محمد فري - (....) مقطع من رواية

من ربع قرن تدريسا..
المواجهة الأولى

1
لم أكن أتوقع أنني سأتوجه مرة أخرى إلى باب مؤسسة البنات الثانوية حاملا معي ورقة تعييني أستاذا بالسلك الثاني لمادة اللغة العربية، كنت في حوالي الثانية والعشرين، حديث التخرج من كلية الآداب بفاس، ومن المدرسة العليا للأساتذة بالرباط. تذكرت المرة الأولى التي وقفت فيها أمام باب هذه المؤسسة، منتظرا تلميذتين كنت قد تعرفت عليهما وأنا طالب بكلية الآداب بالرباط ، شعبة التاريخ والجغرافية، قبل انتقالي إلى شعبة الآداب بفاس في السنة الموالية، استرجعت كيف اعترضتني التلميذتان وطلبتا مني دون سابق معرفة أن أساعدهما على كتابة موضوع إنشائي حول رسالة الغفران التي كانت مقررة آنذاك بمادة دراسة المؤلفات، تذكرت إحساسي بالاعتزاز المشوب ببعض النرجسية وأنا أتلقى طلبا من تلميذتين تدرسان بالبكالوريا آنذاك، وسرعة استجابتي لطلبهما على الفور، رغم الخجل الذي كان يربكني وأنا أعدهما بتهيئ الموضوع وإحضاره إليهما بباب مؤسستهما في يوم لاحق. شعرت آنذاك أنني أستاذ قبل الأوان، يمكن الاعتماد عليه في المواقف الصعبة، ويستطيع حل الأمور المستعصية على بعض الآخرين.
تذكرت كل ذلك وأنا ألج باب المؤسسة ذا القضبان الحديدية الغليظة، وأجتاز ممرا يفصل حديقة صغيرة توسطتها شجرة توت كبيرة. ولجت بابا حديديا آخر مصبوغا بالأبيض، ووجدتني أقف في ردهة الإدارة التي كانت على شكل ساحة صغيرة، وشعرت بالحاجة إلى من يدلني على مكتب المديرة، ظننت أنها الشخص الوحيد الذي يليق باستقبالي والترحيب بي باعتبارها رئيسة المؤسسة، وأنني لست بحاجة في مثل هذه اللحظة إلى ناظرة أوحارسة عامة، كيف لا وأنا أحمل أخيرا لقب أستاذ محترم. كنت أشعر أن المؤسسة تنتظرني، وخيل إلي أنني سأحل أزمة مجموعة من التلميذات ينتظرن أستاذا هن في أمس الحاجة إليه، وأن المؤسسة متوقفة على خدمات أمثالي. شعرت بضربات قلبي تتسارع وأنا أهيم في مثل هذه الخواطر، ولم أستفق من عالمي المبهم والساحر هذا إلا على صوت أجش يسألني عن الغاية من تواجدي بهذا المكان، شعرت من لهجة السؤال أنني شخص غير مرغوب فيه، وأنني مثار شبهات في مكان مخصص للبنات، استدرت إلى اتجاه الصوت، فإذا برجل أمامي في حوالي الخمسين، أبيض الشعر، متوسط القامة، نحيف البنية، دقيق الملامح، أنيق المظهر، تخيلته ناظرا أو حارسا عاما قبل أن أعرف فيما بعد أنه عون بالمؤسسة. تأخرت في الرد، فأعاد علي السؤال بنوع من الإلحاح، شعرت أن سؤاله يخفي بعض التشكك وسوء النية، الأمر الذي أثارني بعض الشئ، ألم يكن من اللائق أن يرحب بي أولا، ويبادرني بتحية تليق بمكانتي كأستاذ يفرض احترامه؟ ماذا اعتقد أنني أكون؟ هل اعتبرني مراهقا يبحث عن المعاكسة؟ ألم تساعده هيأتي على إدراك مكانتي؟ أم كان شكلي يدل فعلا على أنني مراهق صغير؟ قصدت معاكسته فدفعت له بورقة تعييني دون أن أجيبه.
- ماهذا؟
قالها ببرود تام عكس نوعا من اللامبالاة أو عدم الفهم، كنت أظن أن التعيين سيثير اهتمامه ويغير من لامبالاته، وأحسست بالاستفزاز وأنا أضطر إلى الرد والشرح.
- أنا أستاذ جديد..وهذه ورقة تعييني
قلتها أيضا بنوع من البرود والحزم..وكنت موقنا أنه سيعتذر لي ويصحبني إلى مكتب المديرة، لكنني كدت أصعق عندما لم يحرك ساكنا..وبدا لي أن الأمر لايهمه، بل اكتفى بتحريك رأسه وكأنه يشكك في أقوالي، وأمرني بالانتظار والجلوس على كرسي خشبي طويل لونه أصفر، متواجد بجانب الممر قرب الباب الحديدي. شعرت بالاحتقار، وبأنفاسي تتسارع، وبالغضب يتصاعد إلى رأسي..الم يكن من الواجب على هذا الثقيل، أو من اللائق على الأقل أن يأخدني إلى حجرة الأساتذة، هل أكبر علي الجلوس والانتظار في هذا المكان؟ أم أكبر علي أن أكون أستاذا؟!! استسلمت على مضض، وجلست على الكرسي الخشبي وأنا أكتم غيظي ...وغاب الثقيل عني لحظة ليعود مهرولا ويطلب مني بنوع من الليونة المفاجئة، مرافقته إلى مكتب السيدة المديرة.
كانت امرأة في سن الكهولة، ذات بشرة سمراء، وعينين زرقاوين تطلان من وراء نظارة طبية سميكة، تتميز بأناقتها وقوة مظهرها، ويظهر عليها الحزم والصرامة، لاأتذكر أنها طلبت مني الجلوس، وإنما اكتفت بتحية مقتضبة يستدعيها الموقف، وبتبليغي أنها توصلت بنسخة من تعييني، ثم غمغمت كلاما آخر لم أتبينه في حينه، وسلمتني استعمال الزمن طالبة مني مباشرة العمل في أقرب وقت ممكن لأن التلميذات ينتظرن استئناف الدراسة بعد انتقال أستاذهن السابق إلى العمل حارسا عاما بمؤسسة أخرى، وبذلك انتهت مقابلتي الأولى مع رئيسة المؤسسة، وقد تركت في ذهني انطباعا يرى أن جفافها وحزمها الزائدين هما ربما من خصائص رؤساء المؤسسات التعليمية، وخصوصا تلك التي تقتصر على الإناث.
تفرست في استعمال الزمن وأنا خارج من مكتب المديرة، لأتعرف على الأقسام التي سأعمل بها، وفوجئت بأنها أقسام للسلك الأول، فتذكرت غمغمة المديرة، وفهمت أنها كانت توضح لي في اقتضاب أنها ليست بحاجة إلى أستاذ للسلك الثاني، بل إلى أستاذ للسلك الأول يحل محل أستاذ آخر انتقل من المؤسسة. شعرت بنوع من التضايق حاولت إخفاءه مقنعا نفسي بأهمية العمل بالسلك الأول، خصوصا فيما يتعلق بالاحتكاك بمادة قواعد اللغة والصرف، وأن على أستاذ اللغة العربية أن يمارس العمل بجميع المستويات حتى تتسع تجربته ويقوى مراسه، وقبل أن أغادر المؤسسة فكرت في أهمية التعرف مسبقا على مكان القاعات التي سأعمل بها، والتي كانت أرقامها مسجلة في استعمال الزمن، حتى لا أضيع وقتا في أثناء مباشرتي للعمل. كان دافعي في الحقيقة إلى ذلك هو خجلي الشديد وتهيبي من موقف مواجهة تلميذات لأول مرة في حياتي، واعتقدت أن تعرفي على الأقسام مسبقا سيقلل من ارتباكي لأنني سأتوجه إليها فورا وبدون تردد. دلفت إلى ساحة المؤسسة، وكانت فارغة من التلميذات لأنهن كن آنذاك بأقسامهن، ولم أدر لماذا شعرت بارتياح داخلي لهذا الفراغ، وكأنني لم أكن مستعدا بعد للتغلب على خجلي، تقدمت خطوات داخل الساحة التي كانت تتوسطها مكاتب للحارسات العامات، واسترعى انتباهي وجود معيدتين تجلسان على كرسيين وسط الساحة، وتنعمان بأشعة شمس أكتوبر الدافئة، تقدمت إليهما وأخبرتهما بحاجتي بعد أن عرفتهما بكوني أستاذا جديدا، حملقتا في قليلا ثم أرشدتاني وهما تخفيان ابتسامة غريبة، ولم أكد ابتعد عنهما حتى انفجرتا ضاحكتين، ولم أعرف سبب ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى