أ. د. عادل الأسطة - هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟

توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و (آرثر كوستلر)، و (ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين "ما تبقى لكم" و "الصخب والعنف"، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: "الإنسان قضية" (بالانكليزية) بين "عائد إلى حيفا" و "دائرة الطباشير القوقازية" (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891" وكتابي "الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني".
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ "الصخب والعنف"، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" في العام 2791، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و 7691، اتبعها بعمله "سداسية الأيام الستة" )1968( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 6691"، هل تركت "السداسية" إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب "عائد إلى حيفا"، و "أم سعد" وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع "سداسية الأيام الستة"، هما "بوابة مندلبوم" و "النورية"، ونصاً آخر عنوانه "قدر الدنيا" وتمثيلية "قدر الدنيا"، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 7691، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة "بوابة مندلبوم" وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): "إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين "تؤدي الى قراءتين مختلفتين"، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ "بوابة مندلبوم" و "عائد إلى حيفا" يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه "الوطن في شعر ابراهيم طوقان" (مجلة النجاح للأبحاث، 6991)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" )1979( ومحمود درويش "أنا من هناك" )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة "عائد الى حيفا" )1969( وغابت "بوابة مندلبوم" عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية "اسم الوردة". في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته "اسم الوردة" وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي، 0002). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب "عائد الى حيفا" )1969( بـ بوابة مندلبوم". ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في "بوابة مندلبوم" يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني"، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
"ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!" "... ... ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهماً".
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في "عائد الى حيفا". حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان "تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة "بوابة مندلبوم"، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في "عائد الى حيفا" المقطع التالي:
"سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..".
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم...
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..".
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى