عمار نعمه جابر - الرسم بالعهر .. مونودراما

(لوحة بيضاء كبيرة في عمق المسرح ، الرجل يقف أمام اللوحة ويديه الى الخلف ، نحن نسمع حديثة فقط ، وظهره للجمهور طوال الوقت ، لا نعرف ملامحه مطلقا . تنتشر على جانبية طاولات عليها مجموعة من الفرش ، والالوان ، وأدوات للرسم)
الرجل : في العادة ، هكذا تبدأ الحكاية ، لوحة بيضاء ، غير محددة ، ولا تشير الى شيء ، بيضاء ، او لنقل ، فارغة تماما ، لا تحتوي أي شيء ، لا أفكار ، لا الوان ، لا اشكال . هي حيادية تماما ، لا تشوهها أية تدخلات ، صفحة بيضاء ناصعة حد السكينة . اللوحة بهذا اللون ، تكون الى جانب الجميع ، يحبونها وتحبهم ، يعشقونها ببراءتها وضحكاتها ، وحروفها الخفيفة . كونها بلا تحديدات ، بلا الوان ، بلا خطوط ، فهي لدى الجميع ، لا ضرر قد يأتي منها ، لا يتم محاكمتها مسبقا ، كما قد يحدث حين تقابل أحدهم للمرة الأولى ، فأنت تتوجس منه ، لديك خلفية كاملة من التجارب ، وتأثيرات العوالق فيك ، بأن الآخرين مصدر للمشاكل ، وأغلبهم سيئين . فالغرباء يجب أن تحذرهم ، لذا يجب أن تبني تجاه هذا الذي قابلته توا ، سورا عاليا من الشك ، والريبة ، قد يحتاج هو بالمقابل الى جهد ووقت من أجل أن يحلحل فكرتك الأولى عنه . ولكن هذا البياض ، في هذه اللوحة ، الغير مدنس بأي فرشاة ، لا يسمح لك مطلقا ، بأن تبني ، أو تنسج المواقف المسبقة ، حين تقابله لأول مرة ( لحظة صمت وتأمل للوحة البيضاء ) من جاء بهذه اللوحة البيضاء الى هذا العالم ، يدفع لنا برسالة ، بكود سري ، نحتاج أن نفكك ماهيته ، نقرأه بشكل صحيح . نحن نحسب مجيئ اللوحة الى هذا العالم بهذا الشكل ، فعل جليل ، فعل يملك الكثير من السمو ، والعدالة ( لحظة ) نعم ، هناك الكثير من الانصاف بمجيئ كل اللوحات ، التي تعيش في هذا العالم ، بكل هذا البياض ، بلا شروط ، بلا مقدمات ، أو استثناءات . من جاء بهذه اللوحة الى هذا العالم ، لا ينتمي الى الاستثناءات ، يحب أن تكون كل البدايات متساوية ، ومتماثلة ، ومتطابقة . فمعها يمكن أن تتساوى الفرص في الحياة ، وتشعر كل لوحة ، أنها بلا تمييز ، والذي قد يجعلها أقل من باقي اللوحات ، في هذا الكون ( لحظة صمت ) إن ما يحدث من كوارث هو ما بعد هذا البياض ، نعم ، فبعد أن تأتي فرشاة ما ، وترقص على هذا البياض ، تبدأ العاصفة ! فعادة في الأيام الأولى لمجيء اللوحة ، تتحدد لها أخطر الخطوط والانحناءات ، والتي ستترك أثرها طويلا في حياة اللوحة ( يذهب الى الطاولة ، ويلتقط فرشاة عريضة جدا ، ويغمسها في صبغ بلون أحمر فاقع ، ثم يتقدم الى اللوحة ، ليرسم في وسط اللوحة بالضبط ، صليبا كبيرا يمتد من أعلى اللوحة الى اسفلها ، يشطر اللوحة الى نصفين ) تماما في وسط اللوحة ، ومركز وجودها ، وفي أقوى الأماكن فيها . حيث يحدد للوحة ما يجب أن تكون ، طوال سنين عمرها . ما يجب أن تفعل ، وما لا يجب أن تفعل . ما يجب أن تلبس ، وما لا يجب أن تلبس . ما يجب أن تأكل ، وما لا يجب أن تأكل . تحدد شكل التصرفات ، والمحظورات ، والمحرمات ، والقواعد ، والأنظمة ، والجماعات ، و ، و ، والكثير من تفاصيل ما سيأتي في قادم الأيام ( يتحرك الرجل الى الخلف ، كي يحدق في اللوحة ، لحظة صمت ) فعلا ، لقد شوهت اللوحة تماما ، نعم ، لقد تم حصرها في زاوية ضيقة جدا ، في هذا العالم ، لقد تم تحديد ذلك الانطلاق الرهيب ، الذي كانت عليه في بداية الامر . بسبب فرشاة مثل هذه ، تم سلب هذه اللوحة الكثير من الامتيازات ، والتي كانت ستمنحها لاحقا ، قدرة أكبر على التحرك ، والتعامل مع كل شيء في هذا العالم . ما حدث فعل كارثي ( يتحرك ) لن تستطيع أن تصنع هذه اللوحة تجاهه أي شيء ! قليل جدا من لوحات العالم ، من استطاعت بكل ما لديها من قوى ، وامكانيات ، أن تتخلص مما صنعته هذه الفرشاة ( يتحرك يمينا وشمالا ) الجريمة الكبرى بحق هذه اللوحة ، أنها في هذا الوقت المبكر من حياتها ، واثناء لحظة التشكل الأولى ، ليس لديها المعرفة الكافية بما يجري ، ولا القوة الكافية للدفاع عن نفسها ، عن وجودها ، حيث تم القائها قسرا على طريق محدد ، لا تعرفه البته ، والذي يفترض أن تبقى تسير عليه طوال حياتها ( لحظة صمت ) على الرغم من أننا كنا ننظر بأعيننا ، كيف وهبنا موجد هذه اللوحة ، بياض الحيادية ، والصفاء ، والنقاء ، لكننا بعد وقت قصير جدا ، من استلامنا لهذه اللوحة ، نطعنها بسيف الانشطار ، والانتماء . لا نتركها بيضاء ، ولا نعلمها كيف تكون حرة ، في اختيار ما يرسم فيها ( يتحرك نحو طاولة ثانية ، يلتقط فرشاة متوسطه ، ويرسم في يمين الصليب الأحمر ، ظل رجل واقف ) لن يمر الوقت طويلا ، لازلنا في اللحظات الأولى من استلام اللوحة ، حتى ندرك حجم الذكورة التي تسيطر على هذه اللوحة ، حجم المحددات التي وضعها هذا الذكر ، في مساحة وجود اللوحة ، واقدراها . فراح سريعا يشكل قواعد العيب ، والممنوع ، والذي يجوز ، والذي لا يجوز . فهو نوع راسخ ، من أنواع السلطة في اللوحة ، هذا الظل الذكوري ، هنا ، سحابة سوداء ، يزداد سوادها ، كلما كانت اللوحة أشد نقاء ، واكثر بياضا . مرير أن يمارس على اللوحة المسكينة ، أشكال السلطة ، وهي لازالت عاجزة عن القبول ، أو الرفض ، فسلطة هذا الظل تحيل اللوحة الى ظل آخر جديد ، شبح يشبه الظل الأول . ببغاء يردد نفس الكلمات ، نفس الألوان ، نفس الانحناءات . في النتيجة ، ستصبح نسخة من هذا اللون الرمادي ، من هذا الشكل المتسلط ، تكرر ذات القصيدة التي القاها هذا الداكن ، من قبل . إنه يملك القدرة على تشكيل حياة اللوحة كلها ، من ألفها حتى يائها . ثقل هذا الظل ، وثقل سلطته ، هي البداية فقط ، فهو امتداد لظلال أخرى ، وأخرى ، في قائمة تطول جدا ( يذهب الرجل ليلتقط فرشاة متوسطة ، ليرسم على يسار الصليب ملامح مدينة ، بيتان ، شجرتان ، وارصفة ) ظلال المكان ، إحدى تلك الظلال التي حددها الذكر في وجود اللوحة . إن المكان سلطة خفية تحيط باللوحة ، تحدد ما فيها طوال العمر ، كون المكان يكون تماما كما الاناء ، واللوحة حالة من الانسكاب ، والتأقلم ، والتشكل . المكان سلطة أخرى ، تمارس فعل التغيير في اللوحة ، في الوانها ، تشكلاتها ، بل إن المكان قد يحدد كثيرا ، شكل القراءات التي سيتم فهمها لما في اللوحة . نعم ، فكل مكان له فهم خاص به ، فإنك لو حاولت أن تلقي قصيدة شعر في بيت العزاء ، لا يمكنك أن تجعل موضوعها عن الحب ، فكل مكان يضع عليك شروط المكوث فيه ، يسكب في اللوحة شكل الأرصفة ، وعشب الأرض البري ، ورطوبة جدران المنازل ، وامتداد الأفق . روح المكان ليست اختراع لفظي متكلف ، ولا نسج من خيال خصب ، هو حقيقة واقعة ، لا تحتاج الى دليل ( يتحرك ) حاول فقط أن تذهب الى مكان جديد ، وحاول أن تسمع ما فيه ، وتشاهد ما فيه . حتما ستسمع وسترى ، خصوصية ذاك المكان ، والسحر الذي يملكه ليؤثر فيك كثيرا ( لحظة ) على اللوحة ترسم الأمكنة بدون اختيارها ، فتتشابك التفاصيل بلا اختيار منها ، وتحدد فيها زوايا العتمة ، ومناطق الضوء ، ومساقط الحياة ( يتحرك الى طاولة أخرى ، يلتقط فرشاة رسم صغيرة ، يرسم شبح لعباءة امرأة ، بخطوط ضعيفة ) كل ما قد يكون في اللوحة من مواضع الضعف ، وغلبة العاطفة ، ورهافة الهس . عادة ما تكون سببه عباءة سوداء بحجم الأم . عالم مستضعف ، وسط السلطات المتقاطعة في اللوحة ، رغم أن لديها قدرة سحرية ، على عمق الأثر في المناطق البارزة في اللوحة . هذه العباءة التي تمسك بها يد اللوحة في الصغر، تكون ملاذا لذيذا من هول الحياة ، في كل العمر ، حتى في الشيخوخة . هذه العباءة تحاول أن تخلق حالة من التوازن ، بين العاطفة الجياشة والصادقة ، وبين القوى الضاغطة على اللوحة ، من خلال نظام مؤثر ، وسحري ، اسمه الحب . هذه العباءة ، كتلة متوقدة من الحب ، تنتشر بين طيات اللوحة ، تمنحها القليل من الامل ، والكثير من الاهتمام . هذا الحب الذي يمتاز بكونه بلا مصالح ، وغير محدود ، يشكل في اللوحة سببا للبقاء ، وحفنة من سكينة ( يتحرك الرجل ليلتقط فرشاة متوسطة الحجم من احدى الطاولات ، ويذهب تجاه اللوحة ) في اللوحة يعيش الحب وينمو ، يتحول مرة الى أغنية جميلة ، قادها وتر حساس ( يرسم صورة كمان في اللوحة ) أو قد يتحول الحب الى عشق عذري ، ينمو ، ثم يموت ، دون الاعتراف للطرف المقابل ( يرسم شكل قلب مضروب بسهم ) أو قد يتحول لهواية جميلة مثل القراءة ( يرسم كتاب ) أو كتابة ( يرسم قلم ) أو يتحول هذا الحب الى ضعف ووهن ، وحزن ، يشبه تماما هذه العباءة التي تصبح في العادة مصدر اللوحة في عبور التجارب بسلام . ( يذهب الرجل الى زاوية فارغة من اللوحة ) في هذا الفراغ الوحيد في اللوحة ، والذي لم تعبث به فرشاة الاخرين ، في العادة ، يجب أن يكون مكان للاختيار ، ولحرية القرار ، ولكن ما يجري في عموم اللوحة كبيرا ، وذا تأثير غير محدود ، كيف يحدث أن تكون هذه الفسحة الصغيرة ، قادرة على مواجهة كل هذه السلطات والضغوطات والتأثيرات الفظيعة . منحة الفسحة الصغيرة جدا ، والقليلة في كل شيء ، قد تمثل لحظة عابرة من الفرح المجرد ، خارج اطار المحددات . أو ربما تكون موقف نقي ، أو فكرة طاهرة ، أو صورة حاذقة ، أو حتى كلمة بلا زيف . هذه الفسحة رغم صغرها ، ولكنها قد تمثل كل ما في هذه اللوحة من حياة ( يقف ، ثم يرجع الى الخلف ، يتأمل اللوحة طويلا ) حجم المجيء الأول ، والحضور الأول ، والتعليق على جدار الحياة ، كان كبيرا ، بل كبيرا جدا . أما ما جرى بعد ذلك في الفترات الأولى ، والسنين الأولى من عمر اللوحة ، شوه فيها الكثير ، تقريبا أخفى ملامح النقاء والصفاء الأول ، بدد البياض الساحر ، بضربات فرش السلطات المتعددة ( يذهب الرجل باتجاه اللوحة ، يتحسسها بيده بهدوء ) مرير ما حدث لها ، مرير وقاسي ، لقد تركت فرش الرسم اثرها في جسد هذا اللوحة ، على شكل اخاديد ، لا يستطيع أن يمحوها الزمن ، مهما حاول . أما هذه الألوان المختلفة ، فلقد التصقت ببياضها بشدة ، لا يمكن أن يزول بسهولة ، دون أن يترك اثره على وجهها ( لحظة ) في النهاية سيحدث أن يتيبس قماش اللوحة ، وتبدأ بالتشقق ، لهول الاحداث والمصائب التي تمر بها ، طوال العمر ، على جدار الوجود ( يرجع الى الخلف ، يضع يديه خلف ظهره ، ويقف طويلا ، وهو يتأمل في اللوحة ) السؤال الذي لا يتوقف أبدا ، وانت تقف عاجزا أمام واقع هذه اللوحة ، أو كل شبيهاتها على مثل هذه الجدران . كيف يمكن للألوان التي كان يجب أن تكون سر جمال لوحات العالم ، أن تصبح سببا رئيسيا في أن تتحول لوحات العالم الى مسوخ ، أو الى عاهات ، أو الى تقرحات مزمنة ! فتبدو كل الجدران بشعة ، ومشوهة ، وتبعث على الاشمئزاز .
– ستار –
تركيا – سامسون
2/3/2019

تعليقات

صديقي في الدنيا زميلي في الهم ولكتابة
ادام الل عليك هذا الالق والتوهج نص كالعادة فخم الايقاع والبوح
محبتي لك
 
صديقي في الدنيا زميلي في الهم ولكتابة
ادام الل عليك هذا الالق والتوهج نص كالعادة فخم الايقاع والبوح
محبتي لك
الصديق الاستاذ عدي المختار ، تسعدني دائما بمنح وقتك لنصوصي ، وتبصم بحب فيها ، شكرا لجمال حضورك ، وزهو كلماتك ، تقبل مني احلى الامنيات بدوام النجاح والتألق
 
أعلى