د. زياد الحكيم - أهمية دراسة الأدب

من الصعب تحديد مفهوم الادب تحديدا دقيقا بالرغم من الكثير من المحاولات التي تمت باقلام الكبار من الكتاب والادباء. ويعود جانب من الصعوبة الى ان تعريف الادب يتغير ويتطور باستمرار. ومهما يكن فان الادب يقدم لنا صورة للمجتمع الانساني باسره. فالكتابات التي وصلت الينا من الحضارات المصرية والصينية القديمة ومن فلسفة الاغريق وادابهم وملحمات هومر ومسرحيات شكسبير وروايات جين اوستن وشارلوت برونتي ومايا انجيلو تمكننا من تشكيل صورة للمجتمعات العالمية كلها. ولهذا فان الادب هو اكثر من مجرد وصف تاريخي وثقافي بل هو تعريف بخبرات قديمة جديدة.

ولكن ما نعتبره ادبا يمكن ان يتغير من جيل الى جيل. فعلى سبيل المثال اعتبرت رواية هيرمان ميلفيل (موبي ديك) 1851عملا فاشلا في وقتها ولكنها اليوم واحدة من التحف الادبية الرائعة ويشار اليها بانها من ابرز الاعمال الادبية الغربية نظرا الى عمق افكارها ورموزها. وعندما نقرأ (موبي ديك) اليوم يتعمق فهمنا للتقاليد الادبية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. ونتوصل الى معان جديدة عند قراءة الادب بتدبر ما يكتبه المؤلف او يقوله او كيف يقوله وذلك باستعمالنا مناهج اسطورية او اجتماعية او نفسية او تاريخية وغير ذلك من المناهج فالادب مهم لانه يتحدث الينا بوجهة نظر عالمية شاملة ويؤثر فينا بشكل شخصي ويكسبنا مفردات كثيرة وفهما افضل ومهارات اتصال وتواصل افضل ويعلمنا الكتابة ويحسن قدرتنا على اقامة علاقات شخصية والمشاركة في الاجتماعات وصياغة المذكرات ... وعندما نحلل نصا ادبيا نتعلم تحديد السبب والنتيجة ونكتسب مهارات التفكير النقدي دون ان ندرك ذلك ونفهم الشخصيات نفسيا واجتماعيا ونتعرف الى دوافعها ونزعاتها الخفية.

وتقول بعض الدراسات ان الاشخاص الذين يقرؤون الادب لديهم تعاطف اكبر مع الاخرين لان الادب يضع القارئ في مكان شخص اخر . ولا شك ان التعاطف مع الاخرين يؤدي بالناس الى تواصل اجتماعي اكثر فاعلية والى امكانية حل النزاعات بسلام والى التعاون بشكل افضل. يضاف الى ذلك ان قراءة الادب تشعر القارئ بعلاقة اوثق بالانسانية ككل وبذلك يكون اقل احساسا بالعزلة.
الأدب من حيث هو شكل فني يترك أثرا نفسيا وأخلاقيا وفكريا واجتماعيا عميقا في نفس المتلقي. وهو يستعمل وسائل الاتصال المعتادة - اللغة والصورة والرمز والقصة - ولكنه يفعل ذلك بشكل أكثر تعقيدا وأكثر إيحاء مما يحدث في عملية الاتصال اليومية العادية. ويستفيد الأديب مما تتيح له مواهبه الفنية من معرفة بالشكل الفني والخبرة الحسية والإيقاع والتوكيد والتباين وغير ذلك من عناصر العملية الجمالية للأدب. ونرصد في ما يلي عددا من النظريات التي تبحث في معنى الأدب وأهدافه بالإضافة إلى كونه مصدرا من مصادر المتعة النفسية والعقلية.

يكتشف الأدب نواحي مختلفة من الخبرة الإنسانية بشكل معقد وجميل، ويجعلنا أكثر قدرة على الفهم والتفكير، ويمكننا من الغوص إلى أعماق ابعد في طبيعة الخبرة البشرية. ويوصف الأديب عموما بأنه يتمتع بنظرة ثاقبة وقدرة فريدة على الفهم. فهو يتأثر بما يمر به من خبرات حياتية تأثرا عميقا وغنيا ، وهو قادر على استلهام هذه الخبرات في كتابته على نحو عميق وغني. وتتميز الكتابة الأدبية بأنها غنية في استعمالها اللغة والصور البيانية والأفكار بشكل راق ودقيق. وإذا اقترن هذا مع خيال المتلقي الذكي والخصب فان هذا التفاعل بين الكاتب والقارئ يوجد عالما متخيلا ثريا وعميقا. يضاف إلى ذلك أن الأدب الذي يقوم في الأساس على إلقاء الضوء على ما في الحياة من تعقيد وتناقض ومفارقة يعكس عالما ثريا ومؤثرا. ويكتب الأدب في أشكال وأنواع وتقاليد مختلفة، ولهذا كله تاريخ طويل أسهم أدباء كبار في تطويره ورسم خطوطه. فالأدب يبني على ما سبقه من أدب، فيكون لبنة إضافية في تاريخ من الفكر والتعبير الجميل.

ويرسم الأديب عوالم ممكنة ولكنها متخيلة مما يجيز له أن يستخلص قواعد أساسية للطبيعة الإنسانية والطرق التي يتحرك بها العالم. ففي مسرحية ماكبث مثلا يكتشف شكسبير طبيعة الشر وتأثيره في حياة البشر وكيف أن الشر ينطوي على بذور دماره ودمار من يعملون به، وكيف أن الخير يؤكد نفسه في القلب البشري. فشكسبير هنا يرسم عالما بكل ما فيه من عناصر الشر والخير، وبكل ما فيه من صراع بين الجانبين.


ويستلهم الأدب الواقع ويعيد تقديمه بشكل مختلف. وهو يصور العوالم المادية والأخلاقية تصويرا مؤثرا بوسائل جمالية لها اثر كبير في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم والحياة والى الخبرة الإنسانية ككل، الأمر الذي يفتح لنا المجال للتأمل والتدبر والتنظير والوصول إلى نتائج مرحلية في ما يتصل بالإنسان والكائنات الأخرى. ويؤثر الأدب فينا تأثيرا آنيا بما فيه من أصوات وإيقاعات ورمزيا بما تثيره ألفاظه فينا من صور ذهنية وأخيلة.

ويقدم الأدب صورة للعالم كما يبدو للناس في مجتمع من المجتمعات. وبعبارة أخرى، نتعلم من الأديب الشيء الكثير عن كيفية فهم العالم والحياة في المجتمع الذي ينتمي إليه. فبالأدب نفهم ثقافة من الثقافات في مرحلة تاريخية معينة فهما يمكننا من مقارنتها مع غيرها من الثقافات في أماكن أخرى وفي حقب تاريخية أخرى، فنحصل على صورة مجسمة للإنسان على اختلاف ثقافاته وأعراقه وأجناسه وأساليب حياته وقيمه ومعتقداته ومواقفه مما يدور حوله من تطور في مجالات لا تعد ولا تحصى.

ويخلق الأدب عوالم متخيلة محددة بشكل واع ولذلك فهو يأخذ بيد القارئ إلى تأمل هذه العوالم بصورة أسهل مما تفعله الخبرة المباشرة. فالمتلقي يتمكن من دراسة عناصر هذه العوالم وطبيعة العلاقة في ما بينها وقيمتها في التشكيل العام لهذه العوالم. فيصبح المتلقي أكثر وعيا بالبيئة الثقافية التي يعيش فيها وأكثر فهما لقيمها ومعانيها وأكثر قدرة على تحليلها.

ويتفق كثير من علماء اللغة على أن قدرتنا على الفهم والتحليل والى حد ما الشعور تعتمد على قدرتنا على استعمال اللغة. واللغة هي وسيلة الأديب في إيصال فكره وفنه إلى الناس على نحو دقيق ومبتكر. ودراسة الأدب ترفع من قدرة الدارس على استعمال اللغة استعمالا دقيقا وجميلا. ويقول المؤلفون إن دراسة الأدب توفر للدارس فرصة لإدراك سلسلة من الأفكار والصور والرموز والمشاعر التي تشكل حياتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية في المجالات العامة والخاصة. ويمنح الأدب لغة للدارس تمكنه من التعبير عن خبراته الخاصة ووضع هذه الخبرات في إطار ثقافي وجمالي معبر.

يتعامل الأدب مع الفرد من حيث هو كائن اجتماعي. فنحن كأفراد نقوم بادوار اجتماعية تحدد ما نشعر به وما نقوم به من أفعال - كرجال ونساء وأطفال وآباء وأمهات وأصدقاء وغرباء إلى غير ذلك. ويدرس الأدب هذه الأدوار الاجتماعية ويجيز لنا أن نؤديها مع انها قد لا تكون متوفرة لنا في الحياة الواقعية. ليس هذا فحسب، بل إن دراسة الأدب بهذا المفهوم توفر لنا فرصة دراسة ما نقوم به من ادوار في حياتنا الواقعية على نحو أكثر وعيا وأكثر انتقادية. ويمكن أن نسمي هذا بالتأثير الأخلاقي للأدب: فبدراسة الأدب نطور شخصية أكثر قدرة على الاستجابة لإمكانيات العالم الذي نعيش فيه وأكثر قدرة على التعامل مع ما تفرضه الحياة والمجتمع علينا من قيود.

إن الأدب شكل من أشكال الخطاب الثقافي، ويقوم بعدة ادوار في الإطار الثقافي ككل. فهو يحدد الأسس والمعاني التي تقوم عليها القيم الإنسانية العامة، وبذلك يعزز الرموز الثقافية واللغوية التي تقوم عليها المجتمعات. والأدب - فوق هذا - يكثف الوضع الإنساني بما فيه من خيال وابتكار، ويكتشف الصراعات القيمية والعرقية والطبقية والدينية داخل الإطار الثقافي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى