سفيان صلاح هلال - علاء سيد عمر يغنى للموت سردا

فى مجموعته القصصية (كريشندوا متتاليات الحزن المتصاعد) الصادرة عن المركز الأدبي للتنمية الثقافية باسيوط يفاجؤك القاص بمجموعة قصصية لا منتمية من حيث الشكل .. فرغم أن اللحظة هى المحرك للحدث، مما يجعلك لا تشك أنك أمام قصة قصيرة،غير أن الكاتب لا يعدم الحيل الفنية التى تجعله يوسع دائرة هذه اللحظة.. لتتسع لمساحة واسعة من الأحداث التى تعبر اللحظة المولدة عبر الأزمنة والأمكنة؛ مما يحول القصة القصيرة إلى رواية مكثفة أو العكس. وربما يشرق هذا جليا فى القصه رقم (12 ) من المجموعة والمعنونة (هوامش ولقاء) حيث التقى فجأة فى ميدان الثورة بحبيبة الشباب الأول فى نفس اللحظه يستخدم الكاتب المنلوج الداخلى والفلاش باك ليستعرض قصة حب حقيقية أجهدها وغيّر مسارها مسار ثلا ثين سنة فى اتجاه معاكس. وقد تكرر هذا التكنيك وبحيل مختلفة فى أكثر من قصة (سراب) (صدفة) ولم تفارق روائحه معظم الأعمال.. فالقصص قصيرة … والمساحات التى تغطيها واسعة مما يعد لزمة جديرة بالدراسه لدى الكاتب. على كل حال لن أستطيع أن أقف كثيرا أمام هذه الملاحظة .. فالحق إن استفادة الفنون من بعضها البعض صار من علامات معظم الإبداع المعاصر. وكاتبنا يؤكد هذا التداخل الموظف بين الفنون، فسنجده يستفيد من لغة الشعر فى بعض القصص كقصة انكسار*(أسألنى يا أنا من أنت؟/ لا أعرف/ أبصق/ أرانى على وجه المرآة مصلوبا/ خيوط الدم المتصل بإكليل الشوك على رأسى..ترسم على وجهى مدائن لا تعرفنى/ فى الشوارع المزدحمة المتسعة تنكرنى/ أضيع (……. وقد يستفيد من فن السيناريو السنمائي كما فى حكاية (سالم أبو العجل) حيث الوصف الدقيق للشخصية والمكان والزمان والوقت ولغة الحوار… المهم مع أن هذه ملاحظاتى، لكنى أخاف أن تشغلنى عن الموضوع الحقيقى الذى يمثل الهم الإنساني للكاتب فى المجموعة وهو (الموت) الذى يصير حاضرا باسمه وذاته وصفاته فى كل قصص المجموعة.
فى البداية قلت: هاجس لا يستطيع الكاتب أن يفلت من قبضته؟ لكن الكاتب نبهني بقوله: “أي كابوس هذا ..أى مشاعر تلك التى تتأجج بداخلى،فتمزقنى،أيعقل بيدى أطمره؟؟ ما أضألنا أمام حقيقة الحقائق؟”نعم، من منا يختلف مع الكاتب فى هذا؟ من منا لا يحرك الموت بعوالمه الغيبية وحقائقه المرئية مساحة عظيمة من أفكاره ومعتقداته وأفعاله؟ وهذا ما يظهر فى هذه المجموعة جليا وربما هذا ما يفك شفرة العنوان (كريشندو متتاليات الحزن) فالموت يحدث دائما فى حياة المبدع ويمكن رصد الموت فى عدة أوجه منها

الموت الطاغية القادر:

حيث يأخذ أبيه و جدته .. ويختطف أخته وأقرانه وزملاءه وأساتذته، لم تنفع معه مقاومة ولم يغن عنه عمل… فقصة الولوج التى افتتح بها الكاتب المجموعة -والتى اقتنص فيها لحظة مراسم دفن والده- تضعك مباشرة أمام حضور الموت وسطوته التى لا تسلب الميت فقط القدرة على الفعل، بل تتعدى إلى سلب الأحياءأيضا القدرة أمام الموت. :”الأمانه على الفور افترشت الوجوه الواجمة بالخارج قطعة قماش سميكة ملثمين بها فتحة الولوج ليمرروا من تحتها الأمانه……. سياط لا تلهب جسدى فقط بل تميتنى”…………. :”ترانى أستطيع الآن أن أنام بجواره ولو ليلة واحدة..كما كنت أفعل فى ليالى الشتاء القارصة لأنعم بدفء حضنه؟ ……….لا أصدق أني سأتركه وحيدا هنا ،ثم أمضى ” هكذا يبدوا العجز ظاهرا والخيارات محدودة أمام “حقيقة الحقائق” وتسيطر صورة الموت الطاغية على صور كثيرة فى قصص كثيرة بالمجموعة ففي قصة “مرثية الجيادالراحلة” : “فقط اكتشفنا زيف اللعبة بعد كل هذا العمر /ولأول مرة ألاحظ بأن تقوسا واضحا في ظهورهم /كأنهم بحاجة إلى عصا التوكؤ /تمتمت :وخيولكم

لم تعد تصهل
وحلمكم؟
قتل.. و في (الطين الثلجى) :”أحاول أن أنشرني فوق قطع الأخشاب الطافية…تجذبنى دوامات الماءإلى أسفل… وحتى القاع حيث الطين الثلجى اللزج؛ فيصرعنى”. إن صورة الموت القادر تسيطر على الكاتب فى كل تصرفاته ..حتى فى المشاعر المتداولة في قصة (صدفة) : “أدنوا من قرطها أهمس ترى سيطلع فجر؟ أفيق..إذ بها ترتل آيات الرحيل ويصير هاجس الحقيقة.



الموت قاض وكاشف:

حيث يضع الإنسان أمام نفسه فى (خواء) هذه القصة القصيرة التى ترسم لاهثة لنا ملحمة صباحية بين الكاتب ونفسه ليكتشف فى النهاية أنه لا أحد معه يريد قتله وأنه بتذكر الموت صار قاضىيايحاكم نفسه ويعيد تقييم كل أفعاله.



الموت الدافع للإبداع والتقدم:



الموت الطبيعى يدفع الانسان لمقاومته بالإبداع والإعمار كما في قصة (مرثية الجياد) : “على الدرب المعبد بالاشواك… طين المطر الملحي… طبع هنالك بعض سنابك لجياد راحلة صوب الشمس..” في قصة (رائحة الموت) يقاوم الموت بالميلاد “بعدما تداعينا أسرى لنسيجه العنكبوتى .. لنسقط فريسة سهلة للفتنة و السأم، للفتور والألم ويتدارك الموت ويكسر رائحة الموت برائحة الحياة حين يسأل : أُمّال فين خالد وياسر؟؟



الموت حين يموت داخل الإنسان:

على عكس ذلك يرى الكاتب أن موت الموت نفسه داخل الإنسان مدمر للحياة ومفسد لها… ففى هوامش ولقاء وتداعيات محمومة وكريشندو يموت الموت داخل الحاكم فيظن أنه خالد ويصير كل همه التشبس بكرسى السلطة.. حتى لو ماتت قلوب المجتمع وأحلامه من حوله.. يبدوا هذا من التكنيك الرائع الذى استخدمه القاص متتبعا فترة حكم أحد الحكام التى كما يتضح من القص استمرت ثلاثين سنة … ولأنه نسى الموت.. ظل يبتكر كل فترة رئاسية مخرجا يخلده فى الحكم فى مقابل ألف طعنة لقلب كل مواطن وفى تداعيات محمومة يتساءل الكاتب “من الأكثر همجية من عبروا على الكتب أم من عبروا على الجثث؟” وهى صورة أخرى من موت الموت فى نفس الإنسان مما يجعل المقابل موت ضميره الإنساني.. وهنا نرى الكاتب كأنه يشفق علينا فيجلى لنا فضائل الموت كما أظهر لنا طغيانه وسطوته وكأنه يردد مع المتنبى مواسيا ومتفلسفا قوله سُبِقْنَا إلى الدّنْيَا فَلَوْ عاشَ أهْلُها مُنِعْنَا بهَا مِنْ جَيْئَةٍوَذُهُوبِ تمَلّكَهَا الآتي تَمَلُّكَ سَالِبٍ وَفارَقَهَا المَاضِي فِراقَ سَليبِ فلا فَضْلَ فيها للشّجاعَةِ وَالنّدَى وَصَبْرِ الفَتى لَوْلا لِقاءُ شَعُوبِ وَأوْفَى حَيَاةِ الغَابِرِينَ لِصاحِبٍ حَياةُ امرِىءٍ خَانَتْهُ بَعدَ مَشيبِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى