أنس الرشيد - نعش الوجود

لما كتب محمود درويش قولَه :
"لا أعرف الشخصَ الغريبَ ولا مآثرهُ
رأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين
مطأطئ الرأس احتراماً.
لم أجد سبباً لأسأل:
مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟"
.
كان مستحضرا ما جاء في كتاب (تنبيه الغافلين بأحاديث سيد المرسلين) . للسمرقندي.
من أن أبا الدرداء سمع رجلا يقول خلف جنازةٍ: من هذا؟ ...يا قومُ من هذا؟!!
والجميعُ مطأطئو الرؤوس؛ احتراما لهيبة الموت... إلا أبو الدرداء لم يهبْ...فأجابه قائلا:
هذا أنت!، فإن كرهتَ فأنا.
ألم تسمع الله يقول: (إنك ميت وإنهم ميتون).
...
درويشُ لم يسأل من الشخص الغريب؟ وصاحبُ أبي الدرداء سأل..!

لكن درويش سأل نفسه:
"سألتُ نفسي: هل يرانا أم يرى
عَدَماً ويأسفُ للنهاية؟
كنت أعلم أنه
لن يفتح النَّعشَ المُغَطَّى بالبنفسج كي
يُودِّعَنا ويشكرنا ويهمسَ بالحقيقة
(ما الحقيقة؟)"

وسؤال درويش مضمن في إجابة أبي الدرداء..
فأبو الدرداء لمّا أجاب السائلَ كان يسألُ نفسه: ما الوجود، طالما الموجود عدم؛ فأنا وكل هؤلاء الذين نمشي خلف النعش أموات..! هذا الميت هو أنا وأنت أيها السائل. متشابهون؛ عدمًا. لهذا لما كان أبو الدرداء يحدث عن النبي كان يقول (اللهم إن لم يكن هكذا؛ فشِبْهُه، فَشَكْله).

وهذا هو ما قاله درويش بعد ذلك:
"رُبَّما هُوَ مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظلَّهُ....
فاًحياء هم أَبناءُ عَمِّ الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون "
.
لكن يبقى السؤال المنبثق من قول درويش:
" وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أَمراً ما إلهياً يُؤَجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدة "

السؤال هو :

ما الذي يؤجل جنازة أبي الدرداء وهو يمشي خلف النعش؟!

هكذا فهم أبو الدرداء آية (إنك ميت وإنهم ميتون) .. خبرًا عن واقعِ الموجود! وما الوجود لديه إلا لحظُ الله لنا.. فحين يغمض عينه عن أحدٍ يموت؛ لهذا فأبو الدرداء لم ينسَ وقتها آية (كل نفس ذائقة الموت). إذ كان يرى معناها تذوق انطفاء لحظ الله عنها. لهذا لا معنى عند أبي الدرداء لسؤال: هل يُخلّد محمد أم يُمَت..؟ لأنه ميت فعلا وما حياتنا إلا ومضة إلهية أشْرَكنا بها. كان السؤال عند أبي الدرداء : متى تنطفئ ومضة محمد وعلى أي حال؟ وعلى طريقة درويش: (هل يرانا أم يرى عدما ويأسف للنهاية؟)
لهذا لم ينسَ المؤرخون والمحدّثون أن يرووا مابعد إعلان وفاة النبي؛ يقول ابن حجر العسقلاني في الفتح: تأمل قوة جأش أبي بكر الصديق (وكثرة علمه) لما مات النبي صاح في الناس (إنك ميت وإنهم ميتون) والناس لا يلتفتون إليه. ثم روى حديث ابن عباس حين قال: والله لكأن الناس لم يعلموا أنَّ اللهَ أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر.

الناس ذهلوا عن الحقيقة التي هي أنَّ الناسَ أمواتٌ، وليس سيموتون، وذهولهم طبيعي فهم يَعوُن ويدركون بعضهم..! حالة أبي الدرداء هي مافوق الطبيعي.
ولشدة مادّية عمر بن الخطاب أنه حلف أمام أبي بكر والناس قائلا: والله إن محمدا لم يمت. حتى قرأ عليه أبو بكر الاية. فكأنه نارا أُسكب عليها ماء. فهل هي صحوة الوجود الحقيقي؟ أم ظل واهما كالناس بأنَّ الايةَ مجردُ خبر مستقبلي؟
وهذا ما جعل عمر بن عبدالعزيز يكتب إلى عمرو بن عبيد لما أراد أن يعزيه: "أما بعد؛ فإنّا أناسٌ من أهل الآخرة، أُسكنا في الدنيا أموات، آباء أموات، أبناء أموات، فالعجب لميتٍ يكتب إلى ميت، يعزيه عن ميت".

ويبقى سؤال: ما الذي يؤجل جنازة أبي الدرداء..؟
يروي أبو الدرداء أنه كان تاجرا من كبار تجار العرب، فلما أسلم حاول أن يجمع بين التجارة والعبادة.. فلم يستطع؛ لهذا ترك التجارة وهامَ بالعبادة. لكنّ أبا الدرداء ظلّ مشككا في صلاح عبادته..؛ خائفا يترقب من أن يغمض الله عنه عينُه فيموت، قبل أن يتوحّد مع الوجود.
لهذا فإن أبا الدرداء لما مَرِضَ مَرَضَ الموت؛ دخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قالوا: وما تشتهي؟ قال: العفو.
(وهو يريد تشديد الواو؛ أي الله. ويريد العفو بأن يكون ذاتا بلا صفات محسوسة.)

لهذا إن لهج لسان أبي الدرداء لحظة مشيه في جنازة الغريب لقال:
وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أَمراً ما إلهياً يُؤَجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في...
((العبادة)).
_________

أنس الرشيد

صباح 23 آذار /مارس ٢٠٢٠م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى