مبروك بوطقوقة - أزمة صناعة الكتاب في الجزائر

على مدار السنوات العشر الماضية، تضاعف عدد دور النشر في الجزائر أربع مرات. ولكن في الفترة نفسها تقلصت المكتبات الخاصة التي تبيع الكتاب بالنسبة ذاتها حتى قيل أن عدد دور النشر في الجزائر أكبر من عدد المكتبات. هذه المفارقة هي الأولى من مجموعة من المفارقات التي تبين مدى عمق وتعقيد الأزمة التي تعاني منها صناعة الكتاب في الجزائر. فهل هي أزمة إنتاج، نتيجة غلاء مكونات صناعة الكتاب كالورق والأحبار، بالإضافة إلى الضرائب المرتفعة، وهي الأمور التي لا تجعل من سعر الكتاب أمرا في متناول المواطن العادي، وبالتالي لا تساعد على إنتاج الكتاب لأنه لن يباع بهذا السعر المرتفع. أم هي أزمة توزيع، حيث أن الكتاب يتحرك في عشر ولايات كبرى، بينما يغيب كليا في بقية الولايات الجزائرية، وخاصة النائية منها، لغياب شبكات الترويج، مما يحرم القسم الأكبر من الجزائريين من وصول الكتاب إليهم. أم هي ثالثاً مشكلة تمويل، لعجز الكتّاب والمبدعين عن تحمل التكاليف الباهظة لإنتاج كتبهم، وسط إحجام دور النشر نفسها عن مساعدتهم وتمويلهم لطباعة أعمالهم وبيعها.
مكتبة أم محل قرطاسيات

ثمة جدل دائر بين وزارة الثقافة الجزائرية من جهة والنقابة الوطنية للناشرين الجزائريين من جهة ثانية حول ذلك كله. فخلال السنوات الأخيرة، راحت المكتبات الخاصة التي تبيع الكتب تغلق تباعا واضطر أصحابها إلى تغيير نشاطهم إلى نشاطات اقتصادية أكثر ربحية نتيجة انسداد أفق تجارة الكتب. وحتى تلك التي تحدت مصير الغلق تحولت إلى ورّاقات للأدوات المدرسية والمطبوعات شبه المدرسية والأقراص المضغوطة الخ... ولم تنجح الأموال التي ضختها الدولة في إعادة الانتعاش لهذا القطاع.
فالمستفيد الأبرز، بل والأوحد، من الأموال الضخمة التي خصصتها الدولة لدعم طباعة الكتاب هي دون شك دور النشر، وهذا ما يفسر تضاعف عددها مرات عدة في زمن قصير. فبعد أن كانت في ثمانينيات القرن الماضي تعد على الأصابع، وأغلبها دور نشر عمومية تابعة للدولة، أصبحت تناهز الأربعمئة دار بحلول العام 2013. لكن المفارقة الثانية أن أغلب هذه الدور تعتبر «خاملة»، يقتصر نشاطها على المناسبات أو طباعة الكتب المدعومة من وزارة الثقافة. أما الدور «النشطة» فلا تتعدى المئة دار، منها عشر دور عمومية أي مملوكة من الدولة. ويتمركز ثلاثة أرباعها، أي حوالي 75 دارا، بالجزائر العاصمة وضواحيها، بينما يتوزع الربع المتبقي على الولايات الكبرى مثل قسطنطينة ووهران، في حين يندر وجودها، بل قد ينعدم في بقية الولايات، خاصة الداخلية منها.
الدولة تنتقي كتبا وتدعمها، ولكن!

خصصت السلطات الجزائرية أموالا طائلة لقطاع صناعة الكتاب، حيث تقوم وزارة الثقافة بشراء ألف وخمسمئة نسخة من كل كتاب تتم طباعته. ويجري ذلك بعد موافقة لجنة القراءة بالوزارة، المكلفة بانتقاء الكتب التي «تستحق» الدعم. ويرتفع عدد النسخ المشتراة إلى خمسة آلاف نسخة إذا كان الكتاب له علاقة بتاريخ البلاد وثورتها ضد الاستعمار الفرنسي. وتقوم الوزارة بتوزيع هذه الكتب على المكتبات العامة في مختلف الولايات والبلديات، وقد وصل عدد العناوين التي تمّ دعمها بهذه الصيغة في السنوات الأخيرة الى أكثر من ثلاثة آلاف عنوان.
وبعملية حسابية بسيطة نجد أن الدولة دعمت طبع حوالي خمسة ملايين نسخة. وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة ثالثة، حيث أن هذا العدد الضخم من الكتب لم يجد طريقه إلى القارئ الجزائري، وبقي أكثره مكدسا في المخازن نتيجة غياب شبكة فعالة لتوزيع الكتب وتسويقها.ولما اتضح أن ما قدمته الدولة من أموال ودعم وتسهيلات قد ذهب أدراج الرياح، قامت الوزارة بإعداد «القانون التجاري للكتاب» وتقديمه للبرلمان في محاولة لتنظيم سوق الكتاب والنشر. واعتبرت وزيرة الثقافة أنه «الوسيلة القانونية التي سنؤطر بها سوق الكتاب لنتمكن كدولة من تشجيع ودعم الشباب حتى يتسلموا مكتبات البيع». فمن طموحات هذا القانون إعادة الاعتبار للمكتبات وإحياء النشاط الاقتصادي لها من خلال إدماج الشباب بقوة في عملية التوزيع والتسويق والبيع، بمنحهم محلات تجارية وتمويلهم بقروض بنكية وفتح مكتبات خاصة بهم في كل البلديات والقرى والأحياء الشعبية، ليكونوا «همزة الوصل بين المؤلفين والناشرين من جهة، والمواطنين والقراء من جهة أخرى»، وهو الأمر الذي سيسمح في شقه الثقافي بتوفير الكتاب المدعوم بالسعر الموحد للقراء عبر كامل تراب البلاد، وفي شقه الاقتصادي بإنقاذ آلاف الشباب، خاصة متخرجي الجامعات، من البطالة وتوفير فرص عمل لهم.
عودة التحكم السلطوي بالنشر

لكن هذا القانون لم يكن موضع ترحاب، إذ لاقى اعتراضا شديدا من النقابة الوطنية للناشرين باعتباره ردة عن حرية النشر، وعودة لاحتكار الدولة من خلال العراقيل البيروقراطية التي وضعها أمام كل العاملين في المجال، خاصة بخصوص الشطر المتعلق بإجبارية الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة قبل الإقدام على طبع ونشر أي عمل كتابي، مما سيؤدي إلى الحجر على الآراء والتضييق على حرية التعبير التي تعد مكتسبا كبيرا في الجزائر اليوم.
كما تعيب النقابة على الوزارة وضع القانون دون استشارة الشركاء الاجتماعيين الذين يعتبرون الفاعلين الحقيقيين في الميدان الذين يجب أخذ رأيهم بما يساهم في ترقية وتطوير مجال النشر، لأنهم مؤهلون أكثر من غيرهم بحكم الممارسة لإيجاد حلول للمشاكل التي يتخبط فيها قطاعهم. بل تذهب النقابة إلى أنه في حالة تطبيق القانون بنصه الحالي، فإن حوالي 150 دار نشر سيتم غلقها وإحالة المئات من عمالها على البطالة مباشرة. وترى النقابة التي رفعت شعار «كتاب في كل يد ومكتبة في كل بيت» أن القانون لم يأت في مستوى تطلعات الجزائريين ولم يلب طموحاتهم في توفير مناخ جيد لترقية صناعة الكتاب والوصول إلى أفق طباعة 20 مليون كتاب بحلول العام 2020، وهو الرهان الذي سطرته النقابة والذي يبدو تحقيقه اليوم أصعب بكثير مما كان يُظن.
وفي ظل هذه التجاذبات بين الوزارة والنقابة لا يبدو أن أزمة صناعة الكتاب في الجزائر ستعرف حلا في القريب العاجل ليبقى القارئ الجزائري هو من يدفع الثمن أولا وأخيرا.حل أزمة صناعة الكتاب في الجزائر يتوقف على اتباع سياسة وطنية واضحة تشارك في وضع معالمها كل الأطراف المعنية، بدءا من التأليف مرورا إلى الإنتاج ووصولا إلى التوزيع والبيع، كما وضع خطط طويلة المدى للارتقاء بالكتاب الجزائري كُمًّا ونوعا، ليصبح قادرا على المنافسة في الأسواق الوطنية والدولية، خاصة مع قرب انضمام الجزائر إلى منظمة التجارة العالمية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى