نزار حسين راشد - حكاية عطا.. قصة قصيرة

كان عطا زميل دراسة، الشخصية المنبوذة من زملاء الصف، لم يكن أحد يحرص على رفقته، بل كانوا يتجنبونه قدر الإمكان، ويعللون ذلك بأنه كذّاب، وأنك بالكاد ستعثر في فرط كلامه على كلمة واحدة صادقة، بل أسهل من ذلك العثور على حبة قمح، في كومة من التبن، هكذا عبّر باسم، أكثرهم تنصّلاً منه، وجفاءّ له، وأبدى استغرابه الشديد من حرصي على إدامة أسباب الود، بيني وبين عطا:
- هل تتعلّم الكذب في مدرسته؟دروس خصوصية؟
ثُمّ يعقّب ساخراً: ربما ستحتاج هذه الموهبة في يومّ من الأيام!
ربما حين تتقدّم لخطبة ليلى، هذا إذا ظلّت من غير زواج لحين أن ننهي دراستنا... مثلها يتخطّفوهن تخطّفاً! نظرة من عيونها كافية لإسقاط الفارس عن ظهر فرسه.. سيصاب بالدوخة ويسخسخ ويسقط!
وأرخى يديه، مُرنّحاً رأسه، مُمثّلاً دور من أصيب بدوار. كان معتاداً أن أستمع له بصمت، وهو يسترسل ويسترسل، وفي النهاية، أتركه دون أن أقول شيئاً.
كان لعطا خيالّ جامح، يترجم أبهت وقائع الحياة إلى حكاية شيّقة، يخلع عليها لوناً ، يكسوها بالريش، يُركّب لها أجنحة، ويجعلها تُحلّق ويُحلّق خيالك معها، وهو ما يحسبه الرّفقاء كذباً، يستدعي نبذ عطا، والتجافي عنه، حتى لا يلحق بهم العار ويدخلوا في زمرة الكذّابين.
لم تقتصر موهبة عطا على ذلك، فقد كان قادراً على رؤية الحدث من زوايا مختلفه، لا يراها الآخرون، ويؤوّله بطريقة لا تخطر على بال الناس العاديين.
هذا بالضبط ما كان يمتعني في صحبته، وفي عصريّات ما بعد المدرسة كُنّا نشاهد جالسين على كرسيين من القش، قبالة بعضنا، أمام دُكّان والده الصغير، ومستغرقين في حديثٍ حميم.
كان الزملاء يمرّون من جانبنا، فيحدّجوننا بنظرة استنكار، أو يغمزون بأعينهم ويمضون، دون أن يتكلّفوا عناء إلقاء السلام.
بعيد الحرب ووقوع الهزيمة ومجيء الإحتلال، استأنفنا جلساتنا المطوّلة ونقاشاتنا الحميمة، حتى أن جنود الإحتلال اعتادوا على منظرنا، وهم يعبرون وسط البلد، ويلقون إلينا التحيّة: شلوم.. شلوم..
وكنت أترك لعطا مهمة الرد، فيقطع حديثه ويردّ تحيتهم: شلوم.
لم يتأثر عطا بالهزيمة كثيراً، قال أن ذلك كان أمراً متوقّعاً، وقال إن عند والده كتب قديمة، مدون فيها كل ما حدث وما سيحدث، وأنه قرأ تلك الكتب، وأنه منصوص فيها على أن اليهود سيحتلون بلادنا ، لحكمة يعلمها الله وحده، والراسخون في العلم.
ولما قرأ عطا حيرتي، ولمح في عيني شيئاً من عدم التصديق، استفاض شارحاً:
- عوام الناس لا يفهمون شيئاً، والسياسيون يظنون أنهم قادرون على صنع التاريخ... أنظر إلى ما كان يقوله جمال عبد الناصر وكاتبه هيكل!
ما حدث هو العكس، لماذا؟ لأن ذلك مقدّرٌ ومكتوب، والنصوص تشهد بذلك!
وفي الحقيقة كدت أن أصدّق عطا، أو أنني صدّقته فعلاً، فما حدث مخالفٌ حدّ الفجيعة، كل ما كان يحلم به الناس أو يتوقعونه!
كيف ولماذا؟
- ليقضي الله أمراً كان مفعولا!
هكذا نطق عطا! وكانت تلك أول مرّة أسمعه فيها يستشهد بالقرآن الكريم.
ثم يستفيض في التدليل:
- من كان يتوقع أن يهزم دايان خمسة جيوش عربية في رمشة عين، ويقف مبتسماً بعينه العوراء، في قلب مدينة القدس.
هذا أمرٌ خارج كل الحسابات الدنيوية، التي يحسبها الناس، فالعوام كالنمل يسعون على بطونهم ملتصقين في الأرض ولا يرون أعلى من ذلك، أمّا مشيئة الله فتأتي من فوق، وينفذ قدره رغم إرادة العبد ، وفيما يبدو في الظّاهر أنه خذلانٌ للأمة وهزيمة لها وتخلٍّ من الله عنها!
ولكنها ليست هزيمة يا صديقي، إنها أوّل خطوةٍ على طريق النصر، وسنلتقي أنا وأنت ونذكر هذا الحوار، فقط تذكّر!
تعاقبت السنون وتمادت ولم نلتق أنا وعطا لنجري جرد الحساب.
ولكن ما قاله عطا أصبح حديثاً سائراً . وصار الشيوخ يتلون سورة الإسراء ويفسرونها، على المنابر وفي الدروس، مبشّرين باليوم القريب الذي بشّرني به عطا منذ أول لحظة ألقى فيها الإحتلال رحاله الثقيلة على أرضنا وزرع أوتاده فيها.
لقد تراجعت السياسة مفسحة المجال للدّين، والآن وبغض النظر عن الواقع السياسي المهلهل للأمة، فالبشائر موجودة، خلافاً للشعور الذي ساد عقب الهزيمة حين ران الإحباط الكامل واليأس الخامل
كان مما قاله لي عطا، أن أمر الله يحدث خلافاً لكل التوقعات والحسابات، أما من ينفذه فهم جنوده الأخفياء وعباده الأوفياء، فلا تنشغل بمن يطفون على السطح.
أما من أغرب ما حكاه لي عطا قال:
- هل ترى إلى ذلك الرجل محمد حسنين هيكل، مهندس الحلم الكاذب، لقد قابله جدّي في حجه المتكرر إلى مصر ليطلب السلاح، وحاول أن يجعله يقنع ناصر بتسليح الناس ولو في غزّة على الأقل، ولكنه رفض، أتدري لماذا؟ لأنهم لا يثقون بالناس، ويظنون أن السلاح سيقع في أيدي المعارضين لهم ويستخدم لإسقاطهم!
أتدري أوّل بشائر النصر؟
ويجيب نفسه بنفسه:
- حين تعود الثقة بين الحكومة والشعب! بين الحاكم والمحكوم!

نزار حسين راشد
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى