محمد بشكار - رسائل الكُفْران! ( الجزء السابع)

1
أحدهم يُديرُ بِجُنونٍ تصوير فيلم عالمي رديء، ونظرا للواقعية غير السحرية التي يتحلَّى بتقريريَّتها الجافَّة هذا الفيلم، فهو لا يخلو من ضحايا يُعدُّون بالآلاف، كما أنه جعل كل سكان العالم يلعبون دور المُمثِّلين والمشاهدين في نفس القاعة مَحْجورين على شفا الشارع، أما هو فَدورُهُ كمخرج للفيلم يُمْلي عليه الالتزام بمسافة الكاميرا كي لا تصيبه عدوى الوباء، ورغم الرداءة المنحطة لفيلم الرعب العابر بفيروسه للجنسيات، فقد استطاع هذا المخرج الذي أحْرجَ الإنسانية بتفاهته، أنْ يُغيِّرَ نظرتنا للحرب التي لم يتوقف تطورها بين الحديد والنار، بل هاهي اليوم تتخذ من إشاعة المرض سلاحا، ومن يملك العلاج سيُغيِّرُ موازين القوى ويملك مقاليد السَّيْطرة في نظام عالمي جديد، ويتمكَّن من حيازة القوة الاقتصادية والسياسية العظمى، ليس بقبضة من حديد بل بمصْلٍ يُلقِّحُ البشرية، ألمْ يُحرِّك اليوم سلاح الوباء الثروات ويُحرِّرْها من الأرصدة الجامدة، ألمْ يجعل سيولتها تصب بربح وفير للحساب الشخصي لهذه القوة العظمى القادمة، فما منْ فرْدٍ وما منْ جهاز مدني أو عسكري في المجتمع لم يضعْ يده في جيبه الاحتياطي ليشتري تذكرة، ليس للدخول ولكن للخروج من كابوس هذا الفيلم الطويل سالماً!
لا تُصدِّقوني، هذه أفكار لا تصدر إلا عنْ عقلية المؤامرة، إنما هو فيلم فقط ما زلنا ننخرط فيه مُجْبرين بالمشاهدة والتمثيل، لكن رجاءً بعد أن ينتهي ويخرج الباقون مِنَّا أحياءً من قاعة العرض، لا تُمزِّقوا التَّذْكرة!

2
كما يَتدخَّلُ الوالِدان في صغرنا لِفضِّ نزاعٍ نشَبَ بين أخٍ وأخْتِه، نتدخَّلُ باسمين في كبرنا لِفضِّ النزاع بين الأب والأم حين يعودا إلى اللعب مع بعضهما !

3
أُجنُّ كُلَّما لاحتْ لي من بعيد، وأجدني أقول بعد أن يستقر شَعْرُها على كتفيها باستقرار الهبوب وأعودَ لرُشدي: الحُبُّ يُعبِّئ كل الفراغات، لأنه يزيد من تدفُّق الدم في العروق، ارتفاع النبض في القلب، ويجرُّ للأعين دون ريح قطعان الغيوم فلا تبصر إلا ضباباً، ورغم أن الغاية من الحب ليس هو الجنس، فهو يزيد أيضاً من نشاط الحيوانات المنوِيَّةِ بلا مُفاعلات نوويَّة، وتعلو درجة السُّكْرة من دون كحول وكأنَّكَ شربْتَ المُحيط وليس فقط أقداحاً من شفتيها، ولكن ما جدوى أن يكون المرء مُعبّأً بهذه الحالات والكأس حيث يتدفَّقُ بعيدٌ عن مُتناوله في يدها؟

4
رَأيْتُ بالعينْ، فهطلتْ مع الرؤية الدَّمعةُ من عيني لا أعرف أيْنْ؟ ولكنها سقطتْ بلا رنين ليس بعيدا عن الدِّرهم التي رماها أحدُ الأجْلاف وهو ينْهرُ مُتسوِّلاً مسكينا بقوله المسموم: طيلة النهار وأنت ممدود اليد ألا تعلم أنَّكَ تمُدُّها بعدوى الوباء!
حينها أيْقنتُ أنَّ المرض الحقيقي يُعشِّشُ في الأنفس فحقَّ بأمثال هؤلاء على الجميع عذابْ!

5
هذا المرض يتحلَّى بالروح الجماعية، فإن أصاب واحداً انتقل بالعدوى إلى آخر لأنه مبعوث إلى البشرية جمعاء، ولن نستطيع أن نتخذ هذا المرض قدوةً في روحه الجماعية، لأنه يفرض علينا مسافة التعامل مع بعضنا البعض من بعيد، ولن نستطيع أن نحرمه حقه في الحياة ليعيش بموتنا، ولكن المحنة ونحن نقاوم هذا الوباء، أثْبتتْ أن البعض منا وهو يحتكر الطعام والثروات في معزله غير الصحي، يستطيع أن يَحْرِمَ الجميع من كل شيءٍ حتى الصابون الذي يغسل وسخ اليدين، ليضمن لنفسه البقاء!

6
نعش يتلوه نعش في جنازة عالمية، وثمة من بصفقة الموت ينتعش!

7
الشَّهْرُ الذي لا يبدأ من آخره على بُعْدِ خطوة من شُبَّاكٍ بنكي يُعَدُّ دهْراً !

8
خُلِقْنا بأذنين لكي لا نسمع من طرف واحد، وَنتبيَّنَ الخبر الصحيح من الشائعة قبل أن نُصْدِرَ حُكْماً، للأسف ما أكثر الأحكام الصادرة هذه الأيام من أذنٍ صمَّاءْ !

9
أكتب مُعوِّلا على قارئ لا أعرفه ولا يعرفني إلا من خلال ما أكتب !

10
الهُوَّة.. ما زالت كما هي في السَّانية النَّضَّاحة بأعْذب المياه من باطن الأرض، ولأنها أفرشتْ محيط تدفُّقها بالعشب، فقد كانت مرتع لعبنا في الصغر، أنذا اليوم أقف أتأملها في الكبر، وحين أمْعنْتُ النظر في عمقها شعرتُ بدوخة، كانتِ الهُوَّة حُجَّتَنا الوحيدة لِنُثْبِتَ أنَّا رجالٌ، ومن لم يقفز فوق فراغها السحيق من ضفة لأخرى، يسقط ليس في الهُوَّة ولكن من أعين الجميع !
كأني بفراغها أسمعه ينادي عاوِدِ الكرَّة واقفز يا محمَّدْ، كن رجلا ولا تستسلم، وكأني أسمع أتْرابي الصغار من حولي يصرخون مُصَفِّقين:
هيا.. هيا.. !
حاولت ولكن ارتِعاشاً دبَّ بنمله في ساقيَّ وجعلهما أشبه بمنديل في مهبِّ الريح، ولم أجد من تبرير لِجُبْني سوى أن الهُوَّة اتَّسعتْ بسبب عوامل طبيعية، ابتعدتُ أكثر وما زال صوت الصِّغار يلاحقني بصداه: هيا.. هيا كن رجلا واقفز !
لكنَّني فضَّلْتُ القفز على دراجتي الهوائية هارباً من شَغَبٍ قد ينتهي بجِبْصٍ وعكاز، ومع ذلك لمْ أسْتَطعْ الهرب من الطِّفل الذي في داخلي، ما زال يحاول قفز هوة أكثر اتساعا في الحياة..


* ( افتتاحية ملحق " العلم الثقافي" ليوم الخميس 26 مارس 2020)


L’image contient peut-être : 1 personne


93

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى