حدود الشجن وأفق الأمل في "يد بيضاء مشعة" لعبد النبي فرج

من يطلع على قصص "يد بيضاء مشعة" للروائي والقاص المصري عبد النبي فرج يلفي الاشتغال القصصي، وهو يرصد أحوال الشخصيات وحالاتها الوجدانية والنفسية وأوضاعها الاجتماعية، يتسم بمسحة من شجن تلقي بظلالها على العوالم المتخيلة وتشكل سمة فنية تبني النصوص القصصية. غير أن هذا الشجن يخترقه مسار شفيف، في بعض قصص المجموعة، ليعد أفقا للأمل، ويؤدي دورا في تشكل المتخيل السردي بحيث يخرج به من لحظة الشجن إلى الارتباط بالحياة، بالأمل. فما حدود الشجن في قصص "يد بيضاء مشعة"؟ وما أفق الأمل فيها؟ وكيف يُشكل الكاتب هذا الأفق دلاليا وفنيا؟
تطالعنا حالة الشجن، وقوة حضورها في تشكيل المتخيل القصصي منذ القصة الأولى في المجموعة، وهي قصة "خزي" التي تعود إلى تيمة متداولة في السرد الروائي والقصصي المصري، تيمة الثأر وما يرتبط بها من قتل للأبرياء وتحميل الذنب للقاتل وغير القاتل من العائلة التي أجرم أحد أفرادها. هكذا نرى الشخصية القصصية الرئيسة في هذا النص تعيش وطأة موت ولدها، وتدفعها رغبة استرداد جثة ابنها القتيل للذهاب برجليها إلى عرين الأعداء عسى أن تستخلصها. وقد تكلل مسار القصة بمسحة الشجن عبر الصور الدالة التي يسوقها الكاتب لرصد حالة شخصيته النفسية وسلوكها، يقول السارد:
".. أغلق وراءه الباب بهدوء، حتى لا تقوم زوجته وتسأله أسئلة لن يستطيع الإجابة عنها، لا أحد في الشارع، صمت، كأن البلد تحولت إلى مقبرة، أضواء صفراء تبخ من اللمبات المزروعة في عواميد الإنارة، شعر بالبرد من هذا الصقيع المتوحش؛ من موجات الهواء البارد الذي تنفذ إلى عظامه. ارتعش فأخرج سيجارة، جاهد حتى أشعلها، سخونة تجتاح جسده، لينبت عرق بارد على جبهته، سقطت السيجارة دون أن يدري، تجاوز الموقف ودخل في طريق خاص بهم، كان الطريق متربا ومظلما تماما.." (يد بيضاء مشعة، ص. 3-4)
هكذا تبدأ حالة الشجن التي تشكل عنصرا هاما في القصة من لحظة خروج الشخصية من البيت، وهي تسير نحو قصر الأعداء. فالشوارع فارغة صامتة، وكأن البلد تحول إلى مقبرة، والأضواء صفراء، وموجات البرد تنفذ إلى العظام، والاضطراب يتحكم في النفس، والجسد تجتاحه سخونة الخوف لتنز عرقا باردا من الجبهة. أما الطريق الخاص بالأعداء فمترب ومظلم تماما. بهذه الشاكلة تتضح صورة قاتمة لوضع شجي، وواقع أليم يحكم قبضته على الشيخ، وهو يمضي وفي روحه قبس من أمل في أن يسترجع جثة ابنه من قبضة أعدائه، غير أن القصة ستجعل الشجن يهيمن على مسارها، وتنتهي بموت الرجل نفسه دون أن يتمكن من استرجاع جثمان ابنه، ودون أن يتمكن من الحفاظ على حياته. وبهذه الكيفية نتبين أن اشتغال سمة الشجن تحكمت في أجواء القصة وتغلبت على الأفق الممكن للأمل الذي داعب الرجل وكان خيطا واهيا يحركه نحو مصيره.
وفي قصة "يد بيضاء مشعة" التي حملت المجموعة اسمها نلفي سمة الشجن تهيمن على شخصيتها المحورية التي تعيش في عوالمها الخاصة، الواقعية والافتراضية معا، حالة من التوجس، والعزلة، والحرمان والكبت. وهذه الحياة المحفوفة بالشجن ناجمة عن فقدان ثقة في النفس من جهة، وعن خوف من الآخر من جهة ثانية. غير أن هذه الحالة من الشجن لا تمضي إلى خطها النهائي، كما رأينا في القصة السابقة، وإنما تنفتح فيها كوة لأمل، وتبدو بين ثناياها آفاق ممكنة للإقبال على الحياة والاقتراب من الناس، ورغبة ملحاحة في التغلب على حالة التوجس والخروج من شرنقة الحرمان، ولو بأقل ما يمكن الوصول إليه: مثل الإبحار في عيني المرأة الأولى التي نظرت إليه في السيارة نصف نقل، أو مشاركة أصدقاء مقهى التكعيبة حواراتهم ومشاغباتهم، أو ملامسة أصابع المرأة الثانية ذات اليد البيضاء المشعة التي جاورته في الباص الذي عاد به إلى القرية (قرية وردان) إثر لقائه بالأصدقاء في القاهرة. ومن ثم الانفتاح على نشوة اللحظة التي تُحرر الذات من أسوار الشجن المرتبط بالخوف والتوجس من الآخر، والمتصل بعدم ثقة مزدوجة: عدم ثقة في النفس وفي ردود فعل الآخرين.
بهذه الكيفية نتلمس مدى اشتغال سمة الشجن -باعتبارها حالة تلقي بظلالها على العوالم المتخيلة في القصة- في تحديد عمق معاناة الشخصية المحورية في النص ومكابدتها من أجل التحرر من شرنقة شجنها المتصل، كما حاولنا أن نبين، بحالات فقدان الثقة، ومن ثم السقوط في هوة العزلة والحرمان. وقد كانت اللحظات المشعة، والقليلة، التي تجود بها الصدفة على الشخصية إمكانا للارتباط بالحياة، والارتباط بالأمل، ولذلك ظلت الشخصية في هذه القصة الجميلة تأمل أن تتصل بها المرأة يوما ما لمعاودة إحياء لحظات الدفء، وطرد حالة الشجن المهيمنة عليها.
ومما لا شك فيه أن هذا الاشتغال السردي بسِمة الشجن ومتعلاقاته تتبدى بأجلى صورها في قصة "ليل رجل هرم"، وهي قصة أخرى تدور في القرية –على شاكلة القصتين السالفتين وشاكلة أغلب قصص المجموعة- وتتخذ من وضع شخصية رجل هرم بدأ يصيبه الخرف محورا لبناء عوالمها المتخيلة. وهكذا نجد الحاج محمود أبو مسعود وهو يرقب العالم من حوله وقد جلس فوق مصطبته بباب بيته، يسأل الصبي عبد العزيز و كل من يجاوره على المصطبة عن الأحياء والأموات. ومن ثم نرى حالة شجن تنتقل من الأجواء التي تنقلها القصة لتعدي المتلقي وتُشركه في وضعية الشخصية المحورية وما تعانيه جراء اختلاط الوقائع والشخصيات في ذهنها الذي أصابه عطب السنين وخرف الكِبَر. وعبر الدخول إلى أعماق هذه الشخصية ورصد أفعالها وأقوالها يتمكن السارد من جعل الشجن عنصرا فاعلا في تشكل العوالم السردية ونسج خطوط محكيه الممتع الذي يلعب على حدي الأسى والأمل. ذلك الأمل الذي يحيا مع الشيخ وهو يواصل استفساراته عما يمر أمام ناظريه، وبما يبعثه فيمن حوله من روح ساخرة، ومخايل فكاهة. وهو بذلك يغالب أثر شيخوخته التي تجعله يواصل النوم ولا يقوم إلا لأداء فرضه ثم الاستواء على مصطبته ليكتشف ما يدور في قريته. ويكشف الحدث الأخير في القصة عن تشبث الشيخ بالحياة وارتباطه بفسحة أمل، لكن الحاجة أم الأولاد خيبت أمله وجعلته ينسحب ليغادر البيت نحو المسجد لأداء صلاة الفجر.
وفي النص الأخير من المجموعة "كهل في حقل التين" يستثمر الكاتب حالة الشجن من أفق آخر ليقف عند أعطاب المجتمع ومفارقاته. ها هو كهل آخر يسقط قتيلا على يد شرذمة من الناس يثأرون منه لذنب لم يرتكبه، كما رأينا في القصة الأولى من "يد بيضاء مشعة". اتهم بطل هذه القصة باغتصاب صبية صغيرة فتنكرت له الزوجة والأبناء وأهل القرية، فكان ما كان.
تبدأ هذه القصة بتصوير حالة الشجن منذ افتتاحيتها التي ركزت على وصف الطبيعة: شدة الحرارة ومضي الشخصية في طريق جبلي ملتو، وقد خامرتها رغبة في أكل التين على الرغم من الخشية من الشوك، الذي تشتد صلابته باشتداد الحرارة. هكذا تجعلنا هذه الأوصاف والوقائع نحدس بمصير الشخصية والأفق المسدود الذي تسير إليه، خاصة بعدما تبعت الطفلة الرجل، وظلت تسير وراءه حتى القرية، ليتهم بهتك عرضها واغتصابها. وإذا كانت المجموعة قد ابتدأت بقصة تحكي عن ثأر وموت رجل شيخ ظل يعمل لدى من قتلوا ابنه وقتلوه أيضا دون أن يشفقوا عليه، فإن القصة الأخيرة في المجموعة تنتهي نفس النهاية بحيث لم يشفق الناس على الرجل الأشيب، بل جردوه من التبان الذي كان يستر عورته، ليمارسوا بشاعتهم عليه إلى أقصى حدها. وبذلك ينتفي أفق الأمل الذي خلقه الرجل بعطفه على الطفلة التي أطعمها من تينه، ودلها على مكان الماء لتروي ظمأها، وسارت في حمايته مبتعدة عن الوحش الحقيقي الذي اغتصبها. وبهذه الكيفية كانت القصة تلعب بين حدي الشجن، والأمل لينتصر في النهاية الموت، ولتكون قدرة الأحزان على هزم الحياة أشد وطأة وحضورا.
انطلاقا من كل ما سبق، ومن خلال قراءة قصص "يد بيضاء مشعة" نتبين أن سمة الشجن وظفت باعتبارها إمكانية دلالية وفنية تحكمت في بناء النصوص وتشكيل عوالمها المتخيلة. وإذا كان الأمل والارتباط بالحياة قد انتصر في بعض النصوص، فإن نصوصا أخرى هيمن عليها الشجن وظل متصلا بأفقها المتخيل. ومن ثم كان الموت مصيرا لشخصيات هذه القصص التي أراد بها الكاتب وضع يده على اختلال القيم، وتردي واقع الإنسان، وتفشي منطق الغوغائية، والتدمير المجاني لروح المحبة في المجتمعات المعاصرة.


عبد النبي فرج، يد بيضاء مشعة، دار ألف ليلة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى