أمل الكردفاني- التجربة المريعة- قصة قصيرة

الزمان ٢٥٠٦ ب.ط...

لقد أحيوني من جديد...غير أن انفتاح عينيَّ على عالم مضت عليه أكثر من خمسة قرون لم يكن بالتجربة الأكثر ترويعاً لي.
كما لم يكن أكبر ترويع لي هو أن إنسان ما بعد القرون الخمسة كان عارياً ويحيا في الكهوف كما كان عليه الحال قبل عشرة آلاف عام مضت. لكن الترويع الأكبر هو أن هذا الإنسان فقد حتى رغبته في التملك. لأنه في الواقع أصبح يملك كل شيء..قال لي احدهم: أنت الجيل الأخير من أجيال تجارب البعث..كنا في الأجيال الأولى نحاول رد الأشياء إلى الوراء..بل أضطررنا للقتل احيانا لكي نستطيع بلوغ مرحلة البعث..كان اللوغوس بدائياً في ذلك الوقت.
ما فهمته أنهم اضطروا للعود للوراء كثيراً ليستردوني من براثن الموت. كنت العَيْنَة الوحيدة الصالحة بحسب السجلات.. فلقد مت دون أن تبقى لي سلالة تعيق إعادة بعثي من جديد..
- هل تعرف ماذا يعني البعث؟
وحين نفيت أجاب:
يعني أن كل بعوضة امتصت قطرة من دمك كان يجب أن نعود ونمتص دمك منها..كل نبتة تغذت من بقايا جثتك كان علينا أن نسترد منها بقاياك تلك..ولكي نفعل فكان لزاماً علينا أن نسترد النبتة نفسها من دماء حيوان عاشب أكلها، ولكي نفعل كان علينا أن نقتل آخر انسان اكل تلك العشبة لنستخلص من دمائه تلك النبتة..
ويتنفس بوجه ممتقع:
لقد ازهقنا الكثير من الأرواح لنرضي غرورنا..حتى توقف ذلك عندما بلغنا اللوغوس..
توقف الانسان عن التعب والانتاج..توقفنا عن اللعب..إننا نسترخي كثيراً لنهنا بالإرتهام....
وحين نظرت إلى الأفق كانت الأدغال صامتة، والشفق الأحمر يختلط بكآبة الصمت ودمع نجمتين انكشفتا على الوجود بحياء.
لقد أعادوني إلى الحياة لأعاني من عالم لم أعهده، عالم عاد إلى حضن الطبيعة من جديد حين اكتشف الإنسان أوهامه القديمة...أصبح الإنسان خالداً وطور مشاعر جديدة تجاه حياته الخالدة، ماهو الارتهام، فشلوا في شرحه وشرح غيره من المشاعر. أخبروني بأنهم كانو قد بلغوا ثلثي تجربة بعثي عندما اكتشفوا سر اللوغوس، فلما يشاءوا التراجع..
إنني الشاهد الوحيد على خلودهم المأساوي.
هل كنت تفضل الموت؟
وحرت جواباً...ولكن الشمس ليست هي الشمس نفسها التي تركتها قبل خمسمائة عام، ولا القمر ولا الأرض ولا الشروق ولا الغروب..بل انني حين نظرت لجسدي وجدت خصيتي وقد تحولتا لبقعتين صغيرتين داكنتين فقط.
- لا نحتاج للإنجاب...لقد تطورنا وكان عليك أن تفهم أننا لن نغامر بأي فرصة لزيادة كاهل الأرض بأعباء بشر جدد.
كانوا يضطرون للحديث معي بأصواتهم المبحوحة فقد توقفوا عن الكلام منذ ثلاثة قرون، إنهم يتحدثون عبر التخاطر فقط. وسوف يطورون هذه الخاصية عندي عندما أكون جاهزاً...
ومثلهم العصافير والحشرات والزواحف والمفترسات، فقدت صوتها تماماً، لقد حف الصمت بغلاف الأرض.. هكذا توقف التطور عند هذا الحد المؤلم..الخلود الشامل...والأرض لا تتحمل إلا أن تكون الفردوس الأخير.
دخلتُ كهفي، ولفني الظلام، لا مرض ولا موت، لقد تعرضوا للطاعون، قبل خمسمائة عام فاستنفروا طاقتهم المعرفية لأقصى حد كي يكتشفوا علاجاً له، لكنهم توصلوا لما هو أفضل من ذلك في نظرهم...الخلود..اللا ألم...اللا جوع...اللا عطش..اللا نمو...اللا تقلص...اللا شيء...وأضحوا يملكون كل شيء لأنهم لا يحتاجون لأي شيء..لقد بلغنا الكمال: قالوا بفخر يخفي حزناً دفيناً في أعماق أعينهم البيضاء.
وكان مساء، وكان صباحٌ؛ يومٌ جديد.
وكانت الأرض زاهية بلا أمل، إمرأة بشارب ولحية كثَّيْن قالت لي أنها ستعلمني كيف أستدعي مشاعر جديدة تطورت عبر القرون القليلة التي مضت. وأضافت: الغضب والحزن والفرح مشاعر تدل على النقص، ولكن مشاعرهم هي مشاعر الكمال...
أمسكت برأسي وقربته من رأسها وأغمضنا أعيننا، وسرت في جسدي برودة خفيفة، ثم داهمني شعور مرعب، فقفزت للخلف وسقطت على الأرض. قالت بفحيحها: ستعتاد على ذلك..إنها مشاعر أكثر كثافة من سطحية مشاعرك القديمة..المشاعر الخطية المرهونة بالسبب...
لا أستطيع وصف هذه المشاعر فاللغة التي كانت نادراً ما تستطيع التعبير عن مشاعر شديدة البساطة قديماً كالحب والكره؛ لن يمكنها بأي حال أن تتمكن من التعبير عما اعتمل في جسدي كله في تلك اللحظة...
نحن كائنات حساسة جداً..مشاعرنا المطلقة تعم كل خلية في جسدنا..إننا خلايا عصبية شاملة...ولذلك لا نحزن ولا نغضب ولا نفرح..نحن نرتهم فقط... وهو ما اطلقناه على وصف هذه المشاعر...
عقلي أومض بوعي مطلق، هذا كل ما يمكنني أن أقوله عندما اعتدت على الارتهام... وعيي أصبح كُليَّاً...وهنا تبددت رغبتي في التملك والانتاج..إن ذلك الشعور بالرغبة في اكمال نقصي في الحياة السابقة عبر التملك والانتاج قد انتهى...
لا يمكنك الموت..لا يمكنك الانتحار..لأنك تطورت لتكون الكون بأسره...والكون ينهار كلياً لو إنهار جزء منه، إن الكون يحافظ عليك وتحافظ عليه..لذلك لا موت ولا ألم...لا شيء البتة...
ليس عليَّ أن أختبر صحة ذلك، فالوعي الشامل يغنيني عن التساؤلات التي كان يطلقها الإنسان البدائي...كنت استطيع أن أذوب في الوجود بأسره، أن أكون شجرة تارة، زهرة تارة أخرى، عصفوراً، كلباً، أسداً حجراً، ذرة أوكسجين، مهلاً قابعاً في مركز الأرض...ولكن لا متعة في كل ما سبق، بل ولا ملل، لقد استوى كل شيء بين ظاهري وباطني.
المرأة ذات الشارب واللحية ترقد عارية هناك كما ارقد عارٍ هنا. نظرت نحوي فجأة وصاحت بلا صوت مستدعية بعض البشريين عبر التخاطر.. اجتمعوا والتفوا حولنا: خاطرتهم قائلة:
- هل من سبيل لقتله..لقد فشلت التجربة...ألا ترون أنه يبكي؟

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى