حسن أبو سيف - هجرة الطمي

* إهداء إلى الشاعرة أمل الفرج

يا رب السماوات التي لا نراها، ولا نعلم سرها، جسدي الذي أسكنه جف، أين طوفانك المفاجئ ليُعيد ترتيب الأمور؟.

لم تكن وجهتنا معلومة.. هي وشاية الطير حملها بمنقاره، لنعلم بأن هناك بعيداً عن أقدامنا تنضج الحياة.! سقطت من عيني " نوح " دمعتان عندما بدأ المطر، تحرك قلبه.. عندما غمر الماء الأرض.. فتعلمنا منذ ذلك المشهد ركوب الماء، وتعلم معنا التراب الملتصق بالجبال كيف يهاجر على سطح الماء بعد أن امتزج بها ليصبح طمياً.


كان يثبت عينيه بالبحر بالأمواج البيضاء الممزوجة باللون البني!.. وهو يتلو كلماته لا يتحرك إلا عندما يخرج يديه من معطفه ليزفر فيهما أنفاسه الحارة، ثم يعود للصمت والسكون من جديد.

يا رب الماء المخلوق بالسماء.. ضيعتٌ وجهتي.. وتشتت صوتي بين المسافات الشاسعة، تشقق لساني من ترديد الكلمات الهلامية، عيناي لم اعد أرَ بهما.

كنتُ كضفدع يحمله السيل إلى الموت اللذيذ, وهو يزغرد.

أين النار؟!

أين الدفء؟!

أين المرأة المتبرجة بأنوارها ؟!

لم أجد شيئاً..

هذا سهمي الذي سددته إلى السماء يوماً، أصوبه للمرآة، لينكسر وجهي، وتبقى المرآة !

من أوقف الحياة؟.. من أحرق المدن التي شيدتها؟.. من أوصد الأبواب في وجه البنات؟.. من علق في رقابهن ساعات عالية الدقات؟!. من تعود أن يقبلهن خلف البيوت وهو ملثم الوجه؟.. إنه أنا.. ومعي الطمي الذي علمني الهجرة معه في نفس الاتجاه !.. إنه شيطاني الذي لم تنفخ فيه الروح!


كنتُ وأطفال الحي نراقب الرجل بمعطفه القديم وشعره الكثيف ولحيته الطويلة المهملة, وهو يقف أمام البحر لفترات طويلة ولا يتحرك.. كنا نخاف منه.. لكن مع مرور الأيام كنا نقترب منه اكثر.. وهو على حاله لا يتحرك!.. وبصراحة كنا نراقبه لنتأكد من معلومة قالها أحد الأطفال عنه.. إلى أن جاء يوم اقتربت المسافة بيننا جداً.. التفت إلينا فجأة.. تراجعنا للخلف.. غير أن الابتسامة التي ارتسمت على وجهه أعادت لنا الثقة به من جديد.. نظر لنا بصمت ثم تكلم؛ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها صوته.!

_ هل تعلمون بأننا نشبه هذا الطمي الذي غير زرقة البحر بلونه البني!

نحن أيضاً حولنا كل الأشياء إلى نسخ تشبهنا.. أنتم كأطفال تظنون أنفسكم لا تعلمون شيئاً.. لكنكم في الحقيقة تعلمون الكثير.. تعرفون كيف تختارون الأشياء التي تشبهكم.. والأشياء التي تختلف معكم تعادونها.. الطمي جاء من الجبال العالية ليحط رحيل هجرته إلى هنا.. ونحن أيضاً جئنا من نفس الاتجاه!.. هذا الطمي سيثور عليه البحر قريباً ويقذفه بأمواجه ليلتصق على الصخور ثم يجف ومن بعدها تنمو عليه الطحالب !

_ لم نكن نفهم ما يقول.! لكن نبرة صوته كانت جميلة جداً.. هو أيضا شعر بعدم استيعابنا.. عاد للصمت والنظر للبحر من جديد, شفتاه تتحركا.!

سطح الأرض الذي حفرته المياه كمجرى لها هو حرص قديم بلا معنى.. الشمس ستجففه بعد حين.. الضفادع السوداء ذات الأذناب ستعيد رصف نغمات الزغاريد في انتظار السيل!.

النار التي جففتنا هي التي ستحرقنا.. والماء الذي صنع بنا الرطوبة.. نخاف أن يخترقنا الآن.. هربت السنوات العجاف ولم تأتِ الأخر.

والانتظار:

حصى يقفز على سطح الماء بلا هدف

والطمي المهاجر كل عام يسمع كلامي.


كنا نحن الأطفال ننظر له ونلاحظ سرعة حركة شفتيه بدون صوت محاولين التقاط الكلمات لكن بلا جدوى.. إلى أن توقفت شفتاه عن الحركة وتحرك إلى الأمام باتجاه الصخرة العالية.. اقتربنا منه كثيراً وعندما وصلنا له قفز في الماء.. خفنا كثيراً.. لأنه لم يخرج.. تحركنا باتجاه الحي نركض صارخين فيهم بأن هناك رجل سقط في البحر.. وعندما اجتمعوا حولنا وفهموا منا القصة..قال: أحدهم بأنه هذا رجلاً يسقط كل عام.



* ميادين
العدد: 38.. السنة: 03.. 06/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى