محمد خير الدين - غثيان أسود.. شعر - ت: مبارك وساط

مقاطع من "غثيان أسود"


الشّمس ناضجة هذا الصّباح
و لا شكّ لديّ في كون الشّتاء
قد انتهى
لِتُنْسۤ تلك الغفوات المختومة بالرّصاص
تلك الأهراء المعتمة
حيث لم يكن يدلف و لا حلم
ها حياتي مكويّة مثل قميص جديد
حياتي المُنقّاة من اختلاجاتِ
الخوف من الصّيرورة
على زجاج النّافذة تقتطع الشّمس هذا الصّباح
أصْنافا من الذّهب الأخضر
ما توقّعها أحد قطّ
و يسقُطُ في كفّي تينٌ شوكيّ
كما في فجوات الصّخور التي يُقال
إنّها مسكونة
قد يسْقط من حالق
يتشتّت
مثلما
فِرْق النّحل الذي تدهمه هبّة ريح
اتْرُكوني لوحدي
مع مخاطراتي
و آلامي
و ندوبي
أريد بالكاد
أن أحتكّ بكم
ما دام غير وارد أن ننفصل
في كل يوم
عن الأحداث
عن السّلاسل اللاهبة
لكنّهم ليسوا إلا أناسا
نفس الأناس الذين يتّخذون أوضاعا جديدة
أمام شعب
تتأكّله جراحه
في مكان ما هنالك عميان
بطون فارغة
مدن ميتة في مصبّ نهر
هل ستبقى حيّا بعدها
إنّك ترتعش
إذ تدنو الثّمرة
ثمّة مدخنة تقطع الجحيم
عۤرۤقُك
يحترق مع الصّمغ والحديد
مسكنٌ مقبول
مسكن لا يُتصوّر
الضحكات مثل حصباء تفْصِل
الرّعب في جسدك
مثل الحبر الصّيني
إنّه وقتُ الخروج
دمي الأسود أكثر تغلغلا في الأرض و في جسد
الشّعب
مهيّأ للمعركة
دمي الأسود يحتوي آلاف الشّموس
الحقل المأساوي
حيث السّماء تتلوّى
ماعُدت أريد ألوانا ميّتة
و لا
جملا تزحف في القلوب المرتاعة
لقد وقعتم
بيني وبين دمي الأسود
جناةً أقْدموا على جرائم قتل
دبّرتْها الخيانة في مرحلة ما غامضة
و ماضيّ يقفُ أيضا
في مستوى
عُلُوّي
صاعقا
شبيها بالنّهار الذي يبزغ من جديد
راشحا حبرا
أسْود
دمي الأسود
على رابية
سأسْحلكم في الوحل المجبول من دمي الأسود
أنتم و أنا
حملة أساطير الماضي
دمي الأسود كان الحليب اللاّهب لأثداء الصّحْراء
أنتُمْ و أنا
مثلما ريح متنافرة
أطنانٌ من الرّمال
أبديّاتٌ من
الجُزَيئات
تفصل بيننا في الحاضر
ذلك أنّي الدّم الأسود
لأرْض وشعبٍ تمشون عليهما
أزفۤ الوقت
الوقت الذي يصرخ فيه النّهر من كثرة ما حمل
مثل ثعبان
أسود
يسحق الصّخور و أشجار الأرز
حتّى البحر الذي يفهمه
واقفا
حاضرا
معا
أنتم في مواجهة الجثث التي تُثْقل ماضِيّ
جثثٌ
لمْ تيْبسْ ديدانُها بعد
و أنا القاضي لكوني كُنْتُ الضّحيّة
ذلك أنّ دمي الأسْود ينساب في الأرض و في أعماق الشّعب
و هي وحدها الشّاهدة
و ماضيّ ينبثق من الرّصاص الذي هشّمه
ثمّة كلبٌ ينبح في مكان ما
من قلبي
و بلسانه يُريد أنْ يُطارد
أولئك الذين يسْلبونني حياتي
أولئك الذين يسْتمْرئون شُرْبَ لترات
من دمي الأسْود
ثمّة كلبٌ يقتفي آثار بنات آوى التي تَنْهش
بِعُصْلٍ مقضْقِضَةٍ حياتي
حياتي النّاقة الضّائعة في هروبها عبر الصّحْراء
حيثُ يَضيع
دمي الأسْود
حليبُها
يا أسْلافي
كلبٌ يجْري عيناه خارج محجريهما
مبيضّتان بالحليب الضّائع
كلبٌ لمْ يعدْ يرى آثارا أو سُبُلا
و مع ذلك فالطّريق تصْعد نحو النّافذة
تجلُبُ شيئا زهيدا
سأجْعلُ منه و ستجْعلون
اليقين الأوحد
و النّاقة أضاعتْ
حليبها في الصّحْراء
ربّما يكون قد انْسابَ تحت الرّمال
مثل مياه ” درعة “
ربّما يكونُ قد ملأ البحْر
بآلامي
دمٌ أسْود
كان حليبا
إطْلاقة نار كانتْ كافية لجعلهمْ يسيرون
سائلوا
الرّوبوطات
آباء الهول
و حتّى الجداجد
فهي تعرف كيف تُنَمّي
اللّيل
أحْيانا تجيئُني القصيدة مثلما حجر
لا أحْتمل شيئا
لسْتُ أسطورة
هذه الكلمة تعني أنْ يمضي الإنْسانُ ضد ّنفسه
و أنْ ينْتهي بغفوة تُولَدُ منها فراشات
لقد سئمت
البارود
سۤمُّوني ذاك الذي يُغوي أو يُزعج
و بإيجاز
غيرۤ المرغوب فيه
لكنّه يقين هائل
و إذْ تحوّلْتُ إلى ليلة جليديّة
ليلة مشْهودة
فها أنا أتدفّق
أتدفّق بين هذه الأحْجار
النّهار ينفش نفسه فيما بينها
و فجأة يموء من الأعمق بين العصور
قط متوحش
غراب
سلطعون
حسب المناشير العظمية التي تُهيّئني
بنيةً معماريّة معادية
خارج محتواي
أنا إربيانة و نجومي
تتقيّح في الطّرق الممدودة
فوق الفجوات حيث
تنْدمج المدن الضّخمة ببورجوازيّتها
المدن النّحيفة و القويّة
بالجثث التي ما زالتْ تضعُ فيها قلقها
وثمّة بحر مريض
أخْضَرُ بالحقائق السّائلة
و يهمّني الدّم الآن إذ
تنْفجٍرُ كلّ عين
مَۤعْقِدۤ صُوۤر
عين أذْنبتْ إذْ خۤلۤقۤتْ بِصدْمة
كۤلمۤةۤ
إلكترون التي تتقافز من طُحْلبة إلى طحلبة
و تُنظّف مسالك الأنْهار
ثمّة دم
يريد أنْ يهب السّماء لأطْراف أصابع
الفلّاح المستحيل تفكيكُه
بالبۤرۤدِ المُتساقط
أو بشجرة التّين المقطوعة
فهنالك يسْري النّفۤسُ المُنْبثق من أورام الهواء
و كلّ شيء
بما في ذلك أنا
قد كفّ
عن العضّ
ما عُدْتُ أحتمل صراعا يُلْغۤى قبْل نهايته
أنْ تموت مُحْتجزا
في حواسّك
هذا مأمون أكثر
ذلك أنّكُم خرّبتُم الجُملة
غير المعهودة
يا مسوخا أُسْقطت من جلدها القِشْري
مُرْهقةً بنيران جهنّم
التي ما عليّ أنْ أخلّدها أو أطفئها
كلّية
في مكان آخر هي المحارة التي لا تتقبّل إلا صخبها
الأجْدرُ لۤوْكُ السّماء و الأرض
المُصْفرّة بالفتن و أنْ أضْحك من نفْسي
أنا النُّصْبُ الحجريّ المُنْهك بصيف لاهب
أنا الأسْتدارة المكتملة
لكن ها هو العُشْب
ليس صراعي شحمۤ بغل
و لا حتّى تِرْغلّة عۤتّمتْ عليها
حُمرةُ قائمتيها
إنّه حركة من يبتغي أنْ يعيش دون
خلود آخر سوى جراحه الخاصّة
و خُدوش قلْبه
أن يصْبح قابلا لأن يُنْفذ إليه في زمن
منزوٍ و رُبّما سيصل إلى أوردة صغيرة
يابسة
كلا
لمْ تعُد الجرادة غيرَ موافقة
فأين إذن سيكون منفانا ؟



٭ غثيان أسود قصيدة مطوّلة لمحمّد خير الدين( 1941 1995)،
تتكوّن من 15 مقطعا، و هي أوّل ما نُشِرۤ له في كرّاس مستقل (لندن، 1964)، و قد أعيد نشرُها، مع قصائد أخرى، في مجموعة شمس عنكبوتيّة ( منشورات سوي، 1979 ).
عن هذه المجموعة، كتب ألان بوسكيه في صحيفة لوموند:
« شمس عنكبوتيّة مفعمة... بجيشان شافٍ، بالحاجة إلى مناهضة كلّ شيء، سواء تعلّقۤ الأمر بالوضوح أم بالمواضعات الخاصّة بالأجناس[ الأدبيّة ] » . و بيّنٌ -من خلال شعر بوسكيه نفسه...- أنّ ما يقصده هنا هو « الوضوح » ، بمعناه المبتذل...


مبارك وساط،
شاعر ومترجم من المغرب
أعلى