ميمون أم العيد - قتلى بالآلاف.. عندما انتشر "التيفوئيد" في المغرب قبل 142 سنة

"بدأ الوباء بمراكش في نهاية 1878 وخلف بها 200 إلى 300 ضحية في اليوم، ثم اكتسح بداية السنة الجديدة مجموع البلاد مخلفا بمدنها وقراها خسائر تتفاوت درجة خطورتها بتفاوت المستوى الصحي والمعيشي للسكان. داهم الوباء فاس في فبراير 1879، ومات خلق كثير دون إحصاء، وفي تطوان يموت 8 إلى 10 أشخاص في اليوم، وكان من الصعب إحصاء كل الموتى لكثرة الآفاقين"؛ يورد الأمين البزاز في كتابه: "الأوبئة والمجاعات في المغرب في القرنين 18 و19"، نشره سنة 1992، نقلا عن وثائق ومراجع تاريخية قديمة، وهو يتحدث عن وباء التيفوئيد الذي انتشر في مدن المغرب وقراها في نهاية القرن التاسع عشر مخلفا وفيات بالآلاف.

السالمونيلا التيفية

تُعَرّف منظمة الصحة العالمية التيفوئيد بأنه "مرض تسببه بكتيريا السالمونيلا التيفية، وتحدث الإصابة به عادة عن طريق تناول طعام أو ماء ملوث. ويُسبب هذا المرض الشديد الحمى لفترة طويلة أو صداع أو غثيان أو فقدان للشهية أو إمساك أو إسهال في بعض الأحيان"، مضيفة أنه "يحدث في الغالب بسبب سوء حالة الصرف الصحي ونقص مياه الشرب النظيفة".

وقد كانت كل الشروط متوفرة لانتشاره في النصف الثاني من القرن الـ19 من جفاف وجوع وقلة نظافة، فهجم هذا المرض المعدي على المغاربة سنوات قليلة بعد وباء الكوليرا الذي سماه المغاربة وقتها "بوڭليب"، وحصد الكثير من الأرواح في مدن مغربية كثيرة.

المرجع السابق أشار إلى أن المسافرين من المتنقلين أكثر عرضة للموت من أهل البلد المستقرين بسبب حمى التيفوئيد، ذلك أن "الدراويش يموت منهم 30 إلى 40 في اليوم، وأما أهل البلاد فيموت منهم 6 إلى 4 لا غير"، فالاستقرار والتغذية والنظافة لها تأثير في تحديد عدد الضحايا كما تشير إلى ذلك الوثائق التي اعتمد عليها المرجع التاريخي سابق الذكر، الذي سجل ارتفاع عدد الموتى في كل من أزمور والجديدة والدار البيضاء والرباط وسلا وطنجة، هذه الأخيرة كان هذا الوباء يحصد فيها من 12 إلى 17 ضحية في اليوم.

القناصل والميسورون

ويورد الكتاب أن رقمين قياسيين سجلا في آسفي والصويرة حيث كان الفقر مدقعا، ففي ظرف ثلاثة أشهر قضى الوباء على 4000 شخص من سكان المدينتين. في الصويرة مات في يناير 1141 شخصا، وفي فبراير هلك 610 ضحايا، وتناقص العدد في مارس ليصل إلى 103 ضحايا.

ولم يسلم الميسورون من هذا الوباء الذي هلك الناس في تلك الفترة من تاريخ المغرب، فقد قتل الفقراء الذين هلكهم الجوع والفقر المدقع، كما خلف كذلك عددا كبيرا من الضحايا وسط التجار الأوروبيين عندما تفشى بين المستوطنين الأجانب، عكس الكوليرا الذي ظل وفيا للفئات الدنيا من المجتمع المغربي.

وأشهر من هلكه التيفوئيد الصدر الأعظم موسى بن أحمد بن مبارك، الذي قتله هذا الوباء بمراكش مطلع 1879، وهو والد الصدر الأعظم الشهير "باحماد".

وبحسب الأمين البزاز، فقد "سقط له أيضا بعض القناصل والنواب القنصليين، ففي الصويرة فتك التيفوئيد بقنصلي إيطاليا والبرتغال، وفي آسفي هلك نائب قنصل إيطاليا، وفي الجديدة قتل الوباء نائبي قنصلي البرتغال والنمسا".

الصويرة

يتعرض كتاب "الأوبئة" المشار إليه آنفا لحالة مدينة الصويرة حيث تجاوَر الحي الإسلامي والحي اليهودي وحي القصبة، موردا أن النظافة بهذه المدينة كانت مهملة، سواء بسوء تصريف المياه العادمة ومساوئ بيوت الخلاء أو بانتشار القاذورات بجوار الدور المزدحمة والمفتقرة إلى وسائل التهوية، خاصة مع نزوح قروي مهول إلى هذه المدينة من حاحا ودكالة وسوس والحوز، "فتضاعفت الأزمة بعد مجيء حشود ضخمة من القرويين الجائعين والموبوئين".

وينقل الباحث عن طبيب فرنسي وصفه لحي الملاح بأن "الغرفة الواحدة تأوي عددا كبيرا من الأفراد، وأن النفايات كانت متراكمة عند مدخل المساكن، وأن مجاري المياه الحارة كانت مكشوفة وتفوح منها رائحة النثانة التي لا تطاق".

ويضيف المصدر نفسه أن الوفيات الشهرية ظلت مستقرة في حدود 700 ضحية طيلة يوليوز، غشت وشتنبر، ثم قفزت في شهر أكتوبر، لتبلغ ذروتها مع بداية البرد في نونبر بـ 1600 قتيل، ثم انخفضت في دجنبر لتبلغ 1200 ضحية.

وقارن الباحث بين وفيات أحياء الصويرة في مختلف الأشهر وخلص إلى أن عدد الوفيات في شهر أكتوبر 1878، مثلا، كان بحي القصبة حيث يقيم العامل وكبار التجار هو 4 وفيات فقط، وفي حي الملاح حيث يقيم اليهود بلغ 46 قتيلا، فيما الحصيلة الفادحة كانت في "المدينة"، أي الحي الإسلامي، بـ 862 ضحية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى