علي السباعي - رؤوس في المزاد العلني.. قصة قصيرة

نهضتُ مبكراً من النوم، أسرعتُ إلى الاغتسال، سكبتُ الماء على وجهي، سقط فوق ملابسي، نظرتُ في المرآةِ المعلقة قبالتي، منصعقاً من هولِ ما رأيت: أنني لم أعد أمتلك رأساً!

جسدٌ بدون رأس؟! لكنني أستطيع ان أبصر، أن أتكلم، أن أسمع! احتفظتُ ببعضِ رباطة جأشي، وأخذت أتفقد شهرزاد في غرفةِ نومها، وجدتُها دونما رأس! أيعقل أن قوى خفية نزعت الرؤوس من مكانها؟! أم أن هنالكَ عصابة من اللصوصِ سرقت رؤوسنا فقط؟! لكنْ، لا آثار دماء، لا ألم. فكل شيء كان طبيعياً. زعقت شهرزاد متعجبةً حالما شاهدتني:

– أين رأسك؟
– …
– هل ضرب أحدهم عنقك؟
– …
– هل أطيح رأسك يا شهريار؟
ضحكتُ، وقلت مداعباً إياها:
– لا. أنتِ من أطحتِ رأسي.
هتفتُ بها لأنتشلها من بحر التفكير الذي اغرقها بالتعجب:
– شهرزاد، أنت بلا رأس!
* * *

أخرج إلى شوارع بغداد للمرة الاولى في حياتي من دون رأس وحراس يرافقونني، برفقتي شهرزاد. وجدنا الحياة في بغداد صاخبة، دافئة، متجددة، حلوة، قاسية، مغوية، وحاضرة بكل فتنتها. لقد تساوى الناس. آهٍ. كلنا بلا رؤوس. واحسرتاه على حياتي كلها التي ذابت كما الشمع من أثر النار. اخترقنا الأزقة المحيطة بالقصر الملكي، ثم عبرنا جسر الجمهورية نحو شارع الرشيد سيراً على الأقدام وسط هبوب ريح حمراء عمت بغداد. دهمتني مشاعر شتى هي مزيج من رهبة، غرابة، لوعة، وتأنيب ضميري على اللائي ضُربت أعناقهن، يضيق عليَّ الخناق، والعراقيون في الشوارع بلا رؤوس. صار يملأني أحساس مدمر يستولي بأنني وسط خراب بغداد، أعاني الاغتراب والتيه. هل انا حقاً وسط بغدادي؟ آهٍـ. بغداد. صرت أنكرها وأفزع، فينتشلني من فزعي وضياعي احدهم منادياً عليَّ بصوتٍ جذلٍ فرحٍ شامت:

– أراك من دون رأس يا شهريار!
أعقب سؤاله بضحكة متقطعة، قال بعدما فرغَ منها:
– لقد تحررنا من حكمك المستبد.
استمر يضحك بصخب، فقلت له بنبرةٍ حازمة:
– أوهام .
تساءل بمرارة:
– ما الذي تعنيه؟ أتعني أن الرؤوس اللعينة ستعود ثانية؟ وأني أعود من جديد؟
أجبته بإيماءةٍ من رأسي بالموافقة، وعاد يسأل من جديد:
– إنك لا تتصور أنني عشت سنواتي الماضية على امل نسيان تاريخك اللعين. فكيف أفرط بالذي يحدث بسهولة؟
أجبته بسخرية:
– أوهام، يا شاعرنا، وسرعان ما تتبدد.
أردف بعصبية:
– لقد راهنت بحياتي كلها على محو هذا التاريخ، وما إن تحقق لي ما أصبو اليه، حتى جئت تقول إنها أوهام. أليس هذا أسهل من أن تجد نفسك تحت سياط ألسنة الناس الجارحة؟

قلت باستغراب:

– أنا سعيد جداً، وحزين في الوقت نفسه.
سألته بصوتٍ متردد:
– ما الذي تقوله؟
يرتفع صوته الآلي عالياً:
– سعيدٌ لكوني تخلصتُ من الماضي، وحزين لأنني…
قاطعته متسائلاً باستغراب:
– كيف تراني الآن؟
قال مازحاً:
– أراك بالقلب.

فأطلق العنان لضحكته الرنانة التي تهزّ جسده بنشوة الفجيعة، وهذا جعلني اركن الى الصمت، وأخذ يتمايل يميناً وشمالاً، ليرتفع صوته مخاطباً جميع من في ساحة الرصافي:
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن
فالقوم في السر غير القوم في العلن
روّاد شارع المتنبي لا يبالون لكلامه، وشهرزاد تبكي بصمت خرابنا. يستطرد بأسف قائلاً بلسان مارك توين:

– ” السياسيون مثل حفاضات الاطفال يجب تغييرهم باستمرار وللاسباب نفسها”.

تذكرتُ أن الاوهام تتحول الى حقيقة إذا عايشها الإنسان وصدّقها وتفاعل معها كونها حقائق. وربما أوهامنا تكون مزيجاً من الاحلام، من الكلمات، من المعاناة، من الخواطر، من أنصاف الحقائق. آهٍ. كم يسكنني اليأس ويقتات بداخلي الحزن! استكملنا سيرنا قاصدين مقهى الشهبندر وسط باعة الكتب ورائحتها، وجدنا المقهى يغص ضاجاً بالروّاد، لكن روّاده هذا المرة بلا رؤوس ليطلقوا التعليقات اللاذعة، والطرف الساخنة. نهض الخشالي يحييني:

– أهلاً وسهلاً شهريار.
تناهى إلى سمعي صوت ينادي: رؤوس للبيع… رؤوس للبيع… رؤوس للبيع.
تجاهلت النداء لأنتبه إلى الخشالي يكلمني بصوته العميق:
– مر شهريار…
يقطع سؤال صاحب مقهى الشهبندر هتاف احد رواد المقهى مردداً ابياتاً من الشعر المعاصر وبحماسة شديدة:
هذا زمنٌ لا يعرف مقتول قاتِلَه
فرؤوس الناس على الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على الناس
فتحسس رأسَكْ
فتحسسي رأسِكْ

راح كل من في المقهى يتحسسون رؤوسهم المختفية عن موضعها ويضحكون بصخبٍ مر، إلاّ شهرزاد وأنا، مما حدا بالزبائن إلى أطلاق نكاتهم اللاذعة. وكفرصة سانحة للتعليق على ما يحصل، تعالت ضحكاتهم الصاخبة المجلجلة. أجدهم يفرغون ما في نفوسهم من آلام وآثام وأحزان بضحكات جريحة. بذلت قُصارى جهدي لكي اكون حيادياً للمرة الأولى في حياتي، وبتّ أضيق ذرعاً لرؤية هذه الدمى تصب خيباتها علينا، ولا يزال يقف أمامي صاحب مقهى الشهبندر، وبإنصاتِ لهفةٍ لتلبية طلبي، فقلت مواسياً:

– سيتغير الوضع وتعود الأمور إلى سابق عهدها.
أراد الكلام لكنني أضفت:
– الصبر… الصبر في إمكانه أن يزيل كل الأوهام.
غمغم بجهد:
– من يريد شاياً، حامضاً، اركيلة أو حتى… ماء؟
قلت: – لا تحزن يا صاحبي.
أضاف، والغصة تملأ صوته وتخنقه:
– لقد قطع رزقي بفعل اختفاء الرؤوس.
تلعثمت كمن يطلق رصاصة الرحمة:
– الحجّاج كفيل إعادةِ الرؤوس في زمنٍ أينع بالضياع.
قال جزعاً:

– ما دخل الحجّاج بما نحن فيه من تعاسة يا شهريار؟

بينما اللغط يتصاعد في المقهى، بلغت مسامعنا صرخات عديدة، ونداءات تطالب بالابتعاد، وأخرى تريد الفعل الحاسم، وثالثة تدعو إلى التروّي، وكل من في المقهى تَدّفقَ كالسيل يكتسح موجودات شارع المتنبي. فالسيل البشري الذي لا رأس له، لا يميّز بين العدم والوجود، بين الحقيقة وأنصافها. تجاوز كل مستويات الوجود وأغرقها في ضياعات جديدة. بلغنا مصدر الصوت في القيصرية، صرنا وسط رائحة الكتب من جديد، تلك الرائحة التي أعشقها. هكذا همستُ في أذن شهرزاد، وهتف صاحب مكتبة الحنش قائلاً بحدّة:

– لا تدعوه يشنق نفسه، فسوف يموت!
والآخرون يصرخون محذّرين بشدة:
– لا تفعل ذلك، فكلّنا بدون رؤوس.
يصرخ به أحد باعة الكتب:
– تحسس رأسك.

رأيته مرتدياً البزة العسكرية التي تزيّنها رتبة مهيب ركن وأوسمة الرافدين وأنواط الشجاعة، ويتمنطق بنطاق عسكري يتوسطه النسر باسطاً جناحيه على النطاق، ويتلألأ معدان مسدسه الثمين في خاصرته اليمنى، يتحرك حركات عسكرية منضبطة بجزمة حمراء الدهان لامعة بشدة كي يرتقي حبل المشنقة، مُصّراً على شنق نفسه كونه بلا رأسه الذي يحمل شرفه العسكري، غطاء الرأس “البيرية”، يصرخ بوجوه المتجمهرين:

– ابتعدوا. لا بد ان اشنق نفسي لأنني خسرتُ شرفي العسكري.
علّق حبلاً في مدخل القيصرية، رفض المتحلقون فعله، وشهرزاد تلوذ بي خوفاً عليّ، هتف احدهم بالناس وصوته الجهوري يناغم حركات أصابع كفيه الكبيرتين:
– دعوه!
اتركوه يشنق نفسه.

ابتعد جمهور المتنبي بخطواتهم المرتبكة بضع خطوات إلى الوراء، وظهر تمثال المتنبي يغرد لدجلة حزنه، ارتقى المهيب الركن كرسيه ليضع الحبل حول عنقه، دفع الكرسي بعنف، صرخت شهرزاد لائذة بجسدي، سقطا معاً المهيب الركن وكرسيه إلى الأرض، لم يُعلّق في الحبل، عاد إلى تكرار ذلك وسط ضجة رواد الشارع وضحكاتهم، نهض متلعثماً يطلق اللعنات، وشهرزاد تلكزني بيدي اليسرى هامسة مدوّخة رائحة الكتب يا شهريار، جاءه صوت الهادر قائلاً:

– ضاع شرفك العسكري يا أيها المهيب.

صرخ الشاعر حسين علي يونس هاتفاً، وبجانبه يقف مبتسماً الشاعر عبد العظيم حسن فنجان:
– تحسس رأسك.

كلمات مثيرة لضحكٍ يواري البكاء، ترافقها سحابة من الترقب، تدفعها ريح الخوف. لكن هذه السحابة سرعان ما توقظ فيهم الإحساس بالحياة والقوّة على التفاؤل والأمل في ابتكار الجديد لغرض استمرار الحياة.

اخترق الحشود، وبعنف يدفع امامه عربته الخاصة بجمع القمامة ينادي بصوته الأخن:
– رؤوس للبيع… رؤوس للبيع… رؤوس للبيع.

ضعتُ، تركتُ ذاتي تستسلم طائعة صاغرة بيد الأقدار التي تكون مجنونة عمياء، ومَرّة متلهفة تشتهي خلاصنا بسرعة في بلاد ما بين النهرين التي يلتهمها فم الزمان الضروس الكبير بطواحينه وأنيابه الجبّارة، نتحوّل في معدتهِ إلى عراقيين بلا رؤوس! وتبقى محنة الإنسان العراقي أكبر المحن: أناسٌ بلا رؤوس!

تجمهر المتنبيون متدافعين متزاحمين على عربةِ بائع الرؤوس تحت تمثال المتنبي يشرعون بتفحص بضاعته، ودجلة يجري بحزن ولونه لون الدم، كل عراقي يأخذ رأساً. صاح طارق حرب متسائلاً: – من أين لك هذه الرؤوس؟

بادره بلغة المنتصر المتعالي:
– من نهر دجلة.
قاطعه الشاعر عبد العظيم حسن فنجان ساخراً:
– تحسس رأسك.

تعالت الضحكات، فعمد مرتدي زي المهيب الركن إلى قلب عربة الرؤوس. تزاحم فاقدو الرؤوس على الرؤوس المذبوحة ببراعة حدَّ الإقتتال، كعادة العراقين للحصول على رأس. حدثت معركة غريبة، فكل واحد يريد الحصول على مبتغاه من الرؤوس.
تَحطّمَتْ رؤوس. دُهِسَتْ رؤوس. قُذِفَتْ رؤوس، وبين رأس ورأس يمسك المهيب الركن برأس تمثال المتنبي، سعيداً بغنيمته. شهرزاد حصلت على رأسها الماسي وأعطتني رأسي النحاسي. مهما تكن الغرابة ومهما تكن أسبابها فإن جميع الرؤوس قد تَفَتَّتْ وعادت الاجساد متعبة تغرق ثيابها بعرق الخيبة. وسط لهاثهم المحموم طغت على أصواتهم صرخات مفجوعة أطلقها النحات محمد غني حكمت، وأخذ يستجير بروّاد شارع المتنبي. أمسك بالمهيب الركن فتدخل بعض شيوخ المتنبي لفض النزاع. تساءلتُ:

لماذا أمسكت هذا المسكين؟
عَلَّق قائلاً:
كل ما جرى لنا كان بسببه. لقد سرق رؤوسنا. لقد سرق رؤوس تماثيلي. لقد سرق أحلامي.

تألَّمْتُ لكلماته المحمَّلة الاستلاب، وهبت شهرزاد رأسها الماسي لمحمد غني حكمت، فصحتُ بصوتٍ عالٍ، وأحساس الغضب يتصاعد بداخلي:

ضاع صوتي نهائياً، وبي رغبة لبكاء كل ما في داخلي من لوعة ومرارة. همت عائداً إلى قصري. كان الوقت ما بين العصر والغروب. بين الفينة والاخرى أرفع يدي اليمنى أتحسس رأسي في شوارع بغداد المزدحمة بأجسادٍ مسافرةٍ على أصواتِ الدمى السعيدة اللاهية وهي تتحسس رؤوسها، تساعدها مناداة الدلال وقد افتتح مزاداً لبيعِ الرؤوس:
– مزاد الرؤوس العلني… سارعوا لاقتناء أحدها وبثمنٍ زهيد.
  • Like
التفاعلات: الشاعر سعد جاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى