راضية جراد - البحث عن الزمن الضائع

وهي تقرأ احد كتب الكاتب الأمريكي المخضرم وليام فولكنر "حين احتضر" خطر ببالها كتاب كانت قد بدأت في قراءته ولم
تكمله لأنها أعارته لإحدى زميلاتها في الجامعة, وهو كتاب "البحث عن الزمن الضائع" للكاتب الفرنسي مرسيل بروست, فقررت أن تذهب لتشتريه وتكمله بمجرد ما تنتهي من رواية "حين احتضر".
في اليوم الموالي أثناء عودتها من العمل مرت على المكتبة فبدأت تتصفح آخر الكتب الصادرة, وهنا وجدت "البحث عن الزمن الضائع" قابع بين تلك الكتب, أخذته وبقيت تتصفح أوراقه, فعلاقتها مع الكتب ليست علاقة قراءة فحسب, بل هي علاقة حسية فهي تمسكه, تلمسه, تشم رائحة أوراقه وتسمع صوت تقليب صفحاته. هنا سمعت صوت من ورائها يقول: "لكي نرجع الحقيقة أكثر
تقبلاً, نحن مجبرون على القيام ببعض الجنون " استدارت ورائها انه رجل في أواخر الثلاثينات, ابتسمت وردت عليه :"في قلب كل أسوأ رجل حصان بريء يخاف " كليتا المقولتين كانتا لبروست, استرسل بكلامه: من أروع الكتاب التي قرأت, وبدأ يتكلم ناقداً بطريقة راقية كتابه وهي تتأمله.
أعجبت بثقافته وبعد بضع دقائق استأذنته لتذهب وتدفع سعر الكتاب, رافقها ودفع بدلها رغم رفضها, بعد ذلك خرج وسألها عن وجهتها فأجابته أنها ذاهبة لتتمشى قليلاً فهي تحب كثيراً المشي واخذ فترات مع النفس لتكلمها تحاسبها وتقترح عليها, فاقترح أن يحل عليهما كضيف ثقيل نوع ما هي ونفسها في نزهتهما, ابتسمت ووافقت.
وفي النزهة تجاذبا أطراف الحديث عن مختلف الكتّاب عن تولستوي والأدب الروسي, هان سويين والأدب الصيني, كويلو والأدب اللاتيني, كاتب ياسين والأدب المغاربي. مر الوقت بسرعة ولم يحسا به وفي نهاية النزهة تذكرا أن يقدما بعضهما البعض:
هي سرين باحثة صحفية ولها عمود في مجلة ثقافية خاصة بالأدب الغربي وهو سامي طبيب أطفال, استغربت سرين فكيف لطبيب أن يجمع بين العلوم التجريبية المجردة والأدب الذي يعتمد على الحس بالدرجة الأولى, وقبل افتراقهما تبادلا أرقام الهاتف. رجعت للمنزل ساعدت أمها في تحضير العشاء ثم استحمت وذهب لنوم فتحت الحاسوب وهي في الفراش وبدأت تقرأ جرائد اليوم وإذا برسالة هاتفية: تصبحين بخير, فردت: وأنت من أهله, أحلام سعيدة.
وفي الصباح الموالي وهي في العمل فاذا بهاتفها يرن, انه هو اتصل ليقول لها صباح الخير, ابتسمت وبدأت مشاعر الحب تتسلل إلى قلبها مثلما تتسلل أشعة الشمس من بين شقوق النوافذ القديمة, سألها اذا كانت مشغولة في وقت الغذاء فأجابته بلا, فدعاها ولبت الدعوة وفي الغداء تبادلا أطراف الحديث عن السياسة وغيرها وتعددت اللقاءات بينهما في المطاعم, الحدائق العامة, المسرح, فكلاهما من عشاق موليير وراسين, والأوبرا, وهكذا ولد الحب بينهما أصبح لا يستطيع مفارقتها يتصل بها بين كل وصلة مريض وأخر ... ومرت سنة على حبهما وفي عيد حبهما أرسل لها رسالة نصية: يا من جعلتي روايتي هي "الوقت الموجود", نعم كانت إحدى روايات والجزء الأخير من كتاب "البحث عن الزمن الضائع".
طوال تلك السنة لم تلمّح له بالزواج فهي فتاة واعية وكرامتها لا تسمح لها بان تطلب ذلك, فحسب مفهموها يوم ما يقتنع ألف بالمئة من أنها هي شريكة حياته سيطلب يدها, هذا ما أفصحت عنه لصديقتها ليال في احد الجلسات, ولان حبه كبر لم يعد يتحمل ثقل
السر, اتصل بها كالعادة ودعاها لتمشي تحت المطر الهواية المفضلة للاثنين, ذهبت وكان طوال الوقت صامتاً, وفجاة توقف وقال لها: أتتزوجينني, اغرورقت عيناها بدموع الفرح وأجابت مباشرة: احبك, موافقة. نزع النظارات وقال لها ولكن يوجد شيء يجب أن تعلميه وهو: أني متزوج ومنذ اثنتي عشرة سنة, أرجوكي دعيني أكمل كل الكلام وبعد ذلك احكمي علي, متزوج من امرأة طيبة لا تنجب حاولنا من سنوات طويلة أما الآن فلا جدوى, فهي على مشارف سن اليأس ولكن ليس هنا الإشكال, المسكينة طلبت مني ومن سنوات أن أتزوج ولكن رفضت لان حالها يؤلمني, ولكن حين رأيتك أحببتك وأنت وحدك من جعلتني اتخذ هذه الخطوة, أنا وهي مختلفين تماماً, أنا أحب العيش في عالمي الخاص عالم الأدب, البحوث أحب كل شي متجدد ابحث عمن تجعلني طفلاً صغيراً وهي المسكينة لا تستطيع بحكم ثقافتها وبيئتها, فكري في الأمر.
رجعت للمنزلها مصدومة بكت طوال الليل على حظها, بقيا على اتصال والتقاء فهي لا تستطيع أن تتبعد عنه ولكن هناك شيء تغير فيها لم تبق تلك الفتاة النابضة بالحياة, ومع مرور الأيام صار
الصمت سيد لقائهما, وفي أحد الأيام أخبرته في لقائهما انه سيكون الأخير لأنها لا تستطيع أن تكمل في تلك العلاقة وهي ترى حبيبها ملك امرأة أخرى حتى وان لم يكن ملكها روحياً فهو ملكها جسديا واجتماعياً وهي مجرد عشيقة لرجل متزوج, إذا كان يحبها حقاً فعليه بالابتعاد عنها وختمت كلامها ب: فاذا كانت له "الوقت الموجود" في رواية بروست فهو لها "البحث عن الزمن الضائع"
وافترقا وكل منهما يمسح دموعه حزناً ..... بعد سنتين تمت خطبتها من شخص لايقل طيبة وثقافة عنها وهي في طريقها لصالون التجميل لتحضير نفسها للزواج فاذا بصوت يناديها "سرين كيف حالك, انه سامي ابتسمت وقالت: الحمد الله, وأنت كيف حالك؟ أجابها: نشكر الله سألته: كيف حالها المدام ؟ فاجابها الحمد الله بخير رزقنا بولد. استغربت سرين: صحيح؟ فاجاب نعم و من دون أي أدوية, والله معجزة طبية حتى الأطباء استغربوا, فرحت وتمنت له ان يكون فاتحة خير عليهم, سألها عن أخبارها فأجبته أن ذلك اليوم هو يوم زفافها, ابتسم وقال لها: الف مبروك تستحقين كل الخير الموجود في الدنيا, تمنى لها السعادة وأكمل سيره ودخلت هي صالون التجميل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى