حسن إمامي - زوايا في التفكير: (4) زمن المراجعات الثقافية

قد نلاحظ الخلل في التعامل مع اجتياح هذا الوباء المبهم. قد نلاحظ أشكال الرفض والتمنع من قبول وجوده ووقوعه وخطره. وقد نشاهد من لا يصدق وكأنه يرتمي في لهيب غير مرئي. كل هذه امثلة لأشكال خلل في التفكير وخلل في السلوك الثقافي. وحينما نتحدث عن السلوك الثقافي نجد خيوطا رابطة بين المرجعيات المؤثرة وبين التداعيات وأشكال التصريف. كل هذا يتفاعل داخل ذات الإنسان لكي يعطينا سلوكا معينا يبرمجه عالم الشخصية والذات، وعالم النفسيات وبواطنها وما ظهر منها.
"إعلام الرصيف". عبارة تذكرنا بتحول بعض منابر الإعلام إلى تقصي أخبار الشارع وفضائح الأخلاقيات والإشاعات المغرية في التتبع. وهو نوع من الأخبار وشكل من الإعلام يشجعان على ارتباط عقلية اليومي بتتبع الإشاعة والفضيحة، بالغيبة والنميمة، وبتبادل المعلومات حول جديد هذه وتلك.
اختيار هذه المراجعة الآن مرتبط بأثرها الذي راكمته لعقود ورسمت به شكل سلوك يومي عند المهتم بها. هذا الذي أصبحت جلسته في المقهى جلسة منتظر لنوبته ودوره في تلقف أخبار الفضائح وصور الإثارة وإشباع الفضول في معرفة أشكال الانحرفات. وليتها كانت تلك الانحرافات التي تفضح الشأن العام وما يعتوره من أخطاء مرتبطة. هي أخبار طلاق وخيانة وجرائم انتقام وردهات المحاكم...
ربما كان المستفيد من كل هذا ذلك المنتخب المسير للشأن العام. إذ كلما اهتم المواطن بعالم الفضائح كلما غاب عن وعيه عالم التدبير السياسي ودوره في تتبعه ومراجعته. ربما كانت المستفيدة كراسي المقاهي التي أصبحت تعج بالجالسين لأجل تقليب الصفحات وتلقي جرعات الهشيم الإعلامي في يومي الحياة التي ستصبح بئيسة ورديئة ورتيبة بسبب كل هذا. وقد يظن البعض أن تحقيق اليومي في الغرائزي منه هو كل المبتغى، فيصغر العقل ويتقزم في دوره ووعيه وتحليله وذكائه..
وسياق الكلام اليوم، أن الناس بقدر تتبعها يوميا لبعض النشرات التلفزية أو غيرها، بقدر تلهفها لكي تخرج إلى الشارع حتى تعاين عن كثب ما يقع. حتى يتجسس بعضنا على حال البعض الآخر. حتى يستمع إلى جديد الفضائح وضحايا الوباء الجائح. قد تسأله ـ وقد سألته في مناسبات بشكل اعتراض أو طلب: ابقَ بعيدا مسافة فالوباء ينتقل في كل اقتراب بين شخصين ! يجيب: لو شفت السويقة مليئة بالناس، أو يمتعض ويقطب لطريقة طلبك ورفضه لحذرك ومسافاتك.
هكذا تم تهجين الوعي، واقتحام الخصوصيات خلال عقود. وبدل الاهتمام بالسياسات كان الاهتمام بالأخلاقيات وزلاتها. ولعل إشباعا ما كان حاضرا في هذا الاختيار. فكل تلهف يدل على غريزة مكبوتة. قد تنعكس في الرغبة في وقوع ما وقع، والتعويض الإسقاطي في انتظار أن يقع ما وقع وسيقع، وكأن الكائن المجرد الذي يحدث معه ما يحدث في هذه "الخبيرات" يشكل كل متصفح ومتتبع لها وينوب عنه في كان سيرغب هو في القيام به. لكنه يكتفي بهذا البطل دون أن يحقق هو شيئا في واقعية يوميه ومعيشه. ستكفيه الرشفة أو شرب سيجارة، سيكفيه امتلاك مشهد الشارع أمامه وهو جالس ومهيمن على ما ذات اليمين وذات الشمال، حتى أصبحت النكات مرتبطة بياقة قميصه وآليات حركات عنقه ومجهريات بصرياته وسمعه. حتى أصبح بين مقهى ومقهى مقهى ثالث كما يقال. ولنا أن نستنتج الثقافة الاستهلاكية للانتظار وللمشاهدة السلبية والاستمناء البصري أو الاختراق لخصوصيات الآخرين، كل هذا وذاك.
والآن، علينا أن نعيد النظر في مثل هذه السلوكات وهذا الإعلام. ولنتصوره إعلاما وقد فرّخ وأصبح متسلسلات جيلا بعد جيل. أصبح الإعلام الرقمي ينهج منهج أخبار الصريف، ويفجر قنبلات مغلوطة في العناوين، وحينما تقودك القراءة إلى ما بين الأسطر، تجد فراغا في المحتوى أو تضليلا بين الخبر والمضمون. والكارثة أن الخبر قد يكون كرة ثلج كبرت جبلا في طرح المخبِر، بينما الخبر حقيقة مسألة عادية بعيدة كل البُعد عمّا روّج له صاحب خبر الرصيف.
والكارثة أن المحاسبة للمسؤول تكون على أخلاقياته ولو كانت خاصة به وليس على تدبيره لعمله ومدى نزاهته فيه. قد يسرق مليارا. لا يهم. لكنه ضُبِط في خيانة زوجية: واه ! عجبا ! أيهما أولى في المحاسبة؟ الجواب للحكيم طبعا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى