مبروك بوطقوقة - القنوات الفضائية في الجزائر: التشابه في السوء بين العمومية والخاصة

لعل كلمة "فوضى" هي أفضل توصيف للحالة التي يعيشها القطاع السمعي والبصري في الجزائر. فوضى في كل شيء: في القنوات، في البرامج، في القوانين، في التنظيم. فالقنوات الفضائية الجديدة هي قنوات جزائرية عمليا لكنها قنوات أجنبية قانونيا، ورغم أنها تنتج برامجها داخل الجزائر إلا أنها تبثها انطلاقا من خارجها. ويبدو أن هذا الوضع الشاذ لن ينتهي إلا بعد صدور المراسيم التنفيذية لقانون الإعلام الجديد الذي أقره البرلمان مؤخرا والذي لن يبرم إلا بعد الانتخابات الرئاسية.
قليل من التاريخ
يرجع تاريخ النشاط الإذاعي والتلفزيوني في الجزائر إلى منتصف القرن العشرين حيث أسس المستعمر الفرنسي بث الخدمات الإذاعية سنة 1944. وبعد الاستقلال بقيت الإذاعة والتلفزيون تحت السيطرة الفرنسية طبقا لاتفاقيات "إيفيان"، لكن الدولة الجزائرية قامت باسترداد المؤسستين في تشرين الاول/أكتوبر 1962 استناداً الى مبدأ استرجاع السيادة الوطنية.
وآلت ملكية هذه المؤسسات للدولة التي قررت عدم التنازل عنها قيد أنملة على مدى أكثر من خمسين سنة رغم التغيرات الكثيرة التي مست القطاع الإعلامي مع التبدلات في سياسات السلطة الحاكمة.
وبعد انتفاضة تشرين الاول/أكتوبر 1988 وظهور التعددية السياسية والإعلامية في الجزائر، قامت السلطة بتنازل جزئي سمحت من خلاله بحرية الصحافة المكتوبة، لكنها رفضت التنازل عن وسائل الإعلام "الثقيلة" بحجة أنها تقدم خدمة عمومية لكل الجزائريين ولا يجوز تركها للتقلبات الحزبية.
ومع انطلاق الفضائيات العربية والعالمية في التسعينيات ظهرت ثلاثة مشاريع قوانين للإعلام، تم وأدها جميعا لتبقى الدولة مسيّرة لقطاع السمعي البصري. ونتيجة لهذه السياسة وجد الجزائريون أنفسهم مجبرين على متابعة أخبار البلاد والعباد من خلال قناة "اليتيمة" وهو الاسم الذي أطلقوه من باب التنكيت على القناة التلفزيونية الرسمية الوحيدة.
اغتراب تلفزيوني
مع ظهور الفضائيات، سارع الجزائريون إلى اقتناء أجهزة الاستقبال الفضائي ونبتت الصحون اللاقطة على أسطح المنازل والعمارات كالفطر، واكتشف الجزائريون قنوات تلفزيونية تختلف شكلا ومضمونا عما عهدوه، ووجدوا فيها ما يلبي حاجاتهم الإعلامية والترفيهية والفنية والتثقيفية، لكن في الوقت نفسه أصبحوا عرضة لغزو ثقافي لا مثيل له من الشرق والغرب على حد سواء، وأصبح الجزائري يعاني نوعا من "الإغتراب التلفزيوني" لأنه يتابع برامج لا علاقة لها بالواقع الذي يعيش فيه، فتجده مثلا على إطلاع كامل بما يحدث في الضفة الأخرى للمتوسط ومتابعا لكل صغيرة وكبيرة وشاهدا على القضايا والمناقشات التي تحدث هناك، لكنه في الوقت نفسه ليست له أدنى معرفة بما يحدث في بلاده، بل لا رغبة لديه في ذلك أصلا. وبمعنى آخر أصبح التلفزيون بالنسبة إليه وسيلة تنقله إلى عالم سحري وسريالي ينسيه الواقع الأليم الذي يحياه.
ورغم وجود بعض القنوات الجزائرية المعارضة التي تبث من الخارج مثل قناة "رشاد" و"المغاربية"، إلا أنها لم تحظ بالاهتمام نظرا لتوجهاتها الحزبية الضيقة ولتركيزها على البرامج الحوارية البسيطة وإهمالها لبقية المجالات. كما أن عدم وجود مكاتب لها في الجزائر جعلها بعيدة تماما عن معايشة الواقع والتفاعل معه.
أثر موقعة ام درمان الكروية!
بعد موقعة أم درمان الكروية التي تأهل فيها المنتخب الجزائري على حساب الشقيق المصري لكأس العالم، شنت وسائل الإعلام المصرية، الحكومية منها والخاصة، هجوما شرسا على الجزائر وظلت على مدى أسابيع تكيل للجزائريين الشتائم والاتهامات في ظل غياب أي قناة تلفزية جزائرية تتولى الرد والدفاع. وهنا اكتشف الجزائريون أنهم أصبحوا حالة شاذة في الأمم فهم لا يملكون قطاعا تلفزيونيا حرا وقنوات تلفزيونية خاصة. وتعالت الأصوات محملة السلطة مسؤولية ما حدث ومطالبة بضرورة تحرير القطاع التلفزيوني من الهيمنة الحكومية لضمان عدم تكرار ما حدث. ومن جهة أخرى ساهمت الانتفاضات العربية في تغيير التوازنات، فقامت مجموعة من الإعلاميين الجزائريين ينتمون لجريدة "النهار" الجزائرية بإطلاق "قناة النهار" الفضائية في آذار/مارس 2012 انطلاقا من المدينة الإعلامية الحرة بالأردن، متجاوزين حصار النظام الجزائري والعراقيل القانونية. ولاقت القناة على الفور ترحيبا كبيرا من الجمهور الجزائري، ما جعل العديدين يسارعون إلى إطلاق قنوات أخرى. وأمام هذا التسونامي الكاسح للقنوات الفضائية، وجد النظام الجزائري نفسه في مأزق لأنه اكتشف أن الاحتكار لم يعد مجديا في ظل السماوات المفتوحة، فسارع إلى إعداد قانون جديد للإعلام يسمح بتحرير القطاع التلفزيوني والإذاعي، لكن في الوقت نفسه يعطي الدولة حق الإشراف والسيطرة عليه من خلال مجموعة من الأدوات القانونية والتنظيمية. ويسمح القانون الجديد للإعلام الذي صادق عليه البرلمان يوم 20 كانون الثاني/ يناير 2014، بالنشاط في القطاع البصري لكل شركة حكومية أو خاصة يكون جميع المساهمين فيها من الجنسية الجزائرية، ويتم إنشاء هيئة مستقلة هي سلطة ضبط السمعي البصري، تتكون من تسعة أعضاء خمسة منهم بمن فيهم رئيسها يعينهم رئيس الجمهورية، وتتولى مهمة الإشراف على حسن تطبيق القانون في القطاع وتقوم بمنح الرخص وسحبها ومراقبة البرامج المعروضة من حيث توافقها مع القانون، "خاصة في ما يتعلق باحترام النظام العام والمرجعية الوطنية والدينية وترقية روح الحوار والمواطنة والامتناع عن الترويج للعنف والإرهاب والطائفية والالتزام بتدعيم الإبداع الثقافي والفني وترقيته".
شهد القانون عند عرضه على البرلمان نقاشات حادة كادت تعصف به وتمت المصادقة عليه بفضل تحالف الحزبين الحاكمين، حزب جبهة التحرير الوطني وحزب التجمع الديمقراطي، مع حزب العمال المعارض، في حين صوتت ضد القانون بقية الأحزاب المعارضة وعلى رأسها تكتل الإسلاميين ("تجمع الجزائر الخضراء") وجبهة القوى الاشتراكية. ورفض المعارضة للقانون ينطلق بحسبها من كونه جاء مخيبا للآمال من خلال وضعه قيودا كثيرة على النشاط في هذا القطاع تحد من حرية الفاعلين فيه وتقضي على روح المبادرة والإبداع، وأنه مراوغة من السلطة لربح الوقت بعد أحداث الربيع العربي، ومحاولة لتدجين القطاع بالطريقة نفسها التي تم استخدامها مع الصحافة المكتوبة، حيث لم يتم الترخيص لصحف معارضة منذ أكثر من عشر سنوات، في مخالفة صريحة للقانون. وتأتي على رأس المواد التي لاقت معارضة شديدة المادة التي تزم القنوات بـ"الموضوعاتية"، أي بالتخصص في موضوع معين، أي إطلاق قنوات تلفزيونية تناقش مواضيع معينة وتتوجه لفئة محددة من الجمهور، وهو الأمر الذي يجعل إنشاء قنوات عامة أمرا ممنوعا بحكم القانون. وقد عارض هذه المادة حتى بعض النواب المنتمين للأحزاب الحاكمة وكادت تعصف بالقانون بأكمله لولا أن وزير الاتصال وعدهم بتعديلات تسمح بالتعدد "الموضوعاتي". كما أن هناك مادة أخرى لاقت رفضا مماثلا وهي المتعلقة بتحديد المدة الزمنية المخصصة للأخبار من طرف سلطة الضبط، خاصة وأن أغلب القنوات هي في الأساس قنوات إخبارية. وكذا المادة التي تعطي سلطة الضبط صلاحية سحب الرخصة بدل القضاء.
بين التجديد واستنساخ للرداءة
لقد استقبل الجزائريون القنوات الفضائية الخاصة بحفاوة وحماس كبيرين يمكن تلمسهما من خلال نسب المشاهدة المرتفعة حسب التقارير الأولية. لكن يحق لنا أن نتساءل بعد مرور بعض الزمن على بداياتها الأولى عما إذا كانت تلك القنوات في مستوى التطلعات؟ تصعب الإجابة على هذا السؤال للوهلة الأولى لاختلاف وجهات النظر لدى الجزائريين أنفسهم إذ يرى شطر لا بأس به منهم أن هذه القنوات ساهمت في تعويض النقص الفادح في تغطية أخبار الوطن، خاصة في مناطق الجزائر العميقة ونقل معاناة أهاليها وإسماع صوت المهمشين وإلقاء الضوء على انشغالات الفئات الدنيا والشرائح الاجتماعية الهشة. وبالفعل تحتل الأخبار المحلية حصة لا بأس بها ضمن الشبكة البرامجية وهو أمر يستهوي كبار السن خاصة.
ويحبذ الشباب التغطية الجيدة والكثيفة للنشاطات الرياضية المحلية رغم غياب قنوات رياضية متخصصة ويتابعونها بشغف، خاصة في ظل الحمى الرياضية التي اجتاحت الجميع بعد تأهل المنتخب الوطني لنهائيات كأس العالم. أما النساء فيجدن في البرامج الموجهة لهن - خاصة تلك المتعلقة بالطبخ والخياطة - ما يلبي حاجتهن، خاصة وأن تلك البرامج تعرض المنتوج المحلي الجزائري مع تركيزها على التقليدي والتراثي منه. وحتى الأطفال وجدوا ضالتهم في القناة الجزائرية الوحيدة الموجهة لهم، رغم أن أغلب برامجها من إنتاج أجنبي. في حين يذهب شطر آخر من الجزائريين إلى إظهار خيبة الأمل الكبيرة التي منوا بها لأن هذه القنوات بحسبهم لم تقدم جديدا وأنها لم تنجح سوى في استنساخ الرداءة التي تميز القناة الرسمية شكلا ومضمونا، وإن كانت رداءة الشكل يمكن تبريرها في قلة الإمكانيات المادية وعدم وجود الاستوديوهات، خاصة وأن الكثير من القنوات تبث انطلاقا من شقق متواضعة. إلا أن رداءة المضمون لا تجد لها تبريرا في ظل انتهاج سياسة استغفال المشاهد وتسطيح عقله وتضييع وقته من خلال الإكثار من البرامج الكوميدية التافهة التي لا تتوفر على أدنى العناصر الضرورية للعمل الفني، وكذا كثرة البرامج الحوارية الجامدة التي لا تناقش المشاكل الحقيقية للمواطن إلا في ما ندر. كما يعاب كذلك على هذه القنوات تركيزها على المجتمع العاصمي واللهجة العاصمية في ظل إهمال بقية مناطق الوطن وثقافاته الفرعية العديدة ولهجاته المحلية المتنوعة. ويبقى الانتقاد الأكبر لهذه القنوات هو انحيازها شبه الكامل للنظام والتطبيل لأطروحاته والترويج لرموزه وتهميش المعارضين وإقصاء المخالفين من التعبير عن آرائهم.
هي إذا تعددية تلفزيونية شكلية تخدم النظام لكنها تضر بالديمقراطية وحرية التعبير، وهو الأمر الذي أكده إغلاق قناة الأطلس مؤخرا لمجرد قيامها بتغطية الاحتجاجات المعارضة لتقدم بوتفليقة الى عهدة رابعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى