أسيا علي موسى - رسالة الجحيم

أسيا علي موسى


ما هو الجحيم؟ إنه فقدان القدرة على الحب" أظنني أعيش الجحيم.. أظن الجميع يعيش ذلك.. إذن كيف نهرب من الجحيم؟ وأين الرحيل؟

كل الكائنات ترحل.. الأحاسيس الحلوة و المرة.. البريئة و اللئيمة أيضا ترحل.. تتناوب علينا، كما الأفكار.. كما المبادئ والقناعات، كما الحياة والموت.. لكن وحده.. ذلك ( القرد العاري) يرحل هاربا من.. نفسه.

***


الشمس ترحل، القمر يرحل، أمواج البحر ترحل، الناس ترحل، العصافير الصغيرة أيضا تكبر ثم ترحل، السحب، الأيام.. المشاعر، المبادئ، كل شيء قابل للرحيل.. إلا هي وحدها دائما تبقى، لا تعبأ بالراحلين، يتعاقبون تباعا، بعضهم يرحل ويعود، والآخر يختار منفاه ليحيا أو يموت، لكنها مصرة، مرغمة، على انتظار الرحيل الأخير، هي الأرض، هي الأم التي لا تملك إلا الصبر تقهر به القدر.

تسألني نفسي لائمة..

أين صبرك، أين المبادئ التي أمضيت عمرك تتغنى بها، أين حبك، أين كرهك، أين يقينك، أين شكوكك، أين أكوام أوراق التاريخ التي قرأت وحفظت ودرست؟؟

أين الصمود وتلك الشعارات التي رددتها في صغرك..

هل تذكر كل ما لقنوك إياه.. تلك الأبيات التي رددت في ساحات المدرسة والعلم يرتفع وحناجر الأطفال تتدافع ليعلو أكثر.. دون أن يفهم أحد من النشيد شيئا، كان واضحا فقط أنه شيء يلهب الحماس ويبعث فيهم الإحساس بالفخر والتحدي والقوة،

قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات


أين جدك الشيخ الألمعي، و ما كان يرويه لك عن كفاحه، عن بطولاته، عن رجله التي أهدى الأرض إياها عربون إخلاص وسدا لدين، و كنت تتساءل دون أن تجرؤ على مصارحته وأنت تراه يعرج بلوحين تحت إبطيه ويرفض قطعا أن يستفيد من منحة المجاهدين التي تمنحها منظمات.. غالبا ما كان يسخر منها قائلا.. أنا لم أبع رجلي مقابل دولارات البترول وأموال الضرائب، ولن أكون عالة على هذا الشعب، أنا اشتريت كرامتي ولن أبيعها في سوق المنح..

كثيرا ما كنت تتساءل كيف يشتري المرء كرامته؟ وما هي هذه الكرامة التي تشترى بالأرجل والرؤوس؟

جدي كان كثير الحديث عن الأرض، يقول إن كرامة المرء من حرية أرضه، كنت أتصور أني أفهم ما يقوله، بدا الأمر لي أيامها بسيطا، لقنوني في مدرستي الكثير عن الوطن وعن الأحرار، لقنوني بعض القصائد وخلاصات، كنت أحفظها عن ظهر قلب، عن هذه الأرض التي توافدت عليها الأمم: الرومان، الوندال، العرب، وظلت متمردة..

عن رجال و نساء ظلوا لوقت طويل رموزا للمفخرة، عن يوغرطة و يوبا وماسينيسا، عن أحمد باي ومعركة قسنطينة التي هزم فيها الفرنسيين، عن الأمير عبد القادر غرب البلاد، ومعركة المقطع، عن بوعمامة، بوزيان، محمد المقراني، الشيخ الحداد، لالا فاطمة، عن كل الثورات الشعبية، عن أحداث 8 ماي،

هذا ما كنت أعيده على جدي وهو متكئ على وسادته الصوفية، مهللا مكبرا مترحما على أرواحهم، مرددا بين الفينة والأخرى آيات قرآنية في أجر الشهادة وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

"هكذا يكون الرجال.. زدني يا ولدي، وماذا تعلمت أيضا؟"

كان جدي ينتظر درس التاريخ بشغف ولأنني كنت أحب جدي كثيرا، فإني أحببت التاريخ لأجله، كنت أحب أن أرى نظرات الاعتزاز وبريق الفرح والشموخ في عينيه كلما حدثته عن تلك المآثر.. حتى أني كثيرا ما كنت أزيد عن الحقيقة لأزينها له أو.. أخفي عليه حقائق أحدس أنها تضايقه، وأدرك بعقلي الغض أنها تخفي الكثير من الفظا عات.. تلك الأسئلة التي كنت أصادفها وأنا أتصفح الكتب التي لم تكن تعطيني أجوبة عن كل أسئلتي، ولا تملأ الفراغات التي يعج بها المقرر، أسماء كثيرة تطرح وجودها أمامي ولا وجود لها في الكتب، وتناقضات غريبة تصادفني، ومع الوقت... تملكتني الرغبة الملحة في فهم الحقائق والبحث..

وهكذا تعلمت مع جدي كل ما نسخته المقررات الدراسية عن التاريخ، وعن الأرض..

ورحل جدي.. كما ترحل الأشياء تباعا، و ترك لي الأرض و ترك لي.. تاريخا رماديا، صار علي لزاما أن أقرأه بوضوح... هذا ما اعتقدته..

تخصصت فيه و نلت أعلى الشهادات.. لكنني فقط كنت أنسخ ما كتب في المقررات المدروسة، تضخمت معارفي، أقصد.. شهاداتي.. وتضخمت معها أسئلتي، أين الحلقة المفقودة في التاريخ؟؟؟ لماذا ندرس التاريخ؟

كيف تكون دراستنا موضوعية؟ هل نحن نحكم، نقاضي، هل نحن نمهد لشيء ما أو نقدم الحقائق منزهة عن كل حكم؟ مجردة من كل هدف؟ متى سيكون التاريخ وقفة مع الذات معراة من كل لباس زائف؟

نما شكي.. وزال كرهي، وزال حبي.. رحلوا.. حتى المشاعر ترحل..

وبدأت حياتي تتعقد، بدأت حياة الجميع تتعقد...

رحل الأحبة، رحل الأمن والسلام، حلت الفوضى في بلاد الأحرار ومعها.. استقر ضياعي واستوطن الشك في كل المسلمات.. وبدأت الجراح.. آه من الجراح.. أين جدي ليحاسبنا برجله وعمره المهدور اختيالا وشموخا.. أين الأرض التي أخذت عقلي ذات عمر.. وأغرتني بالعشق وممارسة طقوس العبادة والتقديس.. لم أعد أحس فيها إلا بالضياع ونحوها إلا بالشفقة..

حاولت وأنا أعيش المآسي اليومية أن أنشغل بشيء ما، أن أحس بإيمان ما، بروح، بفكرة، بشخص، بشيء ما يشدني إلى الوجود، وجودي في هذه الأرض..

أن أتمسك بأمي المسكينة.. التي تتحسر وتمسح دموعها مستجدية رب هذه الأرض أن يلطف بنا ويحنن القلوب.. وأن ترجع أيامنا كما كانت.. لا يهم الكذب.. لا يهم ما دمنا نعيش في... سلام؟؟ هكذا تقول أمي وأتمتم بين الشفاه بصوت مقهور..

- عجلة التاريخ تتقدم، وآمال الشعوب تكبر، وأنت تريدين أن نعيد ما كان.. لولا ما كان لما حدث ما يحدث.. وتحضرني مقولة هيرقليطس ذلك الحكيم الذي (الشيء الوحيد الثابت هو التبدل المستمر)،


*

حاولت أن أومن ب(حياة ) زميلتي في التدريس، قسم علم النفس، ذات الشعر الرمادي الطويل، كنهار بلادي والعيون الذابلة السوداء كليل بلادي والشفاه الكرزية الحمراء.. كالدماء التي تنهمر في أرض بلادي.. وجهها وحده يغرقني في الحسرة والحزن..

أما إذا فتحت ثغرها لتحدثني.. سقتني العلقم..

كانت ( حياة ) تحضر رسالة الدكتوراه، وكان الموضوع الذي يغري لتحقيق أعلى الدرجات.. على طبق من ذهب، حديث العالم كله.. الإرهاب.. الظاهرة والإنسان.. الدوافع النفسية؟؟ وأشياء لن تمنع ما يحدث..

لم تكن تحدثني (حياة) إلا عن آخر الأنباء.. أقصد آخر المجازر، آخر الاغتيالات.. وتحليلاتها لذلك، هنا وهناك... العوامل السيكولوجية الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، التاريخية، تقرأ لي ما حررته من الرسالة وكانت تتقدم في ذلك بجنون.. تماما مثلما تتقدم آلة الموت بجنون أما.. أنا... فلم أكن أستحضر أثناء ذلك إلا صورة جدي وهو يعرج فخورا بالرجل التي أهدى الأرض إياها وفخورا أيضا بالرجل الباقية التي تقبل ترابها وتغازلها وتحيى بها ولها..

وأبتسم بمرارة...

وزال الحب.. وحل الحزن.. لم يعد في قلبي مكان لمشاعر أخرى غير الحزن...

(حياة) فخورة بنيلها الدكتوراه بميزة جيد جدا.. وأنا لا أشعر نحو ذلك إلا بالقرف..

أمي تسأل الله أن يحنن القلوب.. وأنا أبحث عن الله في قلوب خاوية..

طلبتي يحفظون مقرر التاريخ جيدا، و يحلمون ب ( الفيزا)*،( الهربة )*

أصدقائي يرحلون تباعا، بحثا عن الأمان و.. السيارة والفيلا، والحساب البنكي بالعملة الصعبة.. وأنا أبحث عن اليقين.. عن الإيمان بحقيقة ما..

حتى صديق الطفولة ( وليد).. يتحجج بالعولمة والانفتاح، وحوار الحضارات، وهو يحاول أن يقنعني أو يقنع نفسه، وهو يدخل أبناءه المدارس الخصوصية ويدرسهم تاريخا آخر، بلغة أخرى..

- الأفضل لهم أن يعرفوا شيئا عن العالم، شيئا لن يهتموا كثيرا له، لن يتحمسوا ولن ينحازوا له، لا أريد لأبنائي أن يصابوا بالخيبات والانكسارات، أريد لهم رؤوسا متوازنة.. هل تفهمني؟

و يردف وليد كمن يريد أن يبحث عن مبررات..

هناك آلاف القيود اللامرئية تقيد البشر."

لست أدري إن كان على صواب أو على خطأ، لست أعلم ما الصواب وما الخطأ، تماما مثلما كنت أجهل زمان معنى الكرامة، وأظنني ما زلت لا أفرق بين الكرامة واللاكرامة.. حتى لا أقول.. والذل..

تمت
12/10/القليعة2003


* عن موقع محمد أسليم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى