نضال البيابي - محمد عمارة و ياسر الحبيب و-العقلانية المؤمنة-

التاريخ عند القديس أوغسطين (354-450م) ليس إلا حدثاً دينياً أو جزءاً من الخطة الإلهية. سقوط آدم هو المفتاح للدراما الدينية حسبما يرى أوغسطين أو لنقل بداية التاريخ والتي تنتهي بيوم "الدينونة". ويسوع هو قلب التاريخ ومحركه. فالتاريخ يدور حول المؤقت والأبدي، فـ"الله أبدي وهو خالق الزمن. ولا يجوز فهم الأبدي ولا وصفه من وجهة نظر المؤقت". والعلاقة بينهما، بين المؤقت والأبدي، غير مفهومة للإنسان. فكل ما يحدث في التاريخ الدنيوي، من صراع بين الخير والشر، ليس اعتباطاً، وإنما هو سيرورة نحو "الخلاص" أو الآخرة.
يمكن أن نجد بدايات تشكل هذا الفكر الأرثوذكوسي أو هذا الموقف الذي تحكمه "الغائية"عند بعض فلاسفة الإغريق. محاورة "فيدون" على لسان سقراط مثلاً.
ومن المعروف أن لأفلاطون تأثيراً بالغاً على اللاهوت المسيحي. وكذلك اللاهوت الطائفي عند السنة والشيعة يتضمن نظرة غائية للتاريخ. ولعل الصوفي القشيري في تفسيره الآيات القرآنية التي تروي قصة تجربة آدم في الجنة قد احتال على هذه الغائية:" كانت الخطيئة منهما لكنه تعالى قال: "فوسوس الشيطان" ويقال التقى آدم بإبليس بعد ذلك فقال له:" يا شقيُّ! وسوستَ إليَّ وفعلتُ! فقال إبليس لآدم. يا آدم! هَبْ أني كنتُ إبليسكَ فمنْ كان إبليسي؟"
يمكن اعتبار النزعة الطائفية نكوصاً وتراجعاً إلى نوع من "العقلية الأرواحية" التي حدّدها فرويد بصفاتٍ ثلاث: النرجسية، القدرة الكلية، والإسقاط. فهو الوحيد الذي يكون دائماً على حق، والإيمان بالقدرة الكلية لفكرته، (فبفضلها سيتوصّل إلى تغيير العالم أو الآخر). أما الفكرة الإسقاطية فهي إسقاط كل العيوب الذاتية على الآخر.
دع عنك لا علمية نظرية فرويد حول عقدة أوديب أو قتل الأب في الطوطم والحرام، ولكن ألا يغدو الموتى من السلف الصالح أو الأئمة الأطهار في نظر الطائفي أقوى مما كانوا عليه في حياتهم؟! ولو تفطن الطائفي إلى البصمات البشرية في خطاب مؤسسي الطائفة لأوحى إليه مثل هذا التفكير بشيء من التواضع أو على أقل تقدير قد يخفّف ذلك من حدِّة نرجسيته ومن أحكامه المسبقة القاسية ضدّ خصومه. ولكن مثل هذا القول قد يحطّ من كبرياء الطائفي لأن نزع الأصل الإلهي عن المؤسس أو المؤسسين يحوّل المذهب إلى مجرد أيديولوجيا.
إنَّ قول الحقيقة للمحبوب - حسب تحليل فوكو للشجاعة وقول الحقيقة - قد تؤدي إلى تحطيم العلاقة العشقية، وقول الحقيقة للحاكم قد تؤدي إلى السجن أو الإعدام. وقول الحقيقة بهذا المفهوم إلى الطائفي قد تؤدي إلى النفي أو التكفير أو إلى نتائج لا تحمد عقباها في المجتمع الطائفي.
هناك أربعة أنماط لقول الحقيقة لدى اليوناني كما يقول فوكو. قول الحقيقة النبوية، وقول الحقيقة الفلسفية، وقول الحقيقة السياسية، وقول الحقيقة التعليمية. وما يعنينا هنا مميزات الخطاب "النبوي" بما أن الشيخ ياسر الحبيب، الذي سنعود له لاحقاً، يزعم أنه مجرد وسيط، أو صوت، أو ناقل لكلام المعصوم.
إنَّ الشخصية "النبوية"، لكي تتأسس ينبغي أن تحقق نوعاً من القطيعة مع العالم المحسوس، عالم الخطأ والمصلحة والرغبة، ومع كل العالم الذي يكون بالنسبة للحقيقة الخالصة والخالدة عالم الظلمات. "النبي" أو الوسيط عن النبوة، لا يتكلم باسمه الخاص، إنه يعبر عن صوت آخر، الكلام الذي يعبر عنه هو كلام الله، أو الرسول في هذه الحالة أو المعصوم، أي أنه يخاطب الناس في نهاية المطاف بخطاب إلهي. وأي نقد لخطابه هو نقد لخطاب المعصوم والعياذ بالله. أو كما يقول فوكو:" إنه وسيط بين الحاضر والمستقبل فهو يكشف ما خبأه الزمان عن الناس.. وسيط يكشف ويعري ويوضح ما خفي عن الناس لكنه لا يقوم بذلك دون أن يكون غامضاً هو نفسه، أي دون أن يقدّم كلامه في شكلٍ رمزيٍّ غامض" ولذلك لا يمكن أن يفهم كلام الوسيط أو المعصوم على مستوى واحد، فهو أحياناً غامض لا يفك شفراته سوى التأويل أو معرفة "علم الأصول" أو "لحن الأئمة" حسب بحث الحبيب، وقد يكون في سياق آخر في غاية الوضوح والمباشرة.
في القرن الرابع الهجري وجّه إخوان الصفا نقداً لاذعاً للطوائف الإسلامية المتصارعة فيما بينها في رسائلهم: "ذلك أنك تجد أهل الدين الواحد مختلفي المذاهب والآراء مثل (...) خارجي ورافضي وناصبي وقدري وجهمي ومعتزلي وسني وجبري، وما شاكل هذه المذاهب التي يكفّر أهلها بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً.."(الرسائل ج2، ص 367)
ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية:" (سنة 363) في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والروافض... وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملاً وسمّوها عائشة، وتسمّى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيّارون في البلد فساداً، ونُهبت الأموال"(ج11،ص 275)
وفي موضع آخر يقول ابن كثير: "في هذه السنة (443) في صفر وقعت الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: "محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر"، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد (ص) في هذا، فنشبت الحرب بينهم واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقُتل رجلٌ هاشمي فدفن عند الإمام أحمد بن حنبل ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا ضريح موسى الكاظم ومحمد الجواد. وقبور بني بويه، وأحرق قبر جعفر المنصور ومحمد الأمين وأم زبيدة وقبور كثيرة جداً، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا..."(ج12، ص62)
كل مذهب يدّعي وصلاً بالحق أو الحقيقة. والذي لا يرى هذه "الحقيقة" إنما هو أعمى أو لم يكتب الله له الهداية بعد. لكن، ما الحقيقة؟
في الفلسفة هناك عدة مفاهيم أساسية للحقيقة، تعرف عادة باسم "نظريات الحقيقة". منها ما يعرف بنظرية "التطابق" ومعنى ذلك أن القضية أو الحكم تكون حقيقة إذا كانت تطابق واقعاً موضوعياً. لكن هناك صعوبة تواجه نظرية التطابق، التي تبدو بسيطة ظاهرياً. يتساءل هنتر ميد عن جدوى "نظرية التطابق" في ميدان ليست فيه "وقائع". بمعنى أشياء موجودة يمكن التحقق منها على نطاق شامل. مثلا المؤمن الذي يرى في "المعجزات" أو "الخوارق" المنسوبة إلى قديس أو إمام هي "حقيقة" بينما لا يرى الفيلسوف فيها سوى أسطورة وخرافة لأنها تبدو مناقضة للعلم الحديث والمنطق. وعلى هذا النحو لا يمكن الزعم بأن التحقيق الحسي وحده يكفي في كل الأحوال لإثبات "الواقعية الموضوعية".
ماذا عن ظواهر "الرؤى" أو حالات الوجد الديني التي يعبّر عنها عالم النفس عادة بالهلوسة؟! وهل يمكن اعتبار ذلك "وقائع موضوعية" كشفتها للقديس أو المؤمن حواسه؟! قلّما ترتقي شهادة الرواة لهذا النوع من المعجزات مرتبة الاحتمال، فما بالك بمرتبة الدليل. وإن افترضنا جدلاً أن ثمة حدثاً خارقاً للطبيعة يُستدل به على صدق معجزة معينة من خلال تواتر الرواة أو الشهود الذين حضروا الواقعة فينبغي هنا البحث عن الأسباب الطبيعية الصادرة عنها، وإن كان الحس السليم سينكرها دون مزيد من الفحص.
فرانسيس بيكون يقول في هذا الصدد: "إنه ينبغي لنا تدوين كل الولادات والمصنوعات الخارقة، لكل جديد ونادر وخارق للعادة في الطبيعة. إلا أن هذا الأمر ينبغي أن يتم بغاية التدقيق والصرامة حتى لا نبتعد عن الحقيقة. وأنه ينبغي أن نعتبر أيّ خبر خاضع بوجهٍ ما للدين، هو خبر مشبوه، لا يقل شبهةً عن كل ما يمكن أن نجده عند واضعي كتب السحر أو السيمياء الطبيعيين، أو عند كتّاب مثلهم ممن يبدو أن لهم جميعاً رغبة لا كابح لها في الوهم والخرافة". فالإصلاح الديني في نظر بيكون يتطلب نبذ كل "لاهوت طبيعي" كما في المدرسة الكلاسيكية بوصفها جمعاً للأضداد، مزاوجة زائفة ومضلّلة بين قضايا الإيمان وأمور الطبيعة.
لكل مجال قوانينه الخاصة ومنهجه المناسب. ينتمي اللاهوت إلى دنيا الإيمان. أما دنيا الطبيعة فتجب مقاربتها بعلم طبيعي محرّر من شوائب الافتراضات المستمدة من الخيال الديني. لذلك قسا بيكون على أرسطو وأفلاطون. فيقول عن أرسطو "إنه أسوأ السوفسطائية" لأنه يصوغ القواعد حسب الأقيسة، ثم يبحث عما يؤيدها في ظواهر الطبيعة. أما أفلاطون فهو "لاهوتي مفعم بالحماس"، فهو إذ يجعل العالم المحسوس تابعاً للعالم المتخيل قبل وجوده. التصديق بالمعجزات هنا يتطلب الإيمان لا الفحص العقلي، والمؤمن تبعاً لذلك قد يعتقد أموراً هي الأشدّ مناقضة للعادة والتجربة. الفارابي مثلاً عزا الخوارق إلى "القوة الخيالية".
هذا لا يعني تمنُّع إقامة الدين على مبادئ العقل، فهناك محاولات معتزلية وشيعية في القرون الأولى للإسلام جعلت الحاكمية للعقل على الشرع، كالتحسين والتقبيح العقليين، (فالعقل يدرك بذاته حسن الأفعال أو قبحها دون الحاجة للرجوع إلى الشرع)، ومسألة حرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله. ولكن انتصار المدرسة الأصولية الرسمية حال دون تطوير هذه المدارس. كذلك لا ينبغي أن ننسى هنا محاولات ابن رشد وابن الطفيل وابن سينا في مسألة البرهان العقلي والتجريبي الموصلين إلى المعرفة. ولابن الطفيل قصة فلسفية رمزية شهيرة. تنطلق القصة من افتراضٍ يقول إن طفلاً وُجد منعزلاً في إحدى الجزر وقد تكفّلت بتربيته ظبية ولما ماتت طرح الولد حي بن يقظان على نفسه أسئلة هي التي جعلته ينتهي إلى نتائج علمية عن طريق الافتراضات والمقارنات والتجارب التي توصّل من خلالها إلى روحانية النفس وثبات واجب الوجود بذاته. وقد صادف أن التقى في جزيرته شيخَ دينٍ يسمى آسال ودار بينهما حوار حول عدة مسائل ميتافيزيقية اتفقا في نهاية المطاف على أنه لا تناقض بين المعرفة الدينية التي تلقاها آسال وبين ما انتهى إليه حي بن يقظان عن طريق التأمل!
ثمة نظرية فلسفية أخرى تعتمد على "الحقيقة بوصفها ترابطاً". بمعنى أن العبارة أو القضية تكون صحيحة إذا "كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة مع معرفتنا ككل" ولعل أفضل مثال في هذا السياق هو علوم الرياضيات أو هندسة إقليدس. إذن ما الفرق بين "الحقيقة المطابقة للواقع" و "الصواب"؟!
أبرز نقاط ضعف هذه النظرية حسب هنتر ميد، أنه من الممكن تشييد أعقد البناءات الفكرية على مقدمات لا يزكيها شيء سوى كونها تتفق مع مصالحنا الأنانية كما في المذاهب الدينية أو الأيديولوجية السياسية أو الاقتصادية. وتكمن خطورتها في كونها "تسحر" الذهن غير النقدي الذي قد يعجب بالبناء في صورته النهائية وبنتائجه خاصة إذا كانت ترضي رغبته في الاطمئنان العاطفي أو التبرير الأخلاقي إلى حدٍّ يؤدي إلى إغفال ملاحظة الأسس التي شيد عليها البناء بأكمله. وعندما يكون "البناء الفكري الذي يصر على الاحتماء في داخله، قد ظل صامداً قرونا طويلة. فعندئذ يصعب إقناع المؤمن غير النقدي بأن هذا البناء ليس مشيداً على أسس واقعية يمكنها أن تصمد للاختبار الذي يتخذ من التطابق معياراً للحقيقة"
يقول راسل: الحقيقة تعرف بالتلاؤم إما مع "الحدث" أو مع "التجربة". ونظرية التلاؤم مع التجربة هي النظرية الإبستملوجية، ونظرية التلاؤم مع الحدث هي النظرية المنطقية.
والسؤال هنا: ما الحقيقة أو "الحقائق الدينية والتاريخية" عند المفكر الإسلامي محمد عمارة والشيخ ياسر الحبيب؟!
الراحل محمد عمارة كان مفكراً إسلامياً موسوعياً وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر. ولقد جاوزت كتبه – تأليفاً وتحقيقاً - مائة وخمسين كتاباً. وأبرز ما يلفت النظر في كتابات الراحل تراخي الحس النقدي عنده خاصة عندما يقارب التراث الإسلامي بل أكاد أقول إنه ينعدم تماماً. فعندما يتعثر بنصوص تنطوي على أضداد ومتناقضات يلجأ بلا وعي ربما إلى حِيل اعتذارية وفذلكات لفظية تجعل العيوب مزايا، وتحمّل النصوص ما لا طاقة لها به، وأحياناً ينتقي ما يناسب توجهاته ويتجاهل ما يقدح في نظريته، ويستميت في تبرئة الصحابة من الأهواء والتحيزات البشرية رغم أنه يعيب على الشيعة عقيدة "العصمة".
إنه ينتج صورة مقلوبة للواقع بالمفهوم الماركسي، ليس لها علاقة لا بالمنهج التاريخي ولا بالحقيقة التي يسعى لها. وعمارة لا يختلف في رؤيته للصحابة كشخصيات نموذجية مقدسة أو شخصيات مثالية عن سلفه ابن حجر العسقلاني (توفي عام 852 هـ)
وكلما قرأت كتابات عمارة المتأخرة تذكرت شخصية "وتمان" في التحليل الفرويدي للأفكار التسلطية. ووتمان هذا استحوذ عليه "وهم" آمن به إيماناً عميقاً لا يتزحزح رغم كل الدلائل التي تنفي صحته. فحواه أن والديه كانا على علم بأفكاره الخاصة. و"أوهام" عمارة تكاد تتلخص في: "الإسلام هو الحل"، مثالية السلف الصالح، "الفحش الفكري" لدى الشيعة، و"العقلانية المؤمنة" عند السنة.

يقول محمد عمارة في وثوقية أوغسطينية:" بآدم - عليه السلام- بدأت مسيرة الإنسان على هذا الكوكب الذي نعيش فيه... فهو أبو البشرية، الذي خلقه الله وسوّاه ونفخ فيه من روحه.. وإذا كان آدم هو أبو البشر، وأول الأنبياء، وفاتحة المرسلين.. فإن مشيئة الله قد اصطفت مصر – كنانة الله في أرضه – لتبدأ على أرضها هداية النبوة والرسالة منذ عصر وحياة آدم.. ففي ربوعها كانت بعثة نبي الله إدريس – عليه السلام – الذي مثّل، في سلسلة النبوة، ثالث الأنبياء، بعد آدم وشيث، والذي عاش وبعث في حياة آدم...... ومعنى ذلك أن مصر دخلت في دين الله، وعرفت التوحيد، وحياً إلهياً – لا وضعا بشرياً وإفرازاً إنسانياً – وتلقت علم النبوة، واحتضنت الرسالة السماوية منذ فجر الإنسانية، وفي حياة أبي البشر آدم.... وعبر هذا التاريخ المصري – الذي هو أطول وأعرق ما حفظت ذاكرة الإنسان من التاريخ – ظلت ومضات التوحيد الديني في مصر شاهدة على انتماء المصريين إلى دين الله...."(عمارة. عندما دخلت مصر في دين الله)

وفي مديحه لوحدة الأمة الإسلامية - من كتابه "هل الإسلام هو الحل- لماذا وكيف" - التي وسِعت ألواناً من التعددية بلغت تناقضاتها حد الصراعات المسلحة، ورغم صراعهم الدموي المُبرَّأ طبعاً من أهواء السياسة وطلب الرياسة، إلا أنهم ظلوا على ولائهم "للدولة الواحدة" فحافظوا على "الجامع السياسي" وعلى ولائهم "للدين الواحد". لأن القتال بينهم كان فقط على "التأويل" لا على "التنزيل". وفي سبيل إثبات هذا الزعم يشير إلى حديث للإمام علي حول معركة صفين من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد يشرح فيه الإمام أسباب القتال بين فرقتين مسلمتين:" لقد التقينا، وربنا واحد، ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان. ونحن منه براء".
يعلّق عمارة على حديث الإمام علي بقوله:" ثم يؤكد الإمام علي، كرم الله وجهه، على أن مصادر النزاع هي "شبهات" أثمرها "التأويل" فهي لا تُخرج من "أخوّة الإسلام" فيقول الإمام علي:" لقد أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل. فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبة فيها، وأمسكنا عمّا سواها..." وعندما سئل عن رأيه في "آخرة" قتلى الفريقين؟! أجاب:" وإني أرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه، منا ومنهم، إلا أدخله الله الجنة" ( وحديثا الإمام علي منقولان من كتاب الفقيه المالكي أبو بكر الباقلاني "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة") والنتيجة التي يصل إليها عمارة رغم كل ما حدث بين الإخوة الأعداء: "وهكذا وسعت وحدة الملة والدولة التعددية، حتى عندما بلغت الفتنة بين فرقائها درجة القتال... الأمر الذي لا نعتقد أن له نظيراً خارج الإسلام!" وعمارة مُحقٌّ في كون عدم توفر هذا النموذج في أي مكان حتى في التاريخ الإسلامي نفسه!
وشخصية الإمام علي من الشخصيات الإسلامية الكبرى التي خضعت لقراءة مذهبية من كلا الطرفين المتصارعين. الباقلاني نقل حديثاً لابن أبي طالب بدا فيه منسجماً مع "الرؤية السنية" في حين نقرأ في "وقعة صفين" لنصر ابن مزاحم المنقري خطاباً مغايراً للإمام علي أقرب ما يكون للعقيدة الشيعة في الإمامة:"عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه، من المنتحلين المدّعين المقابلين إلينا يتفضّلون بفضلنا، ويُجاحدُونَا أمرنا ويُنَازعونا حقّنا، ويدافعون عنه، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيّا، ألا إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فأنا عليهم عاتب زارٍ."( نصر ابن مزاحم المنقري. وقعة صفين. ص4)
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي نقرأ خطاباً لا يشبه الأول في بنيته ولا يتماهى مع الثاني وإن كان في سياق آخر: يقول الإمام علي بن أبي طالب:" لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست من نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي"(نهج البلاغة ط بيروت 1982، ص 477-479/ آخر المجلد الثاني. أهل البادرة: الطغاة غير المأمونين في حالة الغضب)
ويروى كردّ على هذا الخطاب في كتاب آخر أن معاوية غضب على وفدٍ من همدان تجرأوا عليه في مجلسه: " يا أهل العراق لقد لّمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، وبطيئاً ما تفطمون" (بلاغات النساء لطيفور).
يغلب تبسيط المسائل والإشكالات التاريخية على معظم كتابات محمد عمارة، فـ"الفحش الفكري" في كتب التشيع إنما هو نتيجة "التعصب الطائفي والضلال المذهبي ضد جمهور أمة الإسلام، الذين يعبدون الله وحده.. ويؤمنون بنوة خاتم الأنبياء والمرسلين...
إذا كان صلاح الدين الأيوبي قد أصبح علماً على الجهاد الإسلامي عبر تاريخ الإسلام، فإنه هو القائد السني، الذي خلص بلاد الإسلام من انحرافات الشيعة الإسماعيلية الباطنية – كما خلص هذه البلاد من أشرس حملات الصليبيين .. بينما هو مرفوض عند الشيعة مع الأسف الشديد....
فالذين قهروا التتار في عين جالوت هم أهل السنة... والذين استعادوا بغداد من التتار هم أهل السنة.. بينما الخيانة التي فتحت أبواب بغداد أمام هولاكو كانت من الآخرين!!"( عمارة. فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية. ص82-93)

ويقول في موضع آخر:" إن المجتمع الشيعي - في الحوزات والجامعات ومؤسسات البحث والدراسة – يزخر بالعقلاء من الفقهاء والعلماء... ونحن – من موقع الحب والتقدير والإجلال - نتوجه إلى هؤلاء العلماء العقلاء ..فنقول لهم: إن الذين أزالوا طاغوت الفرس والروم – قبل أربعة عشر قرناً – وفتحوا أبواب كل البلاد أمام الإسلام هم الصحابة، الذين صنعوا هذا المجد التاريخي تحت قيادة أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب.. أي أن هؤلاء هم السبب – الذي يسّره الله – لوصول الإسلام إلينا وإليكم ... ولولاهم فلربما كنتم تعبدون النار أو الصلبان أو العجل أبيس حتى هذه اللحظات!!" (عمارة. فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية. ص83)

أما الشيخ ياسر الحبيب فهو سليط اللسان يحترف "الهجاء" وكأنه الحطيئة الذي لم يسلم من لسانه أحد، فلما لم يجد من يهجوه هجا نفسه:
أبتْ شفتاي اليومَ إلا تكلماً
بهجو، فما أدري لمن أنا قائلهُ
وتوحي شخصية ياسر الحبيب بأنه يعاني من باثولوجيا نرجسية حسب مصطلح التحليل النفسي ويمكن استشفاف ذلك من خلال شعوره المشوه بالأهمية والعظمة حول قيمته الاجتماعية خاصة فيما يتعلق بالسياق المذهبي. فهو يكشف "حقائق" تاريخية لم تُكشف من قبل ويفكك شفرات النص الديني ويستخرج "المعاني الحقيقية" من نص المعصوم. ولديه يقين لا يهتز في صحة أفكاره و "طهارة" منطلقاته الدينية.
يقول الشيخ ياسر الحبيب:" ورد في الحديث الشريف قول الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: إن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فإذا دقت الحلقة على الصفحة طنت وقالت يا علي"( من سلسلة محاضرات حول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ألقاها الشيخ ياسر الحبيب في ليالي شهر مضان سنة 1427) ولست أدري إن كان الحبيب يصف بيتاً شعبياً متواضعاً في القرن الهجري الثالث أو باباً في الجنة؟!
والحبيب يعيب على خصومه أن تعصبهم حال بينهم و"حرية البحث العلمي" و"الإستقصاء الموضوعي" والذي يحتم على الباحث الحر عدم الإيمان برأي لا ينهض الدليل على صحته. ولست أدري إن كان الحبيب جاداً أم هازلاً في هذا الطرح. فلو وجد هذا الباحث الحر هل يا ترى سيذهب مذهب ياسر الحبيب في بحثيه "العلميين" عن "لحن الأئمة" و"كيف زيف الإسلام؟" أم أنه سيتخذ طريقاً آخر، بعيداً كل البعد عن مطمح الحبيب؟!
فلنفترض أن مسلماً ألمَّ بتفاصيل الخلافات المذهبية (كما يدعو الحبيب) بين الفرق الإسلامية إلماماً كاملاً، فهل تكون الحصيلة النهائية إلا رجلاً كافراً بكل المذاهب أم سيكون شيعياً مؤمناً أو سنياً سلفياً؟!
سئل الشيخ ياسر الحبيب "الباحث الحر": كيف كانت العوالم السابقة تدين بولاية المعصومين وهي لم تعرفهم ولم ترهم؟
فكان جوابه: "إن حقيقة محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) تختلف عن حقيقتنا أو عن حقائق بقية المخلوقات، كما أن عالمهم يختلف عن عالمنا وعن عوالم بقية المخلوقات، فهم منذ الأزل أنوار خلقها الله تعالى قبل أن يخلق أي شيء آخر، ومن أنوارهم خلقت بقية المخلوقات، بدءاً من اللوح والقلم والعرش والكرسي، مروراً بالملائكة والسماوات السبع والأرضين السبع إلى سائر المخلوقات الأخرى. ولا يمكن للمخلوق الأدوَن أن يستوعب المخلوق الأعلى، فالحيوانات مثلاً لا يمكنها أن تستوعب حقيقة البشر، ولا يمكنها إدراك كنههم، ولا كيفية أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، لأن ذلك بالنسبة إليها يُعتبر غيباً وفوق مستوى إدراكها. وهكذا الأمر بالنسبة لنا، لا يمكن لنا أن نستوعب أو ندرك كنه وحقيقة محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) لأنهم في مرتبة أعلى منا، ونحن أدوَن منهم في مراتب الخلقة.... بناء على ما تقدم نقول: أنه نعم قد ورد أن الله تبارك وتعالى قد خلق كثيراً من العوالم غير عالمنا هذا، وفيها خلق مثل خلقنا هذا أو أكثر، وهؤلاء كانت لهم بداية وكان لهم آدم (أي مبدأ مخلوق) ولهم قيامة (أي حساب بعد الفناء)، وكل هذه الأقوام والخلائق مكلفة بمعرفة محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) وطاعتهم والائتمام بهم، ولأهل البيت في تلك العوالم أدوار كما كان لهم دور في عالمنا. أما ما هي تلك الأدوار؟ وكيف يكون أهل البيت موجودين في عالميْن أو أكثر في الوقت نفسه؟ وما هي طبيعة ظهورهم في تلك العوالم وهل كانوا هيئة البشر أم هيئات أخرى أم أنهم يرجعون إلى هيئتهم الأصلية النورانية؟ هذا كله يبقى غيباً بالنسبة لنا." (موقع القطرة. مكتب الشيخ الحبيب في لندن. 23 ربيع الآخر 1431)
إن الدعوات التي تطلق من هنا وهناك للعودة لكتب التراث لحل المشكل الطائفي، أو للتقريب بين المذاهب، هي تساهم في تأجيج النار الطائفية من حيث لا تدري. فكل فريق سيجد في كتب التراث ما يغذي نرجسيته الطائفية ويعزز من نسقه الحجاجي. في كتاب واقعة صفين لنصر بن مزاحم النقري يقول الداهية عمرو بن العاص في لحظة اعتراف نادرة: "قبلتنا وقبلتهم وديننا ودينهم واحد، ولكنّ الأهواء مشتّتة" (ص 317)
الطائفي يريد أن يفرض عليك بالقوة احترام "مقدساته" وهو على استعداد للتضحية بنفسه في الدفاع عنها أو التضحية بك في سبيلها. ولذلك تتراوح ردود الفعل الطائفية بين العداء العنيف أو الهلع تجاه أي محاولة نقد أو "قراءة بشرية" لمؤسسي الطوائف وإن كانت ناعمة ومواربة. إن معظم المتدينين غير متسامحين مع نقيضهم، ولذلك حينما يُشهر الطائفي في وجهك الآيات القرآنية القائلة: "قد تبين الرشد من الغي" "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" فهو على الأرجح يختبر "حقيقة إيمانك" ليس إلا. فأرجوك لا تأخذنك الحماسة فتعلن "كفرك" الذي سوف يقابل في أحسن الأحوال ليس بقبلة ولكن بشعور من الشفقة والإزدراء. القديس بولس جعل من الحب الشامل للبشر أساس المسيحية وكانت النتيجة على أرض الواقع أسوأ أنواع عدم التسامح من جانب المسيحية تجاه غير المؤمنين. ولعل فرويد في هذا الأمر تحديداً في كتابيه "قلق في الحضارة" و"مستقبل وهم" كان محقاً أكثر مما ينبغي! فالإسقاط الملازم للتعصب، الذي تخفّزه قوى لا عقلانية، قد يسوّغ، وبحجة اقتلاع الشر، أبشع الجرائم ضد ذاك اللعين المشار إليه كضالّ أو عدو. وحده النرجسي الذي يعتقد بأنه مُحقّ، وسائر الخلق مُبطِلون.


نضال البيابي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى