ڭابرييل پيكارد - مراكش والفقر ..

لو أُعطِيتُ درهما عن كل مرة حَمَلَ فيها شخص مغربي أحد أبنائي الصغار، وقبله بحب وابتسامة على وجنته خلال زيارتنا الأخيرة إلى مراكش، لجمعتُ من المال ما يكفي لشراء "طاجين لحم" في واحد من أكثر المطاعم شعبية بسوق المدينة. لمْسُ وتقبيل الأطفال البِيض الشّقّر في المغرب شيء شبه سائد، أخبرني أحد السكان المحليين المبتهجين أنه رمز حظ، وجالبُ المال والثروة للمرأة الحامل!

على الرغم من جمالية هذه الفكرة الخرافية حول الثراء، في معناه المادي، إلا أن الظاهر هو عدم تأثيرها لا على نفسية ولا على واقع الجزء الأعظم من سكان هذه المدينة المغربية الساحرة الآسرة.

منذ لحظة وصولك، لا تنفك من جموع المتسوّلين والأيتام ورواة القصص وسحَرة الثعابين، تنظر إليهم وهم يتنافسون بشدة لنيل بضعة قروش من جيوب السياح القادمين. في كثرتهم، لا يلوّنون فقط شوارع المدينة، إنما يرسمون صورة الفقر، في واحدة من أعظم عواصم الجنوب المغربي قيمة وجمالا؛ فقر حقيقي مدقع.

على الرغم من القول السائد بأن الفقر انتهى منذ سنوات طويلة من هذه البلدة الصاخبة، إلا أن المراحيض العامة المبتكرة منذ القرون الوسطى، والمحلات التجارية التي تخفي في حقيقتها مرائب (ڭاراجات) متداعية، والحمير التي تجر عربات محملة وسط الطرقات عملا لا منظر سياحة، كلها توضح أن الفقر لا زال قاطنا في صميم حضارة مراكش.

من منظور غربي، تبدو ابتسامة المراكشيين و"قبولهم" أو "انفتاحهم" على الفقر، بين متسولين يجوبون أكشاك الطعام ليتسولوا الخبز وبقايا الوجبات، وبين آخر يبيع وسط "جامع الفنا" أسنان رجل ميت ليجد مالا لعشائه، أنها سر سحر المدينة خاصة والمغرب عامة!

ولكن ما يثير السخرية، هو ارتفاع معدل البطالة، وانهيار البنية التحتية، والفقر المدقع في مقابل الأسعار الخيالية التي يتقاضاها أصحاب الفنادق والإقامات بمراكش، والأموال الباهظة التي يدفعها السياح عن المشتريات والهدايا والنزهة أيام إقامتهم بالمدينة، أسعار تجعل الأكل والشرب في بلدان مثل إسبانيا أو حتى في المملكة المتحدة (بريطانيا) أرخص بالمقارنة.

كيف تكون مراكش واحدة من الوجهات السياحية الأكثر شعبية، تعرف تدفقا مستمرا للزوار على مدار العام، هي في آن واحدا مرتعا للفوضى كأنها تعيش في القرون الوسطى؟ ماذا يمكن عمله للتخفيف من ذاك الخط المقرف المظلم بين الأغنياء والفقراء في مدينة غرست معها الحياة واللون والعطر والجمال، حتى عرفت باسم "المدينة الحمراء"؟

قررتُ الهروب من صخب الحياة في المدينة القديمة بمراكش، فاستقليت عربة بعد عربة طوال اليوم. رحلة استغرقت 130 كيلومتر، ثلاث ساعات لا تصدق بسبب الحالة المتردية للطريق. خلال الرحلة شعرت بالغثيان لأكثر من مرة، مررنا بالعديد من القرى الريفية المهملة، حيث نظرة الفقر والجوع بادية على مُحيّا السكان المحليين؛ يحدقون في السياح وهم يمرون عبر تلك الحافلات الفاخرة المكيفة بمرارة.

فقر منتشر، خاصة بالمناطق الريفية (البدوية) في المغرب، حيث أنّ واحدا من بين كل أربعة أشخاص في البوادي يعيش تحت خط الفقر (الجوع والبرد)، مقارنة مع المناطق الحضرية حيث واحد من بين كل عشرة أشخاص أو أقل.

وقد أدت التنمية غير المتوازنة التي أعطت القليل من الاهتمام للمناطق البدوية مقابل المدن الكبرى إلى الهجرة نحو المدن، بحثا عن فرص عمل لتحسين مستوى المعيشة.

والواقع أننا إن حكمنا من خلال الحجم الهائل للمتسولين في الشارع من أطفال ومعوزين في مراكش مثلا، القادمين من البوادي، نستنتج أن عملهم في تربية الثعابين أو اللعب بالقردة أو رمي بعض الخبز لجمع الحمام أمام السياح مقابل بضع دريهمات، لا يزيد تحسينا من نوعية حياتهم إنما يجعلها صعبة أكثر مثل حياتهم في البادية، بفارق واحد، أنهم هم أيضا في مراكش المدينة يعتبرون من السياح!

قصر الملك من بين المعالم الكبرى المبهرة في المدينة التي يحرص السياح على رؤيتها، خاصة تلك الخيول التي تجر عربات في حلل عجيبة تتباهى بجمالها أمام القصر، تصور حجم السلطة التي يشغلها ملك المغرب، وقوته، أمام ضعف سلطة القضاء والعدل وضعف سلطة البرلمان والشعب.

وأمام وجه آخر من الازدواجية في مراكش، ترى جنب المباني الفخمة الفاخرة صدمة المنشآت الرديئة المتردية المتنكرة في زي محلات تجارية وأكشاك، يتدفق العجب من هذا التناقض الصارخ مع تدفق السياح القادمين إلى مراكش، ولا تخلو من وجوهنا الدهشة بين فوارق طبقية بحجم السماء والأرض.

متى ينتهي زمن "الفائض"، ويحل محله زمن "العدل"، فالذي يجري حاليا في مراكش ليس إلا سياسة الفوارق التي تزيد الأغنياء غنى وتزيد الفقراء فقرا.

متى يُعطى للحكومة دورها الحقيقي في تنفيذ استراتيجيات تحدّ من الطبقية المتزايدة، وتقسم الثروة بشكل يجعل من السكان المحليين اليائسين للمدينة في مستوى عيش يليق بهم، والسكان الأغنياء أقل فحشا، حتى لا يحس السياح بالذنب تجاه المبالغ الهائلة التي تصرف على الإقامات، وبالشفقة كلما زاروا قلب المدينة النابض، وليكونوا أكثر استعدادا لقضاء عطل ممتعة ودفع مبالغ يعلمون أنها تحقق النماء لمراكش وللمراكشيين وللمواطنين المغاربة.



عن هسبريس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى