عبد الوهاب عيساوي - الرجل الهارب من الرواية

قابلتُه أوّل مرّة في القطار، وربّما كان آخر لقاء فيه.

قد تتساءلون عن أيّ قطار أتكلّم؛ ففي بلادنا الشاسعة، توجد العديد من الخطوط الحديدية التي تمرّ فيها القاطرات بدون إعياء وهي تجرّ أذيالها. أنا أقصد ذلك الذي يربط المدينتين ب و ج، وبالضبط، الفضّي ذو الرقم ستّة.

حدث اللقاء أوّل الخريف، ربما لأنني أحبه. لذلك، أعتقد أن قصّة الرجل الذي التقيته هناك بدأت وانتهت أيضاً، في هذا الفصل الحزين المائل إلى الصفرة الداكنة منذ بدايته.

قبل أن يبدأ القطار في التقدّم نحوي، كان ما يزال يحتفظ بشكله الضئيل، الذي يزداد وضوحاً كّلما اقترب منّي أكثر، تركض فوقه سحابات سوداء مثل الغربان وهي تلاحقه، ولكنها عبثاً تحاول؛ إذ كانت تتبدّد بعد لحظات فقط من تشكّلها.

صَفَرَ يومها بقوّة، جعل كل المسافرين وحتى المنتظرين هناك يفزعون. صوته كان أقوى من السابق، خمّنت ذلك فقط، وربما أيضاً قد أكون مخطئاً، أو أن هذا الشعور كان وليد لحظات الاستغراق التي أعيشها في الشهور الأخيرة. هكذا بدا لي، لأنها هي أيضاً أخبرتني بأنني صرتُ أتكلّم عن أشياء غير موجودة، لم تحدث. ضججت يومها، لكوني سأصبح مختلق حكايات أحمق.
"
قد أكون مخطئاً، أو لعلّ هذا الشعور وليد لحظات الاستغراق التي أعيشها مؤخّراً
"

وأنا أتكلّم عن قصّة الرجل الذي قابلته في القطار، كنت أعتقد أنني، بالتفاصيل التي أحفظها عن قصتي سأكون أكثر صدقاً، لكني اكتشفت العكس، وأنا أرى عينيها وهما تُداريان إشفاقاً، ثم وهي تختلق الأعذار لترحل، لكني لم أستطع الكتمان، شيء ما في صدري يشتعل، ولم أجد غيركم أنتم أصدقائي القدامى، قد تتحمّلون جنوني، وقبل أن أتكلّم أرجوكم بصدق أن تتواطؤوا قليلاً معي، وتأكّدوا من أنني لن أنسى لكم هذا الجميل.

كان جوزيف - هكذا دلّل على اسمه - بداية لقائنا، في نهاية الخمسينيات، امتزج الشيب بسواد شعره الفاحم، أمّا التعب الذي كان مسطّراً تحت عينيه البنّيتين، فلم يكن وليد السفر، بل السنين. هو قال ذلك، كما تحدّث بنوع من الحذر عندما كان القطار يجتاز المحطّة. بدا لي وجهه مثل نبيل إسباني تذكّرته حينها، علّقت على ذلك، ولكنه كان أميل لو كانت هذه الشخصية تشيكية.

- لماذا؟

سألته.

لم يجب، وانشغل بإزاحة نظّارته إلى الأعلى، إذ ما تلبث أن تتزحلق إلى نهاية أنفه، كما أبدى انزعاجه من صوت القطار، غير أني لم أكن مقدّراً ذلك، لأنه لم يكن كما وصفت، بل كان خوفاً، ربما من أشياء ستحدث، لأنه لا يلبث أن يلتفت إلى الخلف، بينما كنّا جالسين على الكرسي الحديدي داخل المحطّة.

نظر إليّ باستغراب بداية جلوسي بجواره، واعتدل بعد أن كان متّكئاً على محفظته الجلدية الضخمة، ولكنه بعد لحظات من قراءة الجريدة، عاد يسألني عن أحد المحامين، وهل ما بزال حياً، وحين أومأت بأني لا أعرف، تأفّف، وعاد إلى جريدته يتصفّحها. توقّف طويلاً عند صفحة الحوادث، ندّت عنه صرخة، كتمها بسرعة بعد أن رمى الجريدة مسافةً غير بعيدة أمامه، تحرّكت من مكاني وتناولتها، وبينما رحتُ أفتّش في العناوين، قرأت: مقتل محامٍ عجوز في ظروف غامضة، فعرفت أنه الشخص الذي كان يقصده.

عندما التفتُّ إليه، كان قد زايله الفزع، وكأنه قد تعوّد - بطريقة ما - على ضبط توازنه، وقال بامتعاض: "إذن الأمر هكذا، لم أعتقد أنهم سيُدخلون المحامي أيضاً في حساباتهم. كنت أظنّني الوحيد الذي يطلبونه، يبدو أن باسكال كان دوماً على حقّ، علينا ألّا نفتّش على الأمان، لأنه لا راحة لنا إلّا في البقاء على الوضع الذي رسمته الطبيعة لنا، أو المؤلّف الذي كان يريدني أن أنقاد لهم ذلك اليوم، حينما داهموا غرفتي في الفندق، وقادوني إلى غرفة جارتي حيث حقّقوا معي، واتّهموني من دون أن أعرف ماهية التهمة، تَخيَّل أنهم بعثروا الصور في غرفة جارتي، واضطررت يومها لانتظارها ليلاً، حتى أعتذر نيابة عنهم. قالوا لي في التحقيق بأنك يا سيّد جوزيف مقبوض عليك، ولكنهم غادروا الفندق من دوني، كما حدّدوا لي يوماً آخر للتحقيق. لم أذهب، رفضت الانصياع لهم، ومنذ ذلك اليوم، وأنا أفرّ. مرّةً، وجدت الجنديين في إحدى غرف البنك حيث أعمل، بالطبع فررت".

اغتنمت توقّف السيد جوزيف متذكّراً تفاصيل حكايته، وسألته:

- ما الذي فعلته حتى تُقاد إلى التحقيق؟ مثلاً هل اختلست مالاً من البنك؟

- لا.. بالعكس، كنتُ جيّداً في عملي. كان المدير يُقدِّرني، وأحياناً يعزمني إلى بيته. وحتى نائب المدير كان طيباً معي برغم خبثه، اكتشفتُ ذلك عندما كان يسحب المتعاملين، خاصّتي، إلى مكتبه بطريقة دبلوماسية، وفي خروجهم تكون وجوههم صافية ومليئة بالرضا، وأفواههم المبتسمة لا تلبث أن تلهج بالثناء عليه.

- إذن ما الشيء الذي أحدثته يا سيد جوزيف، حتى تُعامَل بهذه الطريقة المشينة؟

- صدّقني، لا أدري. في بداية فراري قصدت محامياً في المدينة ج، كان من معارف العائلة القدامى، وتركته عندما اكتشفت أنه كان يماطلني تحت ضغط المؤلّف.

- المؤلّف؟! ماذا تقصد بالمؤلّف؟

- أنا مستغرب من أنك لا تعرفه. إنه شخص مليء بالعقد، مُحترف للأذى، على الأقل بالنسبة إليّ، يجلس خلف آلته الكاتبة ثم يشرع في طبع الحروف، والحروف تُشكّل كلمات وجملاً تتطوّر هي الأخرى إلى شخصيات وأحداث. وأنا فعلاً أحدثت شيئاً مغايراً، لأني اعترضت على النهاية التي وضعها لي، قصدته في مكتبه، ولعنته على النهاية القبيحة التي كان يقودني إليها، وأمرته بأن يُغيّرها، لكنه رفض. تجرّأ عليّ بأن كلّمني عن النقد، وعن فن الكتابة. تَخيَل! كنت أبحث عن نهاية خالية من الدم، وكان يريد أن يُرضي النقاد، وحين اعترضت أراد رشوتي بمشهد عاطفي، اقترح أن يربطني بعلاقة مع سكرتيرة المحامي. كان هذا قبل أن أتركه، ورغم أني رفضت عرضه، وجدتُني منحدراً إلى تلك العلاقة من دون وعي، تخيّلته في تلك اللحظة يقهقه، ويعيد كلام النقّاد. ألا تعلم يا سيد جوزيف، أن قضيتك صارت إمكاناً منجَزاً، لأن الرواية طُبعت وأنت بهروبك مجرّد عابث، تجذف في الهواء، اهرب كما تشاء، لأن عدد الصفحات معدودة، وستعود إليّ في نهاية المطاف، ولن أنتظرك، أنت تعرف ذلك جيّداً، ستجدهما في انتظارك لتكمل مسيرتك، وتَذكَّر تلك الجملة لصديقنا المشترك باسكال: "مهما تكن الملهاة جميلة الأجزاء، فإن الفصل الأخير غارق في الدماء".

صمت السيد جوزيف قليلا ثم عاد إليّ يتأمّلني:

- أنت ترى يا سيدي الصغير، أن معشر المؤلّفين يحملون كل العقد التي توجد في العالم؛ إنهم أنانيون يحبّون أن يستأثروا وحدهم بالاهتمام، لاحِظ، فقط، أن نجاح أية شخصية ما هو إلا نجاح لهم، بغضّ النظر عن السلطة التي يمارسونها عليها، يحملونها على القتل، ومن ثم عليها وحدها أن تتحمّل السجن، وربما مثلما حدث لشخصية لا أكاد أذكرها جيّداً: رغم كونها غير قاتلة، إلا أنها عانت السجن في مكان قَصيّ في نهاية العالم. أتعجّب كيف باستطاعتهم ابتداع الأهوال التي تقابلها الشخصية، ولكنهم لا يأبهون كيف لها أن تخرج من مأزق بسيط، إن المؤلّفين عنيدون جدّاً، يقفزون فوق الشخصيات مثل قرود خفيفة، وربما أقول هذا لأستدل على قضيتي فقط، ألم يكن ذلك التشيكي قادراً على أن يُخرجني من البئر التي رماني فيها؟ وهاهم اليوم يطاردونني من مكان إلى آخر يريدون قتلي طعناً، لكي يعرف العالم فقط أنه بدأ في التخلّي عن إنسانيته، لم تكفهم الحروب التي يخوضونها كل يوم، والجثث التي تُحرَق كل يوم في سبيل لا شيء، كل تلك الأشياء لم تكفهم.. يريدون جثّة جوزيف قرباناً يُقدَّم إلى مذبح الإنسانية.

تَنَهَّد طويلاً، والتفت إلى الخلف، التفتُ معه. هناك في طرف المحطة كان شخص يحدّق بنا، قال لي السيد جوزيف: "كل شيء أصبح مباحاً، لا تستغرب... ربما ذلك الشخص هو أحد الذين يفتّشون عني، والمشكلة أن كل شيء يعود إلى المؤلّف، إن عَلِم للحظة أنني أختبئ هنا، سيختلق إمكاناً آخر؛ مثل مجنون يتجوّل في المحطّة، يثيره رجل غريب عن المدينة، فيسدّد طعنة مُحكمة إليه ترديه قتيلاً، أيضاً هكذا ستقول الجرائد، قضاء وقدر، لا تتعجّب. صرت عليماً بالطريقة التي يفكّر بها ذلك التشيكي، إنه ميّال بالفطرة إلى الموت، يحب رؤية الدماء، أتخيّله أحياناً في شخصية دراكولا، جالساً أمام طاولة كبيرة في قصره المظلم، يتناول كأساً من الدماء، دماء شخصياته التي تدهمه هناك، يقف مرعوباً، ينكر كل شيء ويختلق الأكاذيب: إنها ليست دماءَكم، إنه مجرد عصير طماطم".

ضحكت من ذلك التشبيه، غير أن الفكرة التي صعدت إلى رأسي هي أن السيد صارحني بكل شيء منذ الوهلة الأولى. قلت:

- ألا تغامر وأنت تقص علي كل شيء؟ ألا تخشى أن أكون أحد الذين أُرسلوا للقبض عليك؟

ابتسم، واكتشفت أن هناك جزءاً ما يزال يأمل، ثم قال:

- يا سيد... أنت ترى أني لحد الآن لا أعرف لك اسماً، وبالنسبة إلى شخصية مشهورة مثلي، فإن هذا يحمل عدّة معان. ولكن قبل أن أوضّحها لك، سأختار لك لقباً، ما رأيك في اللاعب؟

- ولكن لماذا هذا اللقب؟

- إنه جميل، مليء بالحركة، وأحب أن أناديك به.

- لا مشكلة عندي ما دام يعجبك.

- أتعرف أن اللاعب هي صفة مشتركة بين الشخصية والمؤلّف، ولكنها تختفي عند بعضهم، كما هو الأمر بالنسبة إلى مُؤلفي، لأنه استأثر بها رغم أنني كنت أحقّ بها منه؛ إذ يجب أن يكون للشخصية حضور واستقلالية، وبتعبير سياسي ديمقراطية التعبير والفعل. إذن أيها اللاعب أنا لا أخشاك، لأنكم أنتم الكائنات الحرّة، لا تستطيعون إخفاء أنفسكم، وأنت ما زلت إمكاناً لم يُكتَشف على حدّ تفكير مُؤلّفي، أو بالأحرى أنت شخصية صغيرة تبحث عن مؤلِّف، ولكن عليك أن تحذر؟

- من ماذا؟

- من مؤلف وثني، مهووس بالموت.

- يعني أنني أستطيع الاختيار؟

- ولكن لماذا لا تتخلّص أنت من مؤلّفك، وتبحث عن آخر؟ يا حبذا لو كان من عصر الباروك.

- ها قد بدأ اللاعب في إظهار بلاغته، ولكنك لا تدري أن هناك تقليداً قديماً لا نستطيع الخلاص منه.

- الفرار ليس بالحل الأمثل.

- أعرف، ولكن القيد لا يسقط إلا بموت المؤلّف.

- إذن ما الحل؟

- أن يموت، وهذا ما بدأت التفكير فيه، قبل أن يقتلني سأقتله، وهكذا أصبح أوّل شخصية تقتل مؤلّفها.

- وترضى أن تكون مجرماً؟! القتل هذه المرّة قتلٌ فعلي، ليس مثلما يفعل هو بك، تبقى أنت مجرّد بطل داخل الورق.

صرخ السيد جوزيف في تلك اللحظة:

- هذه مشكلتكم، دائماً تروننا مجرّد أوهام، رغم أننا نتألّم مثلكم، تعبّئوننا بالحب والشفقة، وكل الأشياء التي تحملونها، ومن ثمَّ تقولون: مجرّد أبطال من ورق. حينما يدهمنا الخوف من الموت والرفض المعلن له.

- آسف يا سيد جوزيف، ولكني لم أُرِدْك أن تنحدر هكذا. قلت هذا ووقفت مغادراً، ناداني ولم ألتفت، صعدت إلى القطار وفوجئت به يلاحقني، وصوته يمتد خلفي: أيها اللاعب.. أيها اللاعب.

صعدنا إلى أول مقطورة، وشرع يعتذر:

- عليك أن تفهم أننا نحن الشخصيات الورقية نفكّر بصوتٍ عال فقط، ربما هذا عيبنا، ليس مثلكم أنتم.

- وإن يكن، أن تفكر في القتل فهذا شيء خطير.

- لا.. ليس بالخطير. في عالمكم ربما، ولكنك للأسف لم تلاحظ شيئاً.

- أي شيء؟

- أنني منذ سنوات أعيش فارّاً، ولو كنت أريد قتله لفعلت قبل أن ألتقيك.

- أنت الآن فار، لأن قارئ الرواية لم ينته بعد منها، يبدو أنه شخص غير مهتم، ولكنه ما إن يتذكّرها حتى تعود إلى المسار الذي رسمه لك مؤلّفك التشيكي. أتعلم يا سيد جوزيف، أنك شخص محظوظ إذ بقيت حيّاً طوال هذه المدّة!

- الكثيرون قالوا ذلك، ولكني لم أتمنّ يوماً أن أوضع تحت رحمته، كنت أتمنى أن أكون لاعباً حقيقياً.

- كيف؟

- منذ طفولتي، كنت أتمنى أن أكون لاعب كريات زجاجية محترفاً، لكني فشلت.

- لماذا؟

- لأن تلك اللعبة الغامضة، كما عبّر الماجستر اللودي، كانت تحتاج إلى صفاء ومرح الموسيقى، والشجاعة على الرقص وسط فظائع العالم ونيرانه، وأنا لم أكن بتلك المزاجية. كانت شخصيتي أكثر هامشية من أن يختارني مؤلّفها، كنتُ منساقاً بغريزة نحو الحياة المادية والنظام الاجتماعي للعمل، بينما هي كانت تحتاج إلى شخص أكثر انطواءً، حالماً بتغيير العالم بطريقة الفكر والموسيقى والثقافة الهادئة في مجتمع تربوي، بعيداً عن مغريات المدينة. بينما بدأت مأساتي من المدينة، وهكذا صرت فريسة سهلة لذلك الكاتب التشيكي.

- إن هذا يا سيدي يدعو إلى التعاطف معك، ولكني صرت أكثر تشاؤماً، ربما صرتُ إمكاناُ منجزَاً أنا الآخر.

كانت كلماتي تلك بمثابة نهاية لحواري مع السيد جوزيف، رغم أني حينها لم أعرف بأنها كانت بالفعل هي الأخيرة، لأنه انهمك مع العالم خلف النافذة متأمّلاً الحقول، كانت بصفرتها المائلة إلى السواد تزيد من الكآبة، ومن وطأة الموت المفاجئ لأية شخصية، سواءً كانت لجوزيف أم لغيره. قلت ذلك في نفسي قبل أن أغفو المسافةَ المتبقّية للقطار، والذي أيقظني صفيره لأفاجأ بي وحيداً في المقطورة.

شاهدت السيد جوزيف عدة مرّات في المحطة، ولكنه لا يلبث أن يختفي عن ناظري. وأحياناً، كنت أسمع صوته يناديني: أيها اللاعب ..أيها اللاعب. ألتفت فلا أرى أحداً، ولكن المرّة الأخيرة التي التقيته فيها لا يمكن أن تُنسى، وكانت في آخر الخريف. يومها جلسنا في المقطورة نفسها، لم أكلّمه، بقيتُ مركّزاً عينيّ على وجهه، منتظراً أن ينظر إليّ. لم يفعلها، غير أن الشخص الذي كان يحدّق بنا في ذلك اليوم في المحطّة جاورني في المقعد، تذكّرت وجهه، سلّمني مجموعة من الأوراق وطلب منّي قراءتها، وما إن بدأت: "في المساء الذي يسبق عيد ميلاد جوزيف"، حتّى تأكّدت أنني صرت أنا الآخر إمكاناً مُنجَزاً. لم أستطع التوقّف إلى آخر سطر. كان القطار حينها قد توقّف في المحطّة، نزلت منه، وما إن التفت إلى الجهة الأخرى حتى رأيتهما، الرجل الذي سلّمني الأوراق وآخر معه، ممسكَين بذراعَي جوزيف. التصقت كتفاهما بكتفيه، ثم لَفَّا ذراعيهما حول ذراعيه وقد تشابكت أصابع أيديهما، وساروا عبر الشارع إلى أن أخفاهم.

سرت قليلا إلى الأمام، كان صوته يناديني كما في حلم: أيها اللاعب ..أيها اللاعب ...ها أنا أموت مثل كلب حقير.. ردّدت المحطّة الخاوية خلفه، مخلّدة بذلك العار الذي لحق بالبشرية.

تجاوزتُ المحطة مذهولاً، حتى وَقَفَت بجانبي تتأسّفُ على التأخير، تردّدت قبل أن أتكلم، ولكني عندما تكلّمت ندمت. أتعرفون لماذا يا أصدقائي القدامى؟ لأنني كلّما فكرت أو سرت إلى الأمام زاد يقيني بأني إمكان مُنجَز.
عبد الوهاب عيساوي


* كاتب جزائري من مواليد 1985 في الجزائر، صدرت له روايتان: "سينما جاكوب" (2012) و" سييرا دي مويرتي" (2014)، ومجموعة قصصية بعنوان "مجاز السرو" (2016).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى