( سواء أكانوا عاملين أم زائرين)، بينما أهل البلاد هم أهل الصحة والمناعة والرعاية. في تمييز ساخر واضح بوجود تصنيف مرضي بين الوافدين وأبناء البلد، وكأن الفيروسات تفصل بين هؤلاء وأولئك!!

الحاصل إذن أنَّ الفيروسات وبخاصة كورونا جددت أهمية العلاقة الحميمة بالحياة، وأنَّ فقدانها أمرٌ سهل، لكنه قد يكون أصعب الأحوال إذا أخذناها على محمل الجد. الحياة جديرة بالأهمية التي توضع فيها، لأنَّها تمثل كياننا الإنساني الذي ترك هذا التاريخ المذهل (تاريخ الثقافات البشرية). ولاسيما من حيث كونِّها كلية الطابع، تخص أي إنسان كظاهرة هو فيها بشكل أو بآخر.

والفلسفة مدعُوَّة لتقديم رؤى عامة حول الحياة وتطوراتها وجوانبها الخصبة، هي تشرع لنا أنماط التخلق بأخلاقيات البيئة تجاه الأشياء والكائنات. ولو كانت الفيروسات وليدة تعامل سيء مع الغذاء أو نتيجة حروب بيولوجية، فالفلسفة تصوغ رؤى إنسانية للحياة تبرز مواقع الرعاية منها وأهمية الحفاظ عليها، وفي حالة الحروب تعري الفلسفة أية نزعات عدوانية تتخفى في تقنيات بيولوجية قاتلة. إنَّ الفلسفة تُحذر من جذور العدوى الوبائية التي تلتهم كيان الإنسان، فكل عدوى ناتجة عن أفكار شائعة تترجّم إلى إدارة مشوهة لطبيعة الحياة وقدراتها.

إنَّ مفهوم إدارة الحياة مفهوم إنساني بالدرجة الأولى، يجعل الإدارة تاريخياً ثلاثية الابعاد: رعايةً وقبولاً وإبداعاً... فالحياة تحتاج رعايةً فائقة ولائقة بقوانينها وتحولاتها بما يحقق أهدافنا الإنسانية. وكذلك تفترض قبولاً كما هي متجلية في كافة التفاصيل، فالحياة هي الظاهرة الوحيدة تقريباً التي تبدو دائماً كما هي as it is، علتُّها كامنة في جوهرها لدرجة الكفاية الذاتية. كما أنَّ إدارتَّها من تلك الجهة لا تحتمل نقضها وإلاَّ لانهارت تماماً. وأيُّ تدخل بشري بقوانين وآليات وأدوات تتعارض معها، سرعان ما يأتي بالوبال على الإنسانية لا على الأفراد فقط. إنَّ انتشار كورونا المُرعب جاءَ من تلك الزاوية، وبات يهدد كوكب البشر كل البشر دون استثناء. ومن زاوية الإبداع، ليس هناك ما هو أكثر تلقائية وإدهاشاً من الحياة ذاتها، فهي متجددة بغريزتها الأعمق داخلنا، وهي باستمرار تقنعنا بما تفعل، وتنتج ما تريد على نحو مختلفٍ. كأنَّها مستقلة من خلالنا سائرةً وفقاً لمعطياتها الداخلية ليس أكثر. وحتى لو تماثلت فهي تُبدع وجودها في كل مرةٍ بخلاف الأخرى، دوماً ليست التفاصيل في الحياة واحدةً، لكن الكل مؤتلف على نحوٍ مُذهلٍّ.

وهذا هو مصدر القول بأنَّ صحة الإنسانية health of humanity- لو أُجيز التجريد- ستولِّد رؤى موازية تدعم قوتها على مجابهة المخاطر. وإذا كانت الأمراض التي تترصدها تظهر كم تغدو إنسانيتنا البيولوجية هشةً، فإنَّ إنسانيتنا العقلانية القادرة على المقاومة والإبداع والتساؤل تظل صامدةً. وهي حالات استثنائية( فائقة) تقفز بمقدمة المشاهد الواردة من كل مكان في العالم على خلفيات كورونا. هناك الروح الإنساني المتوثب في التمسك بالحياة حتى الرمق الأخير، وأنَّ الثقافات باختلافها ليست ثقافات موت، لكنها تتفنن في إثراء الحياة. والهشاشة لديها قدرة فذة على إظهار التضامن والتلاقي حولها رغم أنَّهما حسياً غير موجودين (التضامن والتلاقي) بالظاهر.

ولذلك فرغم موت الأفراد، إلا أنهم يظلون ضحايا متناثرين خطفهم الفيروس على حين غفلةٍ، بينما تقوى أواصر الإنسانية إلى درجة الإدهاش تدريجياً. تشعر بالقوة على بث روحها المتجدد رغم التعثر مع هذا المرض أو ذاك. والمقاومة في شكل أعمال الأطباء والعلماء والساسة هي تجسيد لأمل داخل كل إنسان آخر. بل تدْعُونا الأوضاع إلى زيادة رقعته، إلى البناء عليه، إلى فهم المستقبل. هناك من أشار إلى انتظار فقدان الأحباء وفراقهم نتيجة انتشار كورونا، لكن الحب بعمومه مازال موجوداً، وسيواصل إمدادنا بالأمل وتحويله إلى إرادة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى