سوزان إبراهيم - عباقرة الأدب.. مجانين في مصحات النصوص الإبداعية

المصحات العقلية فنادق يشكل المجانين نزلاءها, أما الأدباء فمجانين يفضلون الإقامة في مصحات النصوص الإبداعية! أين يكمن الفرق ؟
المجنون لا يقر بجنونه, أما الأديب فيحرص على التمسك بمظلته الواقية خوفاً من واقع قد يحيل توتره وقلقه ( وبمعنى آخر جنونه ) إلى روتين يشل أطراف قلمه ومخيلته!
المجنون شخص خرج من بوابة المحاكمة العقلية, وفقد سيطرة المنطق على ترابط الأشياء, فتداخل الزمن والأشياء والحياة في خليط عجيب لديه, هل يمكنني أن أشبهه بطفل كبير لا يدرك عواقب أفعاله؟ أما الأديب فيلهث للخروج من نطاق العقل المسيطر, ليحلق في عالم آخر غير مرئي لكنه محسوس, عالم يحيل عقله إلى حديقة خارج المنطق فيكاد يشعر, أو هو يشعر حقاً, بقدرته على الطيران, أو التجول في مسارات الفلك والكون دون حدود للزمان والمكان, هي رحلة في اللاوعي حيث غابات شهية الثمر يملأ منها الأديب سلته, وللتحليق هناك مستويات عدة ومتدرجة, قل إنها فضاءات سبع – نظراً لدلالات الرقم سبعة – ولكل أديب منزلة فيها, فبعضهم قد لا يتجاوز السماء الأولى, أما من يتمكن من بلوغ السابعة فلا أظنه يفضل العودة, ولذا أعتقد أنه يتحول إلى عاقل عظيم وإذا ما صار بيننا ظنناه مجنوناًً!
مثلما يحيط المرض بالصحة من كل الجهات, فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات
هكذا قال « لودفيغ فتغنشتاين « والفرق بين الإنسان العادي والأديب أن الأول يحصن نفسه ضد المرض وضد الجنون, أما الثاني فيمعن في اشتهاء الإصابة بلوثة الجنون, فنراه يخترق كل أسوار الحماية– ولعله لا يدرك أنه ماض إليه منذ البداية – لكن من تذوق سماوات اللاوعي والخيال لن ترضيه مذاقات أهل الأرض العاديين, وحين يشتد الصراع, يدخل الأديب مرحلة الجنون التي سبقتها حالات شديدة من القلق والتوتر والهلوسة ربما.
لو استعرضنا أسماء كبارالكتاب, فماذا سنجد حسب توقعكم؟ لقد تميز معظمهم بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية. بل إن بعضهم دخل مرحلة الجنون الكامل, ولعلنا نذكر منهم: هولدرلين، نيتشه، جيرار دونيرفال، أنطونين ارتو، فان كوخ، غي دو موباسان، فيرجينيا وولف، روبير شومان، التوسير ... والقائمة تطول.
سأل أحدهم الكاتب الفرنسي أندريه موروا: أصحيح أن جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب: « لا... الأصح أن نقول إنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه. «
لا أحد يشك في أن « نيتشه « كان واحداً من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جُنَّ بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنوناً لمدة أحد عشر عاماً حتى مات سنة 1900. ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في تاريخ ألمانيا، ومع ذلك فقد أمضى أكثر من نصف عمره في ليل الجنون... فلماذا لم يحمهم الإبداع من الجنون؟
لعل أفلاطون كان أول من تنبه إلى تلك المسألة, فقال: إن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم, إنهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين.. لكن أرسطو هو من نظّر لهذه العلاقة بشكل فلسفي, وطرح السؤال التالي: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصا سوداويين ؟ لقد استخدم أرسطو كلمة الرجل الإستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون.
في القرن الثامن عشر، نجد الفيلسوف الفرنسي «ديدرو» الذي بلور فكرة الترابط بين العبقرية والجنون. فقال: «آه .. ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون.. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة, إما باتجاه الخير وإما باتجاه الشر. الفرق الوحيد بينهما هو أن المجنون يسجن في المصح العقلي و أن العبقري ترفع له التماثيل !»
مع تأسيس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة في القرن التاسع عشر, جاء التأكيد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعياً على طريقة الناس العاديين, ويقول عالم الطب النفسي إيسكيورول: إن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات «مرَضية» ويضرب على ذلك مثلاً: لوثر، وباسكال، وجان جاك روسو..... وجاء بعده «لولوت» الذي كتب السيرة الذاتية المرَضية لشخصيتين كبيرتين هما: سقراط و باسكال.
وكان عنوان الأولى: «شيطان سقراط « والثانية «تعويذة باسكال « .. فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل حتى لكأن به مسٌّ من جنون.
أعتقد أن الأديب في حالة الابداع, التي تعتبر حالة هوسية, يبلغ به القلق والتوتر والهيجان حده الأقصى, ولو امتلك الشعراء والكتاب العرب الجرأة للاعتراف والتحدث عن حالتهم النفسية أثناء عملية الإبداع, لأضاؤا هذه العلاقة بين التوتر والإبداع, أما كتّاب الغرب فكانوا – وكالعادة – أكثر جرأة وشفافية. من نيتشه الى بودلير الى رامبو الى هولدرلين الى أنطونين أرتو الى ميشيل فوكو الى لويس ألتو سير الى إدغار ألان بو الى فيرجينيا وولف الى كافكا الى لوتريا مون، الى غويا ، الى فان كوخ... إلى آخر القائمة الطويلة المفتوحة النهاية... سنجد أولئك الذين جنُّوا أو عانوا أو انتحروا.. ما يؤكد حقيقة وجود علاقة بين التوتر النفسي والإبداع، ولكن, هل كل عبقري مجنونٌ، وهل كل مجنون عبقريٌ؟ أم ان العلاقة بينهما أكثر تعقيداً مما تبدو عليه؟
لكن العبقري - كما اتفق عليه - وفي جميع حالاته كائن لاإجتماعي، يميل الى العزلة والوحدة والهامشية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. إنه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. كما يتميز العبقري بالعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون.
في كتابها ( مذكرات فتاة رصينة ) كتبت سيمون دو بوفوار: أن يمتهن الإنسان مهنة وأن يتزوج: طريقنان للتخلي والاستقالة ( هنا يمكن الإشارة إلى أن ديكارت لم يتزوج، وكذلك كانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وبودلير، ورامبو، وفلوبير، الخ..) وتتابع دوبوفوار: كانت عزلتي تكشف عن تفوقي ولم أعد أشك في أني كنت شخصاً ما, وأني سأقوم بعمل ما!... إن ما كان ينفرهم مني هو ما كان عندي من عناد ورفضي لهذه الحياة العادية التي كانوا يقرونها بصورة أو باخرى وجهودي اللامنظمة للخروج منها, وحاولت أن ألتمس السبب لذلك: إنني لست كالآخرين! وكتبت عن رفيق عمرها جون بول سارتر: إنه يعيش ليكتب, يكره الروتين والتدرج والأعمال والبيوت والحقوق والواجبات وكل شيء رصين في الحياة, كان يجد المجتمع على ما هو عليه شيئاً محتقراً ولكنه لم يكن يحتقر أن تحتقره, وكان ما يدعوه ( جمالية المعارضة ) يلائم كل الملاءمة حياة البلهاء والقذرين بل يوجبها: فلو لم يكن هناك ما يحتاج إلى المكافحة ما كان الأدب شيئاً عظيماً!
من قراءاتي أقتبس لكم عن بعض اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ( في ليلة 10 تشرين الثاني 1619، نزل الإلهام على ديكارت وتوصل الى الحقيقة. في يوم 13 أيار 1797، نزل الإلهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. في صيف 1831 شهد غوته فترة إلهام مكثفة, ولا ينبغي أن ننسى نزول الإ لهام على جان جاك روسو وهو سائر على الطريق بالقرب من غابة فانسين فصرعه في أرضه, وانبطح تحت الشجرة وهو فاقد للوعي, والعرق يتصبَّب منه. وما أن صحا من العملية حتى أصبح رجلاً آخرَ.. ) هكذا نجد أن الإلهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات.
والآن ماذا عن القلق ؟ واقع الأمر أن العباقرة شخصيات قلقة وحساسة الى درجة المرض والتطرف الأقصى, وقد يصل بهم أحياناً الى درجة الإنهيار الكامل, أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: « أريد أن أدخل المصحَّ العقليّ. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي. أرجوكم امسكوني، اسجنوني...». وعانى بودلير من عقدة أوديب, و فكر بالانتحار أكثر من مرة, بل قام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبِّراً عن يأسه الداخلي: «سوف أقتل نفسي غير آسف على الحياة. سوف أنتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبتُ من النوم والاستيقاظ كل يوم. يالها من عادة مملَّة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة والى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الآخرين، لأنى أشكِّل خطراً حتى على نفسي. سوف أنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء بالأمل»
ختم ميشيل فوكو كتابه الشهير «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» بمديح حار الى الجنون. وطلب من العقل أن يمثل أمام محكمة الجنون لا العكس. فجنون هولدرلين وأنطونين أرتو ونيتشه هو الذي ينبغي أن يحاكم العقل الغربي، ولا يحق لهذا العقل إطلاقا أن يحاكم جنونهم، أو أن يرتفع الى مستواه. وفوكو نفسه لم ينتصر على الجنون, الا بعد ان ألَّف هذا الكتاب الضخم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى