أحمد بلحاج آية وارهام - جاء من ليل الماضي ليُفسد ليلي

قبل منتصف الليل بساعة رنَّ الهاتف، فغرقت في بحر الفزع، وركبتني الظنون السوداء التي لا تفارقني في هذه الأيام النابحة بالموت، خوفا من أن يكون أحد الذين يضيئون قلبي قد غطاه الوباء اللعين بردائه، واستضافه من حيث لا يحتسب.
ولما أخذتُ السماعة، وأصغيت، رشَّني صوتٌ أجشُّ أشبه بصوتِ رحى شائخة، عرفت فيه صاحبي الشاعر الصاعد في سلم الثمانين عاما. وبعد الفراغ من صحون الأسئلة عن الصحة، وأهل الدار، ومتعلقاتهما، وعن الشعر ومدى اشتعالي به، قلت له:
- ياهذا؛ إن الأجساد التي ينشدها هذا الوباء المستجدُّ لا تنشد الشعر، وأنى لها ذلك وهي تلوك التأمينات في كل ثانية، وتجول العالم بأقدام ( النِّت) علَّها تلتقط حبة طمأنينة ما في جهة ما من جهاته، فكيف تطلب منها ذلك وهي في ساعة حيرة وفرَق؟!
فقال وهو تحت عاصفة القهقهة:
- اسمع يا أخي ؛إن الشعر هو العالم كله، فإذا سلم سلمت الحياة، ولْتفتَحْ أُذنيك لما سأتلوه عليك فإنه سيقويك، وسيعطيك مناعة روحية وجسدية.
وشرع في قراءة سكة حديدية ممتدة في جغرافية الانحطاط، لم أعِ منها إلا نخيره، وقافيتها الشبيهة بقرون الأشباح، ولم أرَ من ذاتي إلا رأسي الذي بدأ يسقط على كتفي بسيف الإرهاق والنوم.
ولم أنهض من الغفوة التي امتطتني إلا على صرخته:
- إيه،كيف ترى قصيدتي التي سمعتها؟ وكيف تراني فيها؟! أليست من مكنون الشعر الذي لم يعد هذا الزمن ينتجه؟!. فالمشهد الشعري العربي الآن يعج بشعراء أقل ما يقال عنهم: إن الشيطان رشهم ببعض ماء الشعر، ولكنه نسي أن يطعمهم لذة الوزن وحلاوة القافية، ولذلك جاءت نصوصهم حدائق عقيمة، لا ظل، ولافاكهة، ولا أريج.
أغلقت السماعة ، وندمت على معرفة مثل هؤلاء الذين خرجوا من ليل الماضي ليفسدوا حياتنا بوقاحة فجة، ومعرفة متآخية مع الرماد.


L’image contient peut-être : 1 personne, texte


46

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى