كمال عبد اللطيف - علاقات السياسي بالديني في الآداب السلطانية التأسيس، التحالف، التوظيف

تعتبر العلاقة بين الشأن السياسي والشأن الديني من العلاقات المعقدة في تاريخ الأفكار والوقائع، ولا يشكل تاريخ الفكر الإسلامي وتاريخ الصراع السياسي في الإسلام أي استثناء في هذا الباب، ومن أجل إدراك أفضل لطبيعة هذه العلاقة سنحاول في هذا البحث التفكير فيها ضمن نمط كتابي معين هو: نمط الآداب السياسية السلطانية.
فنحن نعتقد أن التقدم في مقاربة هذه الإشكالية يقتضي معاينة معطياتها النظرية والتاريخية بصورة قطاعية وجزئية وأن هذا التناول يمكننا عند إنجازه من القيام بتأسيس نظري أشمل يتجه لفك مغلقاتها، وبناء ما يسعف بتوضيح مختلف مستوياتها وأبعادها بعيانية نظرية وتاريخية أعمق وأفضل.

* وقد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن موضوع علاقة السياسة بالديني يعتبر من الموضوعات المليئة بالأحكام المسبقة والآراء الجاهزة وأن هذه الأحكام والآراء تشكل عقبة نظرية تضاف إلى صعوباته المتعددة، فتتضاعف الإشكالات وتختلط القضايا، وتنشأ الأحكام المتحزبة، فتزداد الغشاوة سمكا أمام الأعين فلا يعود الدارس يرى شيئا.
تزداد هذه المسألة صعوبة، عندما نعرف أن إشكالية العلاقة بين السياسي والديني، ما تزال إشكالية حية في فضاء السجال والصراع القائم في العالم العربي والعالم الإسلامي، وهو الأمر الذي تترتب عنه انعكاسات وآثار متعددة، على مستويات التناول والمقاربة التاريخية. فكل الأسئلة والإجابات الممكنة في هذا الإطار قابلة للاستثمار الرمزي، الذي يدعم هذا الموقف، أو يقلل من قيمة ذاك، ومعنى هذا أن الموضوع ليس معقدا وحسب، بل إنه قبل ذلك وبعده موضوع غير محايد، وادعاء مقاربته بالمبضع التاريخي الموضوعي مجرد افتراض، قد لا تدعمه الوسائل والأدوات المنهجية، وقد لا تستقيم فيه الأحكام والنتائج، دون أن تكون قد اتخذت لنفسها موقعا بين المواقف أو موقفا وسط المواقف.
ومن أجل مقاربة مغايرة للموضوع، وهو ما نطمح إلى بلوغه، مقاربة تتجنب ولو مؤقتا المواقف الحدية السهلة، لتعمل على مواجهة إشكالات الموضوع، من خلال عمليات تشخيص وحفر تعاين النصوص في سياقاتها النظرية والتاريخية، وتعالج المعطيات المشخَّصة بأسئلة تعي حدودها النظرية كما تعي طابعها الإجرائي، سنحاول جهد المستطاع إنجاز ما يقدم التفكير في المعالجة والفهم، وذلك بالصورة التي تسعفنا بالمراجعة النقدية لذاكرة ما تزال حاضرة ومؤثرة في مشهدنا السياسي المعاصر.
وفي سياق هذه المعالجة، سنستعين بجهود بعض الباحثين الذين أنجزوا في نظرنا قراءات ساهمت بصورة أو بأخرى، في توضيح بعض جوانب الموضوع، وهدفنا من كل هذا هو التقدم في فهم هذه الإشكالية في سياقها التاريخي، وفي إطار النتائج التي ترتبت وما زالت تترتب عنها في فضاء الممارسة السياسية الراهنة في العالم الإسلامي.

لنوضح أولا دلالة عنوان البحث: "السياسي والديني في الآداب السلطانية" "الدين في الدولة السلطانية"، إننا لا نقصد هنا إنجاز محاولة في التأريخ الذي يتوخى الإحاطة بوضع الدين الإسلامي في الدولة السلطانية، وهي الدولة التي سادت في تاريخنا الوسيط. إن المقصود أولا وأخيرا هو التفكير في الديني في خطاب الآداب السلطانية كما هو واضح في العنوان، أي التفكير في كيفيات استحضار الديني في بناء تصورات ومعطيات ومواقف هذا الخطاب.
ومعنى هذا، أننا نواجه قضية محددة تتعلق بضبط وتعيين: رؤية ومنظور الآداب السياسية السلطانية لما هو ديني، للإسلام بحكم أنه الديانة السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية التي تبلور في إطار ثقافتها السياسية الخطاب السلطاني، ولكل دين كيفما كان، بحكم المنزع التاريخي المنفتح في هذه الآداب، حيث لا يكون الدين بالضرورة هو الإسلام بل كل الديانات القديمة السابقة عليه والمعاصرة له.
لا يعني التحديد السابق أننا سنكتفي بمعاينة أبعاد الإشكال المطروح في منطوق الخطاب وظاهره، قدر ما يعني ضبط حدود المجال الذي نتجه صوبه في هذا العمل.
أما المعالجة فإنها تستعين في مواجهة المجال النصي المقروء بالتاريخ وبأنماط الخطاب السياسية الأخرى، لمراقبة كيفيات تمظهر الإشكال، والتمكن من جمع وإعادة ترتيب المعطيات النظرية المساعدة على التفكير فيه، بهدف فهم أبعاده واستخلاص نتائجه.
هناك مسألة أخرى تقتضي منا التوضيح، قبل مباشرة المعاينة والمعالجة، يتعلق الأمر بالأوليات والمقدمات التي نسلم بها في هذا السياق، والتي توجه عمليات تأملنا وتحليلنا للموضوع.
وهنا يمكن أن نشير إلى ثلاث مسائل أساسية:
أولهما تتعلق بالتمايز بين مجال السياسي ومجال الديني، التمايز في المقدمات وفي الخطاب، وفي المرامي والأهداف. وقد تم تسطير وتعيين عناصر التمايز بالاستناد إلى التاريخ الإنساني، تاريخ الفكر السياسي، وتاريخ الديانات، وتاريخ العلاقات التي قامت بينها عبر التاريخ.
لكن التمايز لا ينفي تماما مسألة التفاعل القائم بينهما، فإذا كان إطارهما العام، إطارهما الجامع هو المجال الدنيوي، حيث ينشآن ويتنافسان معا، فإن الوعي بالتمايز الذي ننطلق منه لا يمنع ولا يستبعد إمكانية حصول تفاعل معين، بل تفاعلات محددة، تُطوِّر مستويات العلاقة، وتمدها بعناصر تلغي أو تقلص، وربما توسع دائرة الاختلاف والتناقض، ودائرة التكامل والتتام.
يتحدد التمايز بين الإثنين في النظر إلى الدنيا وهي الفضاء الواقعي التاريخي الجامع بينهما، باعتبارها فضاء للصراع والهيمنة.
الدنيوي في السياسي أرضي، تاريخي، بشري، عقلاني، نسبي، والدنيوي في الديني (الدنيا في المنظور الديني) إيمان بالأمر الإلهي، بالوحي، بالمطلق، بالغائية المقدَّرة سلفا.
أما المسألة الثانية، فتتعلق بقبولنا لما حدده ناصف نصار من أشكال لنمط العلاقة بين الديني والسياسي في التاريخ، فقد أشار في المبحث المخصص للسلطة السياسية والسلطة الدينية، في كتابه "منطق السلطة"، إلى أن العلاقة بين الديني والسياسي تتخذ خمسة أشكال رئيسية هي: الاندماج، الإنكار، التحالف، الاستبعاد، الاستقلال(1). وقد دقق الحكم في سياق توضيحه لهاته النمذجة، فأشار موضحا أن هذه الأشكال "تنطوي على إمكانيات تفريع وتركيب بين الفروع"(2)، بالصورة التي تولِّد نماذج لا حصر لها من أشكال العلاقة الممكنة، والتي لا تستطيع تجاوز سقف الخطاطة الخماسية المذكورة.
سنستند إلى هذا التقسيم أثناء بحثنا في نمط العلاقة المتبلورة فعلا في خطاب الآداب السلطانية، وسنعمل على تعيين نمط العلاقة في ضوئه بناء على عينة بحثية محددة، وذلك بالصورة التي تتيح لنا تطوير محتواه.
وتبقى المسألة الثالثة والأخيرة، وهي تتعلق بعمق تغلغل الديني في المجتمعات الإسلامية، فقد اعتاد الباحثون الذين يفكرون في موضوع علاقة الديني بالدنيوي في الإسلام، التذكير بمسألة غياب سلطة دينية مماثلة للسلطة الكنسية التي سادت في العصور الوسطى المسيحية، وهو ما يعني في نزرهم غياب الدولة الدينية في المجتمع الإسلامي، إلا أننا نرى أن هذا الغياب لا يمنع من التذكير بقوة الحضور الديني الإسلامي وفي مختلف تلافيف الواقع في المجتمعات الإسلامية بما في ذلك الدولة. فقد اعتبر أحد البحثين أن "غياب الكنيسة والسلطة والكنسية هو الذي جعل من الصعب على الدولة أو على أي النخب السياسية احتواء الدين وتدجينه والسيطرة النهائية عليه. والواقع أن غياب الدولة الدينية لم يمنع من نشوء المجتمع السياسي الديني، ولكن العكس هو الصحيح. وربما كانت المجتمعات الإسلامية هي الوحيدة في التاريخ التي كانت بالفعل مجتمعات دينية"(3).
ولابد من التوضيح أخيرا، وفي إطار إشكالية فهم تمظهرات علاقة الديني بالسياسي في التاريخ الإسلامي ككل أن خطاب الآداب السلطانية لا يمكن عزله تماما عن إطاره التاريخي العام، وإذا كنا نعترف منذ البداية بصعوبات فهم ومعرفة أهم أبعاد هذا الإطار، وذلك لأسباب متعددة ليس هنا مجال التذكير بها، أدركنا بالضرورة صعوبة فهم مختلف أنماط التشكل وإعادة التشكل، التي اتخذتها علاقة الديني بالسياسي في نصوص ومقدمات التدبير السياسي السلطانية.
فقد تشكل الفضاء السياسي في العالم الإسلامي في إطار توجه تاريخي جديد، أنشأ قوة سياسية عظمى، مستندة إلى عقيدة دينية جديدة، وحاول استيعاب مكتسبات التاريخ الإنساني داخل دائرة هذه العقيدة. فما هي الصيغ والأشكال التي بنى بواسطتها خطاب الممارسة السياسية علاقته بل علاقاته بهذه العقيدة التي لا يجادل أحد في كونها تضع الشأن الدنيوي ضمن أولوياتها في التاريخ وفي المجتمع، وذلك من منظورها الميتافيزيقي النصي الخاص؟
لكن الإشكال الذي يطرح هنا ويقتضي قليلا من التوقف، هو علاقة الآداب السياسية بالدولة السلطانية، نقصد بذلك علاقة المرايا بالصور. فهل تعكس "مرايا الأمراء" الواقع والوقائع والأفعال، وآليات التدبر والتدبير السلطاني؟ أم أنها تصنع هذه الصور لتصبح لاحقا وقائع فعلية، ومعطيات تاريخية، بعد أن كانت نماذج في النظر التاريخي اقتضاها الشأن السياسي، وعملت المؤسسة السلطانية على رسم ملامحها وتعيين قسماتها؟
يمكن أن نعيد صياغة السؤال بطريقة أدق فنقول: ما هي علاقة نصوص التدبير السياسي السلطاني بدولة التاريخ في الإسلام؟ أي ما هي علاقة الخطاب (الثقافة السياسية السلطانية) بالحادثة التاريخية والواقعة السياسية في تجربة السياسة والتاريخ في الإسلام؟
قد تكون المسألة في الظاهر بسيطة جدا، فقد اقتضت متطلبات العمل السياسي اليومي التاريخي داخل الدولة الإسلامية الناشئة، الاستعانة بقواعد العمل السياسي ونظرا لأن المسلمين في بداية انطلاق دولتهم ودعوتهم كانوا في مركز قوة فإنهم لم يجدوا أي حرج في الاستفادة من تجارب الأمم المعروفة بتقاليدها المتطورة في المجال السياسي. وفي هذا السياق تمت استعارة أساليب العمل السياسي الفارسية والبيزنطية بحكم رسوخها، مع محاولات بسيطة في التعديل والتوفيق بين القيم التي كانت تقف خلف التقاليد السياسية المذكورة وتقاليد الدعوة الدينية الجديدة(4).
هذا أمر يكاد يحصل عليه الإجماع بين أغلب المهتمين بالتاريخ السياسي الوقائعي في الدولة الإسلامية، حيث تبرز مختلف الأبحاث والدراسات استفادة الحكام المسلمين من تقاليد الحكم الفارسية والساسانية على وجه الخصوص(5).
وإذا كان الأمر كذلك، فإن مفتاح قراءتنا لإشكال علاقة الديني بالسياسي في الآداب السلطانية تتخذ كمنطلق لها التسليم بما سبق، ومحاولة فحص النصوص والمواقف على ضوئه لنتمكن من إعادة صياغة طبيعة هذه العلاقة، ورسم ملامح بعض الأبعاد التي اتخذتها.
1- عهد أردشير، مزالق النص الملتبس
بلورت الآداب السلطانية مشروعا في الثقافة السياسية الإسلامية، مختلفا تماما عن أدبيات علم الكلام، ومختلفا كذلك عن الأدبيات السياسية الفقهية والفلسفية والتاريخية، وكذا الأدبيات السياسية الأخلاقية، سواء منها التي اتخذت لها مرجعية دينية خالصة، أو التي زاوجت بين المنظور الإغريقي والرؤية الإسلامية.
لقد كانت الوجهة العامة لهذه الآداب ترسم ملامح تصورات سياسية، مرتبطة أساسا بمجال الدولة والسلطة، وذلك رغم استعانتها بمعطيات متعددة من الأنماط الفكرية الإسلامية الأخرى القريبة منها، وخاصة التاريخ (تجارب الأمم) والأخلاق (العبر والمواعظ المشكلة لمادة النصح والنصيحة).
اهتمت الآداب السلطانية بالأبهة الملكية والتدبير السلطاني، واستحضرت ثناء هذا الاهتمام تصورا معينا للتاريخ، يتجاوز المنظور المحلي والذاتي والخاص ليبلور منظورا كونيا في زمنه، وذلك انطلاقا من تسليمه بأن المؤسسة السياسية مؤسسة بشرية، لا علاقة لها بالتمايزات الإثنية والدينية وغيرها...
هناك مبدأ ثان، تضمنته الآداب السلطانية وعملت على إشاعته، باعتباره قانونا عاما أيضا، وهو مراتبية المجتمع، حيث كانت نصوصها تسلم بلزوم وشرعية التراتب الطبقي داخل المجتمع. بما يسمح بوضع الرتبة الملكية فوق كل الرتب.
أما المبدأ الثالث فهو النظر إلى الدين باعتباره مظهرا من مظاهر السلوك البشري، وباعتباره حاجة من حاجيات الأفراد والجماعات في التاريخ. وقد استوعبت الآداب هذا المبدأ انطلاقا من الصيغة التي تضمنها عهد أردشير(6)، وهي الصيغة التي شكلت لازمةً من لوازم السياسة السلطانية، وتم الاحتفاء بها بأشكال متعددة على اعتبار أنها قاعدة القواعد في النظر إلى علاقة الملك بالدين. وقد لا نكون مجازفين إذا ما ادعينا أن الفقرة الرابعة من عهد أردشير، تحضر في مختلف متون الآداب التي تمكنا من قراءتها سواء بنصها أو بفصلها(7).
نحن نعتقد أنه يجب التمييز في الموقف الأردشيري بين صورتين أساسيتين: الصورة التاريخية الفعلية، وهي الصورة التي ترويها كتب التاريخ، حيث قام أردشير في أوائل القرن الثالث الميلادي بإخضاع الإمارات والطوائف الفارسية المتفرقة، ووحَّدها في دولة واحدة عرفت بالدولة الساسانية(8)، واتخذ المدائن عاصمة لها. وقد اهتم بموضوع الدين وأعاد إحياء الديانة الزرادشتية(9)، كما اهتم بالجيش، وأرسى كثيرا من النظم والقواعد الإدارية. وبين الصورة التي حفظها العهد في صياغته العربية، وقد تم استيعابها في النسيج النصي للآداب، وهذه الصورة الأخيرة لا تخلو من اضطراب بحكم ما لحق النص من عمليات تناصية ساهمت في الخلل الذي لحق عباراته وفقراته، وانعكس على دلالاته المباشرة والبعيدة.
الفرق بين الصورتين يتمثل في كون الصورة الأولى تحيل إلى تجربة في التاريخ، مرتبطة بشروط وملابسات سياسية محددة. والصورة الثانية أشبه ما تكون بالنمذجة المحوَّلة للتاريخي إلى قاعدة في التدبير السياسي العام، وذلك في ضوء قراءة إن لم تكن قراءات سعت إلى تكييف محتواه، وإعادة ترتيب سياقه وفقراته، لتناسب المجال الثقافي الذي يتم إرساله في إطاره (فضاء التاريخ السياسي في الإسلام).
لقد تحولت الممارسة الأردشيرية في موضوع دوره في إحياء الزرادشتية إلى قانون عام، يشمل ديانة جديدة قامت لمناهضة كل الوثنيات في التاريخ. ومعنى هذا أن آلية التعقل في الأدبيات السلطانية، كانت ترى الدين واحدا بأسمائه المختلفة. لقد كانت أقوال أردشير المستوعَبَة كحكم ومأثورات، تتحدث عن الدين دون تخصيص، ولعلها كانت تخصص دون تسمية. مثلما تتحدث عن الملك بإطلاق، لأن نظام الملك معروف في الحضارات الشرقية القديمة، وهو يحيل في ذهن المرسِل للخطاب إلى نسق في الفكر السياسي مبني على تصورات محددة، وهو ما يؤشر على ملامح الأحكام العامة المتضمنة في نصوص تستحضر بقوة الوقائع والحوادث والشواهد، في ملمحها الجزئي العارض والمؤقت، وتربطها بتجربة في التاريخ والفكر، انطلاقا من مصادرة التماثل الضمنية الي تقيمها نصوص الآداب بين النصوص والنصوص وبصورة ضمنية أيضا بين الوقائع والوقائع.
في العهد الأردشيري وهو الخلفية المرجعية الناظمة لدلالة القول الديني في الآداب السلطانية، يتم استحضار تجربة من أهم تجارب التاريخ الآسيوي في مجال الثقافة السياسية، والحكمة العملية، يتم استدعاؤها للتفكير في علاقة الدين بالملك في الإسلام.
وإذا كنا نعرف أن هذه التجربة تحدد العلاقة ضمن منظورها للدولة وللسلطة، وانطلاقا من احتواء السياسي للديني، وذلك بالنظر إلى أن دور الدولة التنظيمي يشمل مختلف مجالات العمل البشري بما فيها المجال الديني، أدركنا صعوبة مطابقة الأقوال المنقولة بالوقائع التاريخية الفعلية، وأدركنا أيضا أوجه الالتباس المتعددة التي تعبر عنها الشواهد والنصوص المترجمة والمنقولة والمعربة في متون الآداب السلطانية ومدونات التاريخ وكتب الأدب.
لنعد إلى توضيح أهداف بنية النموذج السياسي الساساني الأردشيري.
يروم العهد تصور مجتمع بلا فتن، مجتمع منظم مراتبيا، مجتمع مُتَشَكِّل في إطار هذه المراتبية، بنيته تتضمن في الآن نفسه شكلين هندسيين: الشكل الهرمي: حيث قاعدة التراتب بين رأس الهرم ووسطه وقاعدته، بكل ما يحمله الوسط والقاعدة من درجات ومراتب فرعية. ثم الشكل الدائري: حيث يشكل السلطان بؤرة الدائرة ومركزها، وتشكل الدوائر من الصغرى إلى الأكبر منها، ثم الأكبر، مقامات القرب والبعد من المركز، وهي مقامات خاصة، ثم الخاصة، وأخيرا أعيان العامة، ثم العامة، وهم السفلة الرعاع. وذلك انطلاقا من أن معيار المكانة الاجتماعية يحدده القرب أو البعد من المركز، من السلطة باعتبارها النواة المؤسسة والبؤرة الجاذبة.
في لغة العهد الأردشيري لا تحضر مفاهيم المعتقِد والكافر، المتدين وغير المتدين، ولا لغة الحاكم والمحكوم، بل يحضر التدرج الاجتماعي، المؤسِّس لتعالي الملك، باعتباره قاعدة أصلية ضرورية في المجتمع، والضرورة هنا لفظية آمرة، مؤسسة على ميتافيزيقا الطبائع الخالدة.
وقد نقلت الآداب السلطانية هذه التصورات، واحتفلت بكسرى وأردشير وأنوشروان، كما احتفت بأقوالهم، بل إنها تصورت التاريخ والسلطة السياسية في الإسلام على منوالهم. وعندما يتحدث ابن المقفع في "الأدب الكبير" عن أصناف الملك مستلهما نماذج التاريخ الفارسي، فإنه يعينه كما يلي: "اعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين وملك حزم وملك هوى، فأما الدين فإنه إذا أقيم لأهله دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، ونزل الساقط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم، وأما ملك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتسخط، ولن ينصر طعن الدليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر"(10) فإن الملك الأول في نظره، لا يحيل بالضرورة إلى دولة المدينة، دولة الخلفاء الراشدين، إنه يستدعي هنا في الغالب مأثورة فارسية تعبر عن أكثر من حالة تاريخية. أما التعديلات التي ألحقت بالتصنيف المقفعي عند كل من الماوردي وابن خلدون، فلعلها عملت انطلاقا من مأثور ابن المقفع على مطابقة القول بمعطيات التاريخ، وذلك ما سنعمل على توضيحه بتحليل نص الماوردي الذي يستشهد فيه بقول ابن المقفع المذكور، ويوضح من خلاله وجهة نظره في مُلك الدين.
يكتب الماوردي في الفصل الثاني، من القسم الثاني، من "التسهيل"، في موضوع قواعد الملك ما يلي: "إن قواعد الملك مستقرة على أمرين، سياسة وتأسيس. فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومباديه، وإرساء قواعده ومبانيه. وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة"(11) ثم يقوم بتوضيح طبيعة كل تأسيس، مؤكدا على أهمية التأسيس الديني، وقد اعتبره "أثبت أنواع التأسيس قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة"(12)، كما اعتبر أن تأسيس المال والثروة أضعفها(13).
لا يرد الحديث في تصنيف الماوردي لأنواع تأسيس الملك المنقول عن ابن المقفع عن ملك الإسلام باعتباره ملك دين، فالإسلام الدين وأخلاق الإسلام نجدها متضمنة في كتاب "أدب الدنيا والدين"، أما كتاب "التسهيل" فإنه ينسج على منوال معارف الثقافة السياسية الفارسية الإسلامية. وهذا يطرح إشكالية أخرى تتعلق بفكر الماوردي في مستوياته المختلفة، حيث يفكر الفقيه في قضايا الفقه والسياسة والأخلاق من زوايا نظر مختلفة، بل أحيانا متوازية، ولعله كان برجماتيا، حيث نجح في بلورة فكر ذي أبعاد ومرجعيات مختلفة، محاولا المواءمة بين متطلبات الفكر والعقيدة، ومقتضيات العمل السياسي بمختلف رهاناته وإرغاماته(14).
تنقل الآداب ثقافة وتقاليد سياسية ورؤية سياسية محددة، تعممها في الثقافة الإسلامية، تعممها باتفاق مع السلطة السائدة، فقد كان أغلب الكتاب الذين حرروا مدونات الآداب السلطانية، من أعوان السلطان، ومن كتاب الدواوين، بل ومن الملوك كذلك(15).
ولا تكتفي الآداب بنقل كتب تراجم الملوك، والكتب التي اهتمت بتقييد عاداتهم في الحكم، وكذا عهودهم ورسائلهم وخطبهم وأعمالهم الإصلاحية، بل إنها تنجز في قلب هذه العملية وبمحاذاتها كذلك، عملية نشر القيم المتضمنة في النظام السياسي الفارسي، كما عبر عنها العهد الأردشيري. وإذا كنا نعرف أن نظام الحكم الساساني كان فرديا واستبداديا(16)، وأن ملوك فارس الساسانيين يسمون أنفسهم الآلهة، وأنهم ورثوا عن أسلافهم "المجد الملكي الذي بمقتضاه آل إليهم الحق الإلهي، ليلبسوا تاج دولة الفرس"(17)، أدركنا المغامرة النظرية التي أقدمت عليها الكتابة السياسية السلطانية في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام. بل أدركنا المزالق الفكرية المتعددة التي ترتبت عن هذه العملية في قلب العمل السياسي التدبيري، والفلسفة السياسية الناظمة له، والموجهة لطقوسه في الممارسة السياسية بمختلف أوجهها.
أما إذا توقفنا نحن بصدده أي الدين في السياسة السلطانية، كما تعينها هذه الآداب، فإن تجربة أردشير في إصلاح الديانة الزرادشتية(18)، تحدد موقفا واضحا وتعني في نهاية التحليل أن الدولة الساسانية كانت تعمل على رعاية الدين الرسمي(19).
تمثل إصلاح أردشير للديانة الزرادشتية في مجموعة من الأعمال التي نقلت نصوص الديانة من مستوى الأشعار والأناشيد الطقوسية إلى مستوى النص الموجِّه، نص "الأفستا"، وقد سمي بالكتاب المقدس للديانة الرسمية، ونتج عن هذا، "أنه أصبح للزرادشتية في عهده نص ديني، ونظام كهنوتي، قامت فيه طبقة من رجال الدين المتحالفة مع السلطة، بأدوار محددة، ترتبط أساسا بالمجال الديني من بينها رعاية الدين وخدمة الآلهة، وهو ما خولهم جملة من الحقوق أبرزها: حق القضاء، وحق إصدار شهادة الميلاد. والإشراف على طقوس الزواج والموت، وكذا رعاية المراسيم الدينية. كالظهير وتقديم النذور والاحتفال بالأعياد"(20).
نستنتج من كل ما سبق، أن العلاقة بين الملك والدين عبارة عن علاقة احتواء واستيعاب تقوم فيها الدولة بترتيب الشأن الديني في مستوى المظاهر والمعطيات السلوكية، إنها لا تتحدد في الشكل التحالفي كما بدا لناصف نصار، وهو الشكل المنمطُ والمحدد بوجود تمايز الدين عن السياسة، ثم اختفاء الصراع وراء الخدمات المتبادلة(21).
إن العلاقة في نظرنا تتجاوز التحالف لتبلغ درجة الاحتواء. فإذا كانت جملة أردشير المتعلقة بأخوة المُلك والدين، هي التي تدفع إلى قبول شكل التحالف، فإننا نرى أن الجملة المذكورة تضيع في ثنايا النص، وخاصة في الفقرة السادسة من العهد التي يخصصها أردشير لتبديع المتدينين الذين تسول لهم نفوسهم تجاوز سلطة الملك، أو نشر الفتنة بهدف الوصول إلى السلطة، ففي هذه الفقرة تبرز بجلاء مسألة الاحتواء.
ويمكن أن نقبل التنميط الذي يقترحه ناصف نصار أثناء تصنيفه للعهد الأردشيري، مع إضافة مبدأ الاحتواء داخل التحالف، أو مبدأ سيادة الملك على الدين.
هذا هو النموذج الذي رسمته التجربة الساسانية في صيغتها الأردشيرية وفي ملامحها العامة التي بلورها ابن المقفع في "الأدب الكبير" بصياغته في حدوس وأقوال عامة سياسة الملك الساسانية، وترجمته في "رسالة الصحابة" لروح الموقف الأردشيري من مسألة احتواء الملك للدين، وذلك بدعوته إلى أن يقوم الملك بالبث في القضايا القضائية التي لا يوجد فيها نص، أو يوجد فيها خلاف(22).
في كل هذه المواقف يتبلور موقف محدد في موضوع علاقة الدولة بالدين، علاقة السياسي بالديني، تعلنه الآداب السلطانية، وتدافع عنه، بل لعلها تنجزه لخدمة هداف ومرامي محددة.
وما يؤكد أهمية هذا الموقف الذي رسمت ملامحه الكبرى المرجعية الفارسية الناظمة للآداب السلطانية، مواقف الدولة العباسية الناشئة، والمتجهة إلى تأسيس شرعيتها على الدين.
وقد لعب ابن المقفع دورا هاما في هذا المجال، وذلك بإسناده وتدعيمه النظري للموقف العباسي، انطلاقا من اعتباره أن ملك الدين يضمن فيه الحاكم طاعة الناس من خلال حراسة دينهم، والدفاع عنه، وحماية شعائره(23).
إن النتيجة الأساسية التي يمكن الوقوف عندها هنا، هي أن الدولة السلطانية كما بلورتها الآداب، تتبنى مقدس الجماعة، إنها لم تكن دولة خلاقة "بل قامت منذ السلاجقة إلى الأيوبيين والممالك والعثمانيين بتبني مقدس الجماعة"(24).
ولا يقف الأمر عند هذا بل أن هناك من يرى أن الخلافة نفسها كانت منذ قيامها ملكاً. فقد كانت "تحمل خصائص الملك الموصوفة في القرآن بالنسبة إلى الله الخالق، الحاكم المطلق، والمرسومة في تقاليد الاستبداد عند الفرس والبيزنطيين وغيرهم من الأمم القديمة، وفي نزعات العصبية القبلية عند العرب الجاهليين"(25).
استوعبت الآداب السلطانية أردشير وابن المقفع، وذلك لأن استمرار الدولة السلطانية ظل مرهونا كما وضح أحد الباحثين بضرورة "التفاوض والتفاهم مع الدين"(26).
وظفت الدولة السلطانية إذن الدين في السياسة، بما سمح لها بتجديد شرعيتها وإعادة بناء أسسها، فقد اعتبرت الدين نوعاً من الحزبية المرتبطة بالدولة، وبناء على هذا ساند حزب السنة الدولة السلطانية، وتحولت الشيعة العلوية إلى حزب معارض زمن الأمويين والعباسيين، وذلك رغم الاختلاف الذي عرفه هذا الصراع خلال مراحل ملك الدولتين السابقتين.
لكن كيف طورت الآداب المنظور الأردشيري المقفعي؟ كيف استوعبته داخل صيرورة إنتاجها لنصوصها، وإعادة إنتاجها لهذه النصوص؟
إن الجواب على هذا السؤال يقتضي منا اختيار نموذج آخر من نماذج الآداب التي تناولت مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بين الملك والدين، بصورة تتضمن عناصر فاعلة في تاريخ تطور هذه الآداب، سواء في المستوى النظري النصي، أو في مستوى علاقاتها بالدولة السلطانية في الواقع وفي التاريخ.
ونحن نعتقد أن نصوص الماوردي تستجيب أكثر من غيرها للشروط التي ذكرنا. ولهذا سنخصص مبحثا فرعيا آخر داخل هذا البحث، لمعالجة نفس الإشكال قصد التمثيل على مستوى آخر من مستويات تبلور علاقات السياسي بالديني في الآداب السلطانية، لنتمكن من معاينة أنواع التغير والتعديل والتجاوز، أو التكريس والتدعيم، الذي مارسته كتابة الماوردي على الاختيار الأول، الذي حدد معالمه العامة كل من أردشير وابن المقفع في بدايات تأسيس خطاب الآداب السلطانية في نهاية العصر الأموي وبدايات العصر العباسي(27)، خاصة وأن لحظة الماوردي في تاريخ تطور الفكر الإسلامي تعد لحظة هامة بالمقارنة مع زمن ابن المقفع، فقد عاصر الماوردي وشغل في بعض الدويلات السلطانية مناصب هامة، مَكَّنته من معرفة كثير من جوانب التدبير السياسي في علاقته بالعقيدة وتطورها، وفي علاقته بصيرورة الدولة السلطانية في تاريخ الإسلام(28).
- الماوردي: المُلك في حراسة الدين:
عندما أطلقنا على نص أردشير صفة النص الملتبس، كما نعي جيدا أن الالتباس المقصود مركب، فالعهد ملتبس في الصيغة المحفوط بها، والتباسه يتضاعف داخل السياق التاريخي السياسي الذي يترجمه، يستعيده ويحتفي بأقواله، منذ ابن المقفع إلى التنويعات الشكلية التي اتخذها العهد في ثنايا الآداب السلطانية عبر أزمنة تشكلها المتواصلة.
نحن هنا لا نتحدث عن الالتباس في العبارة رغم حصوله، وحيث ترد شذراته وفقراته في الآداب السلطانية والآداب السياسية الإسلامية بصورة متعددة فهذه مسألة تجد تفسيرا لها في عمليات التبيئة والتأويل، التي يمارسها العقل الناقل والمذوِّن للنصوص المنقولة، وخاصة عندما يكون هناك تنافر بين روح الفكر في الثقافتين اللتين تحصل بينهما عمليات النقل والمثاقفة. الالتباس الذي نريد إبرازه هنا بعد أن عملنا في الفقرات السابقة على تقليص جوانب من شحنته النصية الملتبسة يتمثل في شجاعة قبول النظام السياسي الإسلامي، والعقل السياسي الإسلامي لخطاب في السياسة مختلف تماماً في مفاهيمه وقواعده الأولى المستمدة من المنظور الإسلامي في موضوع علاقة الحاكمين بالمحكومين. بل أكثر من ذلك فقد تم تأسيس خطاب في القبول السياسي الإسلامي بالاستناد إلى هذا النص وإلى المواقف التي يتضمنها.
إن تبني الآداب السلطانية للعهد الأردشيري يشكل لحظة انقطاع قوية في عملية إعادة تأسيس دولة المدينة في المشروع السلطوي الأموي والعباسي، ثم مشروع السلطنات والإمارات التي تعددت في محيط الجغرافية الإسلامية، منذ القرن الثالث للهجرة. وفي هذا الإطار يشكل حضور العهد كما قلنا علامة دالة على تمثل نموذج سياسي، يقرن السلطة بالقهر، ويعتبر الشأن الديني ضرورة تاريخية تخص الجماعة الإنسانية، وهي ضرورة تقتضي التدبير والعناية والرعاية.
لقد استعملت الآداب السلطانية مضمون العهد الأردشيري، لأن الدولة السلطانية أدركت أن الدين في المجتمع الإسلامي حقيقة فعلية، وواقعة تاريخية، وقوة صانعة لأمة. ومعناه أننا أمام قوة تنازع السياسي في مجاله الخاص، مجال تدبير الشأن العمومي والعام، تدبير الخراج والجند والحرب والسلام. وقد حاول فهمي جدعان في دراسته الهامة حول جدلية الديني والسياسي في الإسلام، بلورة روح هذه الجدلية من خلال دراسته لمحنة خلق القرآن في زمن المأمون (218-198هـ)، موضحا أن نتائج امتحان السياسي للديني أدت في التجربة الإسلامية إلى استنجاد الدين بمظهرين: أحدهما حسب تعبيره "متصلب في الدين" يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وثانيهما عملي يتوسل إلى غاياته عند السياسي بالطاعة ويلوذ بالنصيحة لأولي الأمر، والدعاء لهم في السر والعلانية(29)، وانطلاقا من هذا التصور وفي إطار المظهر الثاني تندرج جهود الماوردي في بلورة ثقافة سياسية، موافقة على مبدأي الانقياد والطاعة للسلطان.
لابد من التوضيح هنا أن الخطاب السياسي السلطاني الذي أنجزه الماوردي، يعتبر من الخطابات الأكثر ارتكازا إلى المرجعية الإسلامية الساعية إلى استيعاب المرجعية الفارسية والبيزنطية واليونانية، وأن تنوع شخصية الرجل الفكرية سمح له بإنشاء خطاب في الآداب السياسية السلطانية له مكانة متميزة داخل سلم تطور هذه الآداب.
وقد انعكست ثقافة الرجل الموسوعية -كفاءة الفقيه القاضي وحسن رجل الدولة المصلح-(30) على نظره السياسي في الآداب السلطانية، وفي مجال الفقه، وكذا في مجال الأخلاق السياسية السنية. وهناك تقاطع وتكامل بين آرائه الفقهية والأخلاقية والسياسية يعكس كفاءته في جمع مكونات ثقافية متنوعة، واستعملها حسب المجالات الفكرية التي يخوض فيها. أما التقاطع القائم بين إنتاجه النظري، فقد كانت تقتضيه متطلبات النظر في كل مجال على حدة، وقد استوعبه الفقيه ليوظفه في سياق تطوره الفكري ودون التفات للتناقضات التي أفرزها هذا الإنتاج في الحقول المعرفية المذكورة وهي في كل الأحوال تناقضات جزئية لا تبلغ سقف المبادئ النظرية العقائدية الكبرى في صيغتها السنية.
لم يتمكن الماوردي في كتاباته السلطانية من تجاوز شبكة المفاهيم والمعطيات النصية الحافظة لنظام الآداب السلطانية. صحيح أنه عرب كثيرا منها، وذلك بكفاءته الإنشائية القوية، والمبصومة بتكوينه الفقهي اللغوي المتين، وصحيح أيضا أنه اعتنى بإدماج المرجعية العربية الإسلامية ضمن سلم المرجعيات المكونة لبنية الخطاب في هذه الآداب. إلا أنه في كل ذلك لم يستطع التخلص من قيود المقدمات، وقيود المفاهيم والمصطلحات والاستعمالات التي تخفي بها هذه الآداب، بل إن عنايته بعملية المزج والتركيب منحت نصوصه نكهة خاصة، طغى فيها مأثور الآداب الدنيوي، وظل فيها المأثور الديني نصيا تبريريا لا أقل ولا أكثر. ونظرا لطغيان الثقافة السياسية الفارسية والإغريقية في هذه الآداب فقد تحولت الاستشهادات النصية الدينية التي تملأ نصوصه، إلى استشهادات قريبة في روحها داخل النص، من روح النص في نظامه الشامل، أي أنها ظلت أقرب إلى الآداب السلطانية في صيغتها العملية التدبيرية وروحها الساسانية، دون أن تتمكن كنصوص في الدين وعظات في الأخلاق الإسلامية من إنجاز التحويل المفترض باعتباره نتيجة ضرورية لعمليات شحنها وحقنها بجرعات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومأثور أقوال الصحابة والخلفاء الأول.
في هذا الإطار ظل حديث الماوردي في نصوصه السلطانية عن الدين دون تخصيص، وذلك رغم أن إسناده الديني للمجال السياسي يكون دائما بالنص القرآني، وبمختار الحديث المحمدي، ومأثور من حكموا دولة المدينة بعد موت محمد.
لقد وظف الماوردي المعطيات الإسلامية ليؤكد نفس مقدمات السياسة السلطانية، دون أن يرى في هذه المقدمات ما يتنافى مع مبادئ العقيدة الإسلامية.
إلا أنه لم يكتف بهذا بل وجدنا أنه يعبر تماما في موضوع علاقة السلطة بالدين، عن متطلبات الدولة السلطانية في زمن يسود فيه الاعتقاد بمنظومة في القيم دينية وإسلامية بالتخصيص والتعيين.
صحيح أن نص "نصيحة الملوك" يحدد بوضوح الطابع الديني لكتابته، وأن الباب الرابع في النص مكتوب للتذكير بأخلاق الاستعداد للآخرة مادامت الدنيا دار زوال(31)، ومادام الماوردي يعتبر أن الملك مخاطرة ومحنة وابتلاء. وصحيح أيضا أن الباب الأول من الكتاب يتحدث عن ضرورة النصح، لكن هذه الكتابة لا تخرج عن ما أسماه فهمي جدعان "بالمظهر العملي للدين في مواجهته للدولة السلطانية"(32).
لقد كتب الماوردي "النصيحة" و"التسهيل" ليدعو الخاصة والعامة إلى طاعة السلاطين، أما عصيانهم ورفض الانقياد والانصياع لهم، فإنه يوصل إلى طريق "الهرج والمرج والفتنة". يتحصن الفقيه بالركن الأخلاقي ليعزز دولة الملك، ويرضى بحراستها للدين، فتضمن له الدولة السلطانية مقابل خدمته مكانة تابعة، إنه مقتنع بالقول المنسوب لعثمان بن عفان "يزع الله بالسلطان ما يزع بالقرآن"(33) ومقتنع أيضا بمحتوى عهد أردشير، حيث يستحضر في كتاباته السلطانية فقرات مطولة منه، وخاصة الفقرتين الرابعة والسادسة، وهما الفقرتان المخصصتان لمسألتي لزوم الدين للملك، ولزوم الملك للدين، ومسألة كيفية مواجهة أهل البدعة المناهضين بالدين للسلطة السياسية، التي يفترض فيها حراستها للدين. وقد اعتبر الماوردي بناء على محتويات الفقرة السادسة من العهد أن أرشد الولاة "من حرس بولايته الدين"(34).
يوكل الماوردي إذن للسلطة زمام حفظ الدين، ويقوم الدين في الوقت نفسه بتهيئ القواعد الضرورية للطاعة اللازمة لاستمرار الملك. وبذهب الماوردي هنا مذهبا بعيدا فيعلن أن ليس في العقل ما يجمع الناس على حكم يتساوى فيه القوي والضعيف، لهذا "وقفت مصالحهم على دين يقودهم إلى جمع الشمل واتفاق الكلمة، وينقطع به تنازعهم"(35).
يتوقف الماوردي في هذا الموضوع أمام تجربة السلطة الإسلامية، وهو يعي أبعادها الداخلية، وذلك بحكم المهام التي قام بها طيلة حياته ويحكم انخراطه في العمل السياسي المباشر بالكتابة والدفاع عن تصورات محددة للنظر السياسي والتدبير السياسي في عصره.
تحكم وجهة نظر الماوردي في هذا الباب مقدمات صريحة ومعلنة أبرزها:
1- اعتباره السياسة جزءا من الدين
2- إقراره بأن استمرار السلطة يقتضي بنائها على الدين بل أكثر من ذلك، فالسلطة المنفصلة عن الدين، حتى لو كتب لها أن تستمر تظل غير شرعية في نظره، "فكل سلطة لا تبنى على الدين، الذي تَوَلَّد حوله الإجماع، ويعتبر الناس فيه أن الطاعة واجب والتعاون فرض"(36)، تظل سلطة مؤقتة.
لكن كيف استطاع الفقيه المتضلع في علوم الدين أن يربط الدين بالسلطة؟ وهل كانت عملية الربط في ذهنه عملية دينية أم عملية سياسية؟
لا جدال في أن الرجل كان يعي جيدا أهمية أدب الملوك، ويعي أهميته بالذات في باب التدبير السياسي، لكنه يريد للإسلام مكانة داخل هذه الآداب، أي داخل الفعل السياسي السلطاني، إنه لا يريد التفريق بين الديني والسياسي، فيعمل على توسيع دائرة الديني في الفقه والشريعة، لتشمل فضاء السياسي في المستوى العقائدي، ويضمن ما سماه أحد الباحثين "عدم الفصل بين شؤون الحكم وشؤون الشريعة الإسلامية"(37).
يمكن أن نضيف إلى ما سبق أن تفكيره الديني يدفعه إلى اعتبار أن الواجب الديني يستدعي ما يلي:
- المحافظة على الإسلام ومبادئه الأساسية.
- مراعاة الاجتماع السياسي المستقر، أي قبول واقع الدولة السلطانية كما هي(38).
ولا يقتصر الأمر على هذا "بل يتعداه إلى العمل على نشره، من هنا فإنه يتوجب عليه أن يجاهد ضد الذين يُدْعَوْنَ إلى اعتناق الإسلام حتى يعتنقوه، أو يقبلوا الدخول في نظام أهل الذمة. ثم أن جوهر الإسلام هو نظامه التشريعي، والواجب الديني للحاكم هو في الأساس، السهر على حسن تنفيذ هذا النظام"(39).
يحدد موقف الماوردي لحظة إيجابية في التعامل مع شيئين اثنين: مقدس الجماعة، والسلطنة السائدة، ويبني هذا الموقف على تصور معين للدين ومنظور خاص للتاريخ وللتجربة السياسية الإسلامية داخل هذا التاريخ.
يتضح هذا الأمر بصورة جلية في مقدمة القسم الثاني من "التسهيل"، المخصص لسياسة الملك، ففي تقديمه لهذا القسم يطرح تصوره للدين، للإسلام، ويربط هذا التصور بفضاء السلطة، فالدين في نظره "يصلح السرائر"، ويمنع من "ارتكاب الذنوب"، إنه "يبعث على التأله والتناصف" ويمكن من "الألفة والتعاطف"(40) وكل هذه المعطيات لا تصلح في نظره الدنيا إلا بها، إن الدين وسيلة لتجاوز الشر القابع في النفوس(41)، وسيلة للتعالي عن الحالة البشرية الغفل من العقيدة. والدين أيضا يوجب في المستوى الجمعي الطاعة والانقياد لأولي الأمر، حتى تستقيم أمور الإنسان في الجماعة، وأولو الأمر هم السلاطين، الذي ابتلوا برعاية وتدبر شؤون الخلق، وحفظ الدين الذي يمنحهم الأمان "وحسن السريرة وجميل السيرة". ولا يمكن أن يستمر الدين في الجماعة دون سلطة، وذلك لأن السلطة في نظره "زمام لحفظ (قواعد الدين)، وباعث على العمل بها"(42).
يؤسس الماوردي بهذه المقدمة تصوره الخاص لعلاقة الدين بالسلطة، وهو يؤسسه انطلاقا من هذه المقدمة العامة لينتقل بعد ذلك إلى إعادة إنتاج العهد الأردشيري لعلاقة الدين بالملك، والمنظور المقفعي لأشكال الملك وأنماطه، وهو الأمر الذي يترتب عنه استمرار حضور التصور الفارسي الأردشيري منه خاصة، لنمط العلاقة التحالفية، الاحتوائية والوظيفية بين الدين والسلطة، حيث يعمل السياسي على استيعاب الشأن الديني، بما لا يجعله يتجاوز سقف السلطة الأعلى.
ونحن لا نعتبر هذه المسألة خاصة بالتجربة السياسية الدينية في الإسلام، بل إنها تجربة معروفة في سياق تطور علاقة الديني بالسياسي في تاريخ الفكر السياسي الغربي أيضا(43).
يستوعب جهد الماوردي في الملاءمة والمواءمة بين الدين والسلطان تجارب التاريخ الإسلامي، هذه التجارب التي رسخت شوكة الوازع السياسي، واعتبرت أن الإسلام يمنحها رمزية دينية، وذلك لأنه يشكل الوجه الأبرز في الجماعة التي تسوسها.
إننا نعتقد أن روح موقف الماوردي في مسألة علاقة الدين بالملك، لا تختلف عن مواقف السلاطين العباسيين، ومواقف السلطنات التي نَظَّر الماوردي لوجودها في كتابته السياسية النصيحة، وفي تناوله للأحكام السلطانية(44).
نستطيع التأكد من ذلك بمراجعتنا للعهد الذي كتبه المأمون سنة 201هـ لعلي بن موسى الرضى، وهو عهد تكشف فقراته عن رؤية سياسية متماسكة، رؤية جامعة بين متطلبات الحزم الدنيوي ومقتضيات الشأن الديني. وسنحاول توضيح نوعية الجمع المتضمنة في هذا العهد بما يساعدنا على إدراك جوانب من خلفية نظر الماوردي لجدليات العلاقة التاريخية المتعددة والمتناقضة في موضوع الدين والدولة، وذلك دون أن تهتم بالملابسات السياسية الأخرى التي ارتبطت بهذا العهد في تاريخ حكم المأمون، والتي كان من بينها الشبهة التي اقترنت بموت علي الرضا (سنة 203هـ) بعد صدوره(45).
1- يسلم العهد في ديباجته بأن الأصل في الجماعة هو الإسلام، وأن هذا الأصل هو الذي علَّم المسلمين "المجادلة بالتي هي أحسن"، كما وجههم للجهاد والغلظة لنشر رسالته ومغالبة المشركين.
2- الخلافة استخلاف، وهي حق الله في المسلمين، وحقه في الأمر بطاعة أولي الأمر، ثم إقامة الفرائض والحدود حسب شرائع الله وسنته، ثم الجهاد لنشر رسالته، والعمل أثناء ذلك على حق أمن السبل وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين، وجمع الألفة.
3- الإمام الخليفة يمتلك صلاحية في تولية من يقوم بعده بأمور المسلمين، فينصبه علماً لهم، مفزعا في جمع ألفتهم، ولم شعثهم، ليأمنوا الفرقة، ويرفعوا كيد الشيطان عنهم. بل أكثر من ذلك فإن العهد يتضمن تصريحا واضحا مفاده "أن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله"(46)، وذلك تجنبا للشقاق والعداوة والفرقة والفتنة.
4- الخليفة الأمير مؤتمن بالتفويض الإلهي عن الحق، ولهذا فهو مطالب بالعمل على كل ما يعز الدين ويقمع المشركين، والعمل كذلك على صلاح الأمة ونشر العدل، وكل ذلك بإقامة الكتاب والسنة.
تلك هي أهم الأفكار الواردة في العهد، وهي تظهر بجلاء هيمنة تصورات محددة لكنها تسكت عن أمور أخرى نجدها في الممارسة السياسية للمأمون، في تاريخه الفعلي، ونجدها في شواهد أخرى نصية منسوبة إليه.
فقد خاطب المأمون مرة ابنه قائلا: يا يني ارجعوا فيما أسببه عليكم من التدبير، إلى آراء الحزمة المجربين، فإنهم مراياكم، يرونكم ما لا ترون، وقد صحبوا لكم الدهر، وكفوكم التجارب"(47).
وقد حكى صاحب "لطف التدبير"، عن المأمون واقعة تؤشر على معطيات في النظر السياسي لا علاقة لها بروح العناصر المعلنة في العهد الذي قمنا باستخراج عناصره المحورية. يقول الإسكافي: "سأل المأمون بعض علماء العرب عن رجالات الأرض، فقال بعضهم: أبو بكر وعمر، وقال بعض: علي، وقال بعض: معاوية وعمر في الدهاء والإرب والمكيدة. فقال المأمون: إنما أردت رجالا قاموا بنقل دولة ونهضوا بأمر يعجز الرجال عن النهوض بمثله، فقالوا أمير المؤمنين أعلم. فقال: رجالات الأرض خمسة: الاسكندر الرومي نهض من الروم حتى أباد مُلك دارا، وغلب على الأقاليم السبعة. وأردشير أقبل بمثل همته، حتى رد ما انتشر من ملك إقليم بابل على غرة، وبهرام جور في فتكه، وقتال خاقان ومن معه في ثلاثمائة فارس. وأنو شروان مع حداثة سنة توثب على مزدك في جمعه، وقد وافى داراً مملكة قباذ فأبادهم، وأبو مسلم صاحب دعوتنا، نهض في دولتنا وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة"(48).
عندما تتم قراءة العهد ومتابعة الروايات الواصفة لأقوال وأفعال ومواقف المأمون التاريخية، تتشكل صورة تاريخية عن الممارسة السياسية المقترنة بالرؤية الدينية في تجربة المأمون وفي تجربة كثير من ملوك المسلمين، عبر تاريخ تطور الحكم في الإسلام(49). فلم يكن المأمون في العهد الذي كتب يفكر في الشأن الديني، لقد كان همه الأول سياسيا. إنه بإرضائه لتيار من التيارات المعارضة للدولة العباسية، يعمل على استمرار سلطته بالدرجة الأولى، أما الصيغ الأخرى ذات الطبيعة الدينية فإنها توظف فقط لتأمين ما ذكرنا.
فلا جدال في عناية العهد بالشرعية الدينية حتى عندما تكون رمزية، فتشهد على حكم يتعلق بجماعة دينها الإسلام. وفي العهد والأقوال الأخرى عناصر تنتمي إلى مجال التدبير السياسي الواقعي والفعلي، كما رتبته ملامح تجربة تاريخية محددة، هي تجربة الدولة في الإسلام نقصد بذلك شؤون التدبير الجهادي وشؤون تعزيز الرسالة الدينية، وكذا قضايا "حفظ الرعية والعدل"، ولو أن الأمر لا يتجاوز في الغالب عتبة الخطاب.
أشار أحد الباحثين قبلنا أثناء قراءته لعينة نصية هامة من آثار المأمون ومن بينها العهد الذي قدمنا إلى اقتران النظرة الدينية بالسياسة الدنيوية في ممارسته. واعتبر أن السمة الغالبة على ممارسته ومشروعه السياسي هي النزعة العملية، وذلك لأنه كان "ملكاً متفرداً بالسلطة، استحواذيا وكلانيا"(50).
وقد وضح الباحث المذكور أن محنة خلق القرآن التي أدارها المأمون ورتب عناصرها تعبر بكثير من الجلاء عن الجدلية التاريخية العميقة التي رسمت إشكالية الدين والملك في التاريخ الإسلامي.
فماذا حدث في مسألة خلق القرآن؟ وكيف يفسر الأستاذ فهمي جدعان ما حدث في ضوء ما نحن بصدده، أي الدين في الدولة السلطانية كما تقرره نصوص الآداب السلطانية؟
يتعلق الأمر في هذا الموضوع في نظر الباحث المذكور، بتنامي سلطة أصحاب الحديث والسنة ومن يدور في فلكهم، وكانوا في زمن المأمون قد بلغوا شأواً من القوة والانتشار جعل منهم قوة أيديولوجية ذات قواعد عميقة في المجتمع، أي سلطة منافسة "تنظر إلى الدولة بمنظار تغيير المنكر"، ولهذا السبب تَقدَّم "السياسي" ليعيد الأمور إلى نصابها ويحسم الصراع.
الصراع في نظر الباحث كان صراعاً على السيادة والسلطة، وما قام به المأمون في الواقعة المذكورة يتجه لرد الأمور إلى مكانها الصحيح، أي رد الفقهاء ورجال الدين إلى حدود الطاعة، ولم يجد أي حرج في التوسل بالديني للانتصار على من يدعون تغيير المنكر، فلم يكن ذلك الاستخدام إلا لحفظ "ماء الوجه الشرعي للخلافة، ولأن الديني كان أنقذ وأمضى في الإطار الاجتماعي المرجعي القائم"(51).
وبناء على ما سبق يحلل الباحث مواقف الفقهاء من مسألة التوفيق بين تغيير المنكر ولزوم الطاعة للسلطان، فيعتبر أن التوفيق تبلور في ثلاثة اختيارات:
- فئة من الفقهاء اختارت الانقياد والطاعة، وعملت مع السلطان، وسوغت أعماله.
- فئة اعتزلت وابتعدت عن "جور الزمان" و"إمارة السفهاء".
- وفئة ثالثة، اختارت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومارسته بدرجات متفاوتة من الشدة واللين.
وقد جسد هؤلاء في نظر الباحث "واقعية كبيرة"، واتباعية تكاد تكون مطلقة(52). ونحن نعتقد أن أعمال الماوردي تندرج ضمن فئتين من الفئات الثلاث، الأولى والثالثة، فقد اختار العمل مع السلطان، كما اختار التأليف ناصحا ومدافعا عن الدين، وضمن هذا الأفق تفهم مصنفاته في الآداب السلطانية كما يفهم موقفه من العلاقة بين الديني والدنيوي، بين السلطان والإسلام.
إن ما يمكن استخلاصه من التحليل المذكور واستنادا إلى معطيات محنة خلق القرآن، هو أن السياسي الذي يستند في شرعيته إلى الدين، يواجه الذين يخاصمونه دينيا، وذلك باستعمال الدين لحساب السيادة السياسية لأنه يعي جيدا أن المرجعية الدينية هي قاعدة القواعد في المجتمع في مستوى التربية الخلقية والدينية كتربية تعنى بالشأن الفردي الذاتي، أما السياسة وهي شأن عام فإن محافظتها على قوتها واستمرارها تدفعها إلى استعمال الديني لتبرير وتزكية مشروعها في القيادة الدنيوية وذلك بنشر قيم الطاعة والانقياد.
هل يمكن أن نقول بعد كل هذا إن الدين في الدولة السلطانية يعتبر جزءا من المشروع السياسي السلطاني؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تتطور الآداب السلطانية في أفق وضع هذه المسألة في صيغ مُحوِّلة للنظر السياسي، ومبلورة لرؤية معينة تحدد مجالات تداخل وانفصال السياسي عن الديني؟ لماذا ظل الاختلاط سمة ملازمة للعلاقة القائمة بينهما؟ ولماذا ظلت الآداب رغم طابعها العملي التدبيري، سجينة رؤية محددة لعلاقة الدولة بالدين؟ ذلك ما يحتاج إلى بحث مستقل نخصصه لمقاربة موضوع عوائق تطور الثقافة السياسية السلطانية في الإسلام(53).



الهوامش


1- ناصف نصار، منطق السلطة، مدخل إلى فلسفة الأمر بيروت، دار أمواج 1995، ص144.
2- ناصف نصار، منطق السلطة، ص144.
3- برهان غليون، نقد السياسة، الدين والدولة، ص114-113.
4- Bertrand Badie, les deux Etats (ED), page : 57
5- منطق السلطة ص160.
6- عهد أردشير، حققه وقدم له الدكتور إحسان عباس، دار صادر 1967.
7- يقول أردشير: "واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين، فلابد للملك من أسسه، ولابد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهدوم. وأن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتلاوته والتفقيه فيه، فتحملكم الثقة بقوة السلطان على التهاون به، فتحدث رياسات مستترات في من قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة.
واعلموا أنه لن يجتمع رئيس في الدين مسر ورئيس في الملك معلن في مملكة واحدة قط إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأن الدين أس والملك عماد، وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صاحب العماد..." ص54-53.
8- انظر تعريفا موجزا بأردشير في الطبري، تاريخ الأمم والملوك، صفحات 57-58-59. وفي مقدمة محقق عهده الدكتور إحسان عباس ص18-7.
9- حول الديانة الزرادشتية راجع الفصل الثالث المعنون: الزرادشتية دين الدولة، ضمن كتاب كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين ص130 (مرجع سبق ذكره) وكذا مادة الزرادشتية في الموسوعة الفلسفية العربية المجلد الثاني، ص690.
10- ابن المقفع، الأعمال الكاملة ص250.
11- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص203.
12- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص203.
13- إن الفقرات التي يوضح فيها الماوردي انطلاقا من التصور المقفعي رأيه في أنواع الملك، تليها فقرات في ص206، يقوم فيها بشرح نص ابن المقفع الأصلي في الأدب الكبير، ص250، ضمن الأعمال الكاملة لابن المقفع (مرجع سبق ذكره).
14- راجع أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي، ص80-49.
15- نذكر هنا على سبيل المثال، "عهد أردشير"، ونص "واسطة السلوك" للسلطان الزياني.
16-
Maurice Robin, Histoire comparative des idées politiques, Tome I, page :443.
17- محمد ضياء الدين الريس، الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية ص59.
18- راجع مادة الزرادشتية في الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني ص690 (مرجع سبق ذكره).
19- رتيشارد اتيون، مجلة الاجتهاد ص185 ع26/27-1995.
20- الزرادشتية، الموسوعة الفلسفية العربية، ص691.
21- ناصف نصار، منطق السلطة، ص161.
22- ابن المقفع، رسالة الصحابة ضمن الأعمال الكاملة ص313-312.
23- ابن المقفع، رسالة الصحابة ضمن الأعمال الكاملة ص313.
24- رضوان السيد، أهل السنة والجماعة دراسة في التكون العقدي والسياسي ص233-268، ضمن كتابه، الجماعة المجتمع والدولة.
25- برهان غليون، نقد السياسية، الدولة والدين ص79.
26- برهان غليون، نقد السياسية، الدولة والدين ص143.
27- يتحدث محقق العهد ومقدمه الدكتور إحسان عباس عن الاهتمام بالعهد في العصور الإسلامية، فيقول: "اعتقد أن عهد أردشير قد ترجم إلى العربية في دور مبكر، وأنه ربما تمت ترجمته في أواخر العصر الأموي"، ويورد شواهد تثبت هذا الأمر، راجع صفحات 35-34-33.
28- سعيد بنسعيد، دولة الخلافة، دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي الفصل الأول ص23-45.
29- فهمي جدعان، المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ص355.
30- راجع دراسة حنا ميخائيل، السياسة والوحي، الماوردي ومن بعده، دار الطليعة، بيروت 1997.
31- نصيحة الملوك ص147.
32- المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ص355.
33- يرد هذا القول في أغلب خطابات الآداب السلطانية، راجع على سبيل المثال، كتاب "اللؤلؤة في السلطان" لابن عبد ربه ص7.
34- تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص199.
35- تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص199.
36- حنا ميخائيل، الوحي والسياسة، ص74.
37- حنا ميخائيل، الوحي والسياسة، ص79.
38- حنا ميخائيل، الوحي والسياسة، ص79.
39- حنا ميخائيل، الوحي والسياسة، ص81.
40- تسهيل النظر ص199.
41- راجع الفصل الأول من الباب الثاني.
42- نقد السياسة، الدولة والدين، ص85.
43- راجع دراسة هامة حول مكانة الدين والله في فلسفة هوبز:
Raymond Polin, Hobbes, Dieu et les hommes, première partie 7-72.
44- سعيد بنسعيد، دولة الخلافة، ص128-105. وكذلك بحث أركون الرؤى السياسية والتاريخ الواقعي، ضمن كتبه:
L’islam morale et politique, page : 121-131.
45- في موضوع علي الرضا، يمكن مراجعة وجهة نظر الجابري في كتابه: المثقفون في الحضارة العربية ص94.
46- جمهرة رسائل العرب، المجلد الثالث ص342.
47- المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، هامش رقم 2 ص243.
48- لطف التدبير ص15-14-13.
49- راجع قراءة الجابري للمحنة، وهي قراءة تناقش بعض نتائج فهمي جدعان، وتتجه للتفكير في موضوع المحنة انطلاقا من بعض إشكالات الحاضر، "المثقفون في الحضارة العربية" ص89-115.
ويمكن مراجعة أيضا دراسة هامة للدكتور محمد أرشيد العقيلي، المعتزلة وصلتهم بمحنة خلق القرآن، ص106-137 مجلة: دراسات تاريخية، الصادرة عن لجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق: 41/42-1992.
50- المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ص262.
51- المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ص268.
52- المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام ص339.
53- راجع الفصل الثاني من الباب الثالث من كتابنا: في تشريح أصول الاستبداد، قراءة في نظام الآداب السلطانية وهو بعنوان: في سقف التدبير السلطاني: الميتافيزيقا والأخلاق، دار الطليعة، بيروت 1999.

د. كمال عبد اللطيف

أستاذ الفلسفة – كلية الآداب - الرباط.
أعلى