زكية علال - قبر مفتوح

هي امرأة تحضن قبرها تماما كما تحضن الطفلة دميتها.. هي امرأة ترفضها كل المدن.. كل الوجوه التي تتناثر على صدر الصباح، لهذا قررت أن تنصب خيمة على جسدها وتلف غيمة حول رأسها لتروي على مسامع الكون تفاصيل حبها.. هي أفاقت هذا الصباح، فاكتشفت أنها تحضن قبرا.. هو ما كان قبرا قبل اليوم، بل كان شمسا تربعت على قلبها فأنارت جوانبه المظلمة، وأشاعت الدفء بين جدرانه الباردة، كان قمرا انحنى أمامها ذات مساء حالم? لا يشبه كل المساءات التي تزور الشوارع وتطبع على جبينها الوضاء قبلة لا تزال المدينة تعيش على حرارتها.. هو أسند رأسه إلى جدار صدرها فاحتضنت أوجاعه، وحملته إلى عالم ليس فيه وجع.. علمته كثيرًا من حروف الأمل وأبجديات الفرح..هي ما كانت تعتقد أن للقمر أنيابًا تعض كما الوحوش، ولا كانت تعرف أن للشمس وجهًا آخر غير الذي تشرق به على الوجود، أمها علمتها أن في جوف البشر قلبًا قد يقسو حينا، ولكنه يلين في كثير من الأحيان، قد ينبض بالحقد مرة، ولكن.. ينبض بالحب مرات عديدة.

عندما كانت تعبر الشارع الأول قررت ألا تنظر في وجه أحد حتى لا يغريها بالبقاء.. عندما قطعت الشارع الثاني ابتسمت بنشوة، فقد أحست أنها عبرت نصف المسافة وبين أحضانها وطن ليس من ورق، وليس دمية أيضا.

عندما شرفت على النجاة، شعرت بوهن يغزو رجليها، فأسندت رأسها إلى شجرة طاعنة في السن كي تلتقط أنفاسها، ثم راحت تتحسس ما فوق صدرها نظرت إليه.. صرخت من هول الفاجعة التي كادت تفقدها ما تبقى من وعيها، فهذا الذي تهرب به من غثيان المدينة تحول هو الآخر إلى قبر ينفتح في أعماقها.. هو ما كان قبرًا قبل يوم.. كان وطنا هرب إلى صدرها ذات ليلة أمطرت فيها سماء المدينة جمرًا.. نارًا.. ولهيبًا.

عندما كانت صغيرة، رسمت له بيتًا من ورق في غرفتها، كان بيتًا جميلًا لونته ببراءة الطفولة فيها.. نوافذه تطل على عالمها، وبابه لا ينفتح إلا على قلبها وأفاقت ذات ليلة عاصفة لتكتشف أن بيت الورق لم يبق له أثر.

عندما كبرت الطفلة، وتقلصت سذاجتها، أقامت له بيتا من حجر على ضفاف النهر الذي يعبر قريتها.. نعم.. هي باتت تدرك أن الورق ليس كالحجر، ونزيف القلب ليس كنزيف الحبر، وأن المعطوف ليس له - دائما - حكم المعطوف عليه، وأن حروف الجر ما عادت نزيهة كما السابق، هي ما زالت تذكر من حقيبة طفولتها أنها وقفت يوما للإجابة عن سؤال طرح في القسم، فنطقت المدينة مرفوعة بعد حرف جر، ساعتها تبسم المعلم ضاحكًا من قولها ورد عليها «حروف الجر تجر الجبل، فكيف بالمدينة».

الآن.. هي تعي جيدا أن حروف الجر لا تسحب وراءها غير بؤساء القوم وذوي النوايا الطيبة، ما عدا ذلك فهو مرفوع لتعذر النطق !

هي تعترف أن جسمها الضعيف ما عاد يحتمل ثقل هذا القبر المفتوح على أعماقها، فرت إلى أمها وأبيها وأخيها وبنيها، لكن لا جدوى، لكل منهم شأن يغنيه عنها.

وأخيرًا قررت أن ترفع أمرها إلى الملك فهو - وحده - يملك أمر البلاد والعباد - سعت إليه في قصره.. دخلت عليه، ثم حدثته بصوت مبحوح: «أيها الملك.. أستحلفك بالذي يسر لك أمر هذا الملك بين يديك، أن تخلصني من لعنة هذا القبر المفتوح الذي يتمدد على صدري ويمنع عني الحياة».

بعد صمت طويل خاطبها من فوق عرشه قائلا: «أيتها المرأة ادخلي بيتك آمنة، فنحن ها هنا- منذ سنين- نناقش أمر هذا القبر الذي انفتح على قلب المدينة، وعندما نصل إلى حل ستعرفين ذلك من كل شاشات العالم».

خرجت من القصر مكسورة.. حزينة، فهي تعرف أن وعد الملوك كرسم في الهواء، ونقش على الماء، لهذا عرجت على القاضي لتطرح قضيتها في حضرته، فأفهمها أن رقم قضيتها بعيد جدا، وعليها أن تنتظر دورها ألف سنة أخرى!

لم يبق أمامها إلا شيخ المدينة، فرحلت إليه تشكو له لعنة هذا القبر الـذي يلاحقـها كظلهـا ويلتصق بها كجلدها، تحدثت إليه كثيرا... كثيرًا حتى باتت الحروف تخرج عرجاء، مرهقة، لكنه ظل صامتًا لم ينبس ببنت شفة.

ساعتها.. بكت.. بكت بسعة النهر الذي يعبر قريتها.. بكت حتى ضاع بياض عينيها، لأنها تعرف أن شيخ المدينة لا يسكت عن شيء، ولا يصمت عن قضية إلا إذا كان حلها عسيرًا.. بل مستحيلا.



زكية علال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى