بوفاتح سبقاق - الساعات الأخيرة للرئيس

الأخبار تتوالى على القصر الرئاسي ، الإعتصامات في كل الميادين الإستراتيجية الرئيس في ركن من مكتبه واضعا جريدته أمامه و يشطب من حين لآخر كلمة
إنها هوايته المفضلة البحث عن كلمة السر ، و أين له أن يجد هذه الكلمة في ظل واقع البلد الذي أضحت أسراره ظاهرة للعيان ؟ إختلاسات كبار السلطة أضحت حديث العام و الخاص و الجرائد تتحدث عنها كل يوم ، المواطن المعدم يدفع دنانير معدودة فقط ليقتني أي جريدة يومية ليجد رائحة نهب المال العام تطغى على كل الصفحات ، أرقام فلكية هنا و هناك بالملايير و لكن من يسرق دجاحة يودع السجن و من يستولى على الملايير أقصى عقوبة له أن يعيش في الخارج يتنعم بأموال الشعب المغلوب على أمره.

فجأة دخل مدير الأمن الرئاسي مسرعا ...
- سيدي الوضع جد خطير ، إنهم يقتربون من القصر الرئاسي ...

نهض الرئيس من مكانه بكل تثاقل يجر ثقل السنين ، ثلاثون سنة في الحكم جعلته يتأقلم مع كل الظروف و لكن هذه المرة يحس بأن النهاية أضحت قريبة
إنه شعب جديد يختلف عن ذالك الشعب الذي ظل صامتا سنوات ، كان يملك ناس كلهم طيبة و إخلاص و وفاء دائم له و لأركان حكمه ، أما اليوم إنه زمن الفضائيات و الفايس بوك و غيرها من وسائل الإعلام .
- يتعين على كل الأسلاك الأمنية أن تحمي القصر الرئاسي إنه رمز سيادة و لا تنس أن التغيير يبدأ من هنا ، و يجب إعطاء تعليمات بحراسة جيدة للإذاعة.
- لكن سيدي حتى مقر التلفزيون مهم ، أما بخصوص الإذاعة فهناك إذاعة في كل مدينة اليوم .
- يجب إيقاف بث المحطات الإذاعية الصغيرة ، و الإكتفاء بإذاعة واحدة تكون تحت سلطتنا.
- و ماذا عن القنوات الفضائية ؟ كلها معادية لنا .
- أليس لديك طريقة لإيقاف بثها أيضا ؟ إنها مصدر إزعاج كبير ...
- إنها تبث عبر عدة أقمار صناعية و تتحكم فيها شركات تجارية و لا يمكن أن تخضع لنا .
- أليس لدينا إتفاقيات مع الدول التي توجد فيها هذه الشركات ؟
- الأمر صعب في هذه الظروف و هناك بعض الأنظمة تؤيد المعارضة لدينا و لا تنس أن الأنترنات هو عدونا الأكبر .
- ألا يمكن إيقافه هو الآخر ؟ ... غريب هذا الزمن ، في السنوات الأولى التي أعتليت فيها سدة الحكم ، كان أي صوت معارض أتخلص منه في أربع و عشرون ساعة أما اليوم الأعداء كثر و لكنني لا أرى أحد كلهم وسائل إعلام و إزعاج إفتراضي ، بالفعل إنها أصعب أنواع المعارضة التي شاهدتها في حياتي و لكن إخبرني كيف يصل الأنترنات لبيوت الناس ؟
- يصل الى بلدنا عن طريق كابلات تحت البحر من أوربا ..
- إقطعوا كابلات المصائب و قولوا للشعب أن أسماك القرش هي السبب .
- فكرة جهنمية سيدي سنفعل ذالك .

- و الآن تابع ما يقع و إخبرني بكل جديد ، و عليك أيضا بالتأكد من جاهزية كل الفرق المكلفة بخروجي المحتمل من هذا البلد اللعين .

- إطمئن سيدي كلهم رهن إشارتك ، طائرة الهليكوبتر جاهزة في باحة القصر و الطائرة أيضا محركها يدور في المطار العسكري ، بالإضافة الى الباخرة الرئاسية على شاطئ إقامتك الخاصة و طبعا الفرق الأخرى الجاهزة عبر الحدود البرية ، نحن جاهزون لكل الإحتمالات .

- نشرات الأخبار المختلفة الحكومية يجب أن تركز على إنعدام الأمن و خوف المواطنين و أهمية دور الأسلاك الأمنية في الحفاظ على أمن الأشخاص و الممتلكات ، و طبعا لابد من الإشارة الى فزاعة الأيادي الأجنبية و العدوان الخارجي فهي صالحة دائما في مثل هذه الأزمات ، مع أنه في هذا الوقت أصبحت الدول الكبرى أقل تدخلا مباشرا ، أيام زمان كانت الإمبريالية مشجب مميز تعلق عليه كل الأزمات و يقضى فيه على كل المعارضين .

- إنه زمن الأنترنات و الفايس بوك سيدي ثورات في كل مكان و كل مواطن صعلوك يحمل معه هاتف نقال بكاميرا يوثق به ما يشاهده و يضعه مباشرة على مواقع الأنترنات ، و منه يستغل مباشرة من طرف الفضائيات المعادية لنا .

بقي الرئيس صامتا يطل من نافذة القصر الرئاسي على جموع الجماهير الغاضبة ، إنهم مجرد أوباش يريدون تغيير التاريخ و لن ينجحوا ، التاريخ يكتبه العظماء و لا يخربشه الأوغاد .
خرج مدير الأمن الرئاسي مسرعا ليطبق كل تعليمات الرئيس ، و لكن في ذهنه أيضا مخطط للهروب ، كل أركان السلطة لديهم مخططاتهم الخاصة سفينة الحكم ليست سفينة نوح و ستغرق بكل تأكيد و الذكي من يفكر في إنقاذ نفسه قبل فوات الأوان ، الشعوب حين تنتفض دائما ما تجعل نهاية الزعماء و أتباعهم دموية إما المشانق أو السحل في الطرقات.

ثلاثون سنة من الحكم مرت و كأنها أياما ، ما زال لديه الكثير من الأفكار و البرامج يريد أن يحققها لهذا الشعب المسكين ،فهو مقتنع بأنه حاول أن ينقل كل برامج التحضر من الخارج ، و لكن ذهنية الناس ما زلت متخلفة ، و الآن يطالبون بالديمقراطية و التداول على السلطة ، إنهم ضحايا القنوات الفضائية و الثورات المزيفة ، يعرف أن الخراب سيكون مصير هذه البلاد إن رحل ، نمط تسييره هو الذي حافظ على كيان الدولة و إستمراريتها.
إقترب الرئيس من مكتبه متثاقلا ، سيقوم بإجراء مجموعة من الإتصالات الهاتفية مع مختلف الرؤساء الذين يعانون أيضا من هذه الثورات الغريبة
لا شك أنها مؤامرة خارجية كبرى تهدف الى زعزعة الإستقرار و الإستيلاء على منابع النفط العربي ، لقد قضوا على الدب الروسي و يريدون الآن تركيع الجمل العربي ، أعجبته أفكاره كثيرا ، إن تسنى له الوقت سيتصل بقناة الجزيرة الفضائية و يقدم نفسه كمحلل إستراتيجي ، و إن تعذر ذالك سيقدم نفسه كشاهد عيان و ما أكثرهم في هذه الأيام .

أنهى إتصالاته في دقائق و أدرك من خلال ما سمعه من مختلف الرؤساء و الزعماء أن الأزمة شاملة و المؤامرة كبيرة ، نفس السيناريو في كل بلد ، شباب ، مظاهرات ، مسيرات ، إحتجاجات ، يوتوب ، فايس بوك ، فضائيات و النهايات متقاربة إما تنحي أو هروب ، بالنسبة له كل الفرضيات ممكنة فالفوضى مضى عليها أكثر من شهر و لا دليل على توقفها ، و من الأحسن أن يستفيذ من تجارب الرؤساء الآخرين ، لا يلدغ رئيس من جحر مرتين ، بقاءه في البلد مستبعد جدا ، فقد بلغه أن بعض المعارضين يطالبون بمحاكمته و إعدامه ، هذا جزاءه بعد ما أفنى سنوات عمره خدمة لهذا الشعب ، البحث عن دولة صديقة تستضيفه أمر أكثر من عاجل ، الهروب حتمية و لكن الأفضل أن يكون مبكرا ، حتى يستبق كل النهايات المؤلمة ، و ما أدراه ربما هناك في مكان ما من يخططون لإنقلاب عسكري ضده ، فهو لا يضمن ولاءهم بالرغم أنه صاحب الفضل في كل نياشينهم .

نهض من مكتبه و توجه الى صالونه الخاص ، جلس أمام شاشة التلفزيون المسطحة ، ليتابع ما يجري هناك و هناك ، ما أكثر الفضائيات في هذا الزمن الملعون ، أغلبها إخبارية متخصصة ، الشيطان يختبئ في التفاصيل و هذه القنوات تتحالف مع كل شياطين الكون من أجل الوصول الى الخبر ، مع أنه رفض تواجد مكاتب لأغلبها ، إلا أنها ما زالت تعتمد على مراسليها في الظلام و تصطاد كل ما ينشر على مواقع الأنترنات ، الجزيرة ما زالت عراب كل الثورات بما تمتلكه من خبرة في نقل الخبر و إضافة توابل إستفزازية عليه و تقديمه كطبق مغري للمشاهدين ، أضحت المحطة معروفة أكثر من قطر الدولة ، إنها بكل تأكيد أداة تحرك لفائدة عدة قوى خارجية ، ما أثار إنتباهه هو ظهور قنوات أخرى تابعة لدول أوربية تبث باللغة العربية و تهتم بالشأن العربي ، إنها بالفعل مؤامرة كبرى دبر لها في عدة ليالي ، توقف في جولته الفضائية عند قناة فنية تبث أغنية رومانسية مميزة ، إنها نانسي عجرم التي سحرته منذ أول ظهور لها ،يتذكر جيدا أنه أنشأ مهرجانا سنويا من أجل إستضافتها في قصره إنها نموذج الأنوثة المركزة لا يمكن لأي إمرأة أن تنافسها .

و فجأة سمع صراخ و فوضى و رصاص في ردهة القصر ، سارع الى أخذ مسدسه و إقترب أكثر من النافذة ، لا يصدق ما يراها العسكر يغزون المكان ، فتح باب المكتب بقوة ، و دخل مجموعة من العساكر مدججين بكل أنواع الأسلحة .
- إنتهت اللعبة أيها الرئيس ، من الآن أنت الرئيس السابق.....

- من أنتم ؟ من أنتم ؟

تذكر الزعيم معمر القذافي في خطابه الشهير ، لا يدري هل هو بصدد مواجهة جرذان أم صقور ؟ تأمل وجوه الحركة الإنقلابية جيدا ، لا يعرف أي واحد منهم ، من أين خرج هؤلاء الأوغاد ؟ إستطاع أن يلمح في وسطهم مدير الأمن الرئاسي ، الذي بدت عليه علامات الإرتباك و هو يقترب من الرئيس .

- لا تستغرب ، رحيلك حتمية تاريخية لا مفر منها ، الشعب يريد تغيير النظام و أنت رمز كل هذا النظام ... لا تنس أن مجيئك الى السلطة منذ ثلاثون سنة كان عن طريق إنقلاب .
- على كل كنت مستعد لهذه النهاية أو غيرها ، تسونامي الثورات لا يمكن أن يتوقف عند حدودنا .

تم إقتياد الرئيس السابق خارج القصر و طلقات الرصاص تسمع في كل مكان إنها فرحة مؤقتة برحيله ، يدرك جيدا أن تنحيته ستؤدي الى إنهيار البلد و شيوع الفوضى و الخراب ، سيندمون على فترة حكمه بكل تأكيد و لكن أكثر ما يزعجه أنه لا يعرف مصيره وسط هذه العساكر ، هل سيتركونه يرحل ؟ أم سيتكفلون بإعدامه خارج نطاق القضاء ؟ ركب معهم السيارة العسكرية و هو في قمة الإنحدار النفسي ، من القمة الى ما تحت الحضيض ، شيء واحد يجعله ربما سعيد و حزين في نفس الوقت ، سيكون هذا المساء مادة دسمة لكل الفضائيات الإخبارية و سيبحثون في الأرشيف للكشف عن مساره و نهايته
سيتحول الى خبر رئيسي في دقائق ثم يتم دحرجته الى شريط الأخبار و من ثمة يخرج من نادي الرؤساء الى مزبلة التاريخ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى