طيبي بوعزة - رواية الألوان الصَّارخة لـ"مصطفى رباح"... عندما يُصبح للكلمة فلسفة وحكمة.

رواية الألوان الصَّارخة...
عندما يُصبح للكلمة فلسفة وحكمة.
لقد تأخَّرتُ كثيرا في قراءة رواية "الألوان الصَّارخة"[1] لصاحبها "رباح مصطفى"، هذا الشَّاب القادم من غياهب الإقصاء والتَّهميش اللذان يطالان الكثير من المواهب القادرة المقتدرة في الإبداع شعرا وسردا، فلحظة صدور الطَّبعة الأولى لروايته هذه لم يتجاوز الروائي الشَّاب الخامسة عشر من عمره، والرواية باكورة أعماله الأدبية، وهو ما لا يمكن تصديقه مقارنة بجودتها الفنية ومضمونها الإنساني ورؤاه السَّامية، وهو ما دفعني إلى تقديم هذه القراءة التي لا تعدو أن تكون قراءة انطباعية مازالت تحتاج لبعض المراجعة والتَّطعيم.
لقد وجدتني منغمسا فيها دون انقطاع لخمس ساعات أو أكثر دون انقطاع، فعثرتُ فيها على مضامين متعددة وعوالم آسرة وفضاءات مبتكرة، بل الأبعد من ذلك تحليلات نفسية وفلسفية لمشاعر لا يمكننا الفكاك منها مهما حاولنا، إنَّ رواية "الألوان الصَّارخة" ليست مجرَّد رواية يبحث صاحبها عن موضع لقدمه في السَّاحة الروائية الجزائرية المعاصرة، طلبا للشهرة أو استجداءً لمجاملات نقدية، إنَّها رواية تمزج بين المتعة والفن، ونعلم جميعنا أنَّ الأدب خارج المتعة والمنفعة ليس أدبا، والغريب أنَّ مضمونها ينمُّ عن خلاصة تجربة واعية للكاتب التي تجاوزت المحلية سواءً ما تعلَّق بالمضمون أو الحيِّز الزمكاني أو الشخصيات، وبالعودة إلى سنِّ الكاتب يُصبح الأمر أكثر غرابة، لكنَّها غرابة تنجلي وتتلاشى بمجرد معرفة نهمه الشَّديد بالكتب الأدبية وغير الأدبية.
تحمل رواية "الألوان الصَّارخة" في متنها السَّردي موهبة روائية فذَّة، أجهد صاحبها نفسه في إفراغ كل حمولاته الفكرية والفنية فيها، فيمكن للقارئ ببساطة أن يجد أثرا لبصمته وأن يتحسَّس المكان وما يؤثِّثه، ويتلمَّس الزَّمان في انكماشاته وامتداداته، سيقف القارئ في "الألوان الصَّارخة" على أحداث ليست بالغريبة عنه، فهي مستلهمة من واقعه، وإنَّ خُيِّل إليه أنَّه في منأى عنها. سيخرج القارئ فور انتهائه من فعل القراءة بانطباع شامل وواف عن تفاصيل حياة البطل "سعد" فإن لم يتقمَّص الدَّور فسيتعاطف معه حتما، ولربَّما رافقته شخصية "سعد" بانتصاراتها وانتكاساتها لأيام وأسابيع، سيخرج القارئ منتصرا متسامحا مع ماضيه وواقعه، والأهم سيتطَّهر من الشُّحنات السِّلبية التي -في نظره- حوَّلت جنَّته إلى جحيم.
01- بنية الحدث في الألوان الصَّارخة... عندما تتولَّدُ الأحداث من منهج الاستطراد:
تبدأ الأحداث في رواية "الألوان الصَّارخة" لـ"مصطفى رباح" مع الفتى "سعد" الذي يكشف لنا الروائي عن الكثير من الحقائق المتعلقة به من البداية "... عاش مبتهجا مغمورا بمحبة أمه بعد أن حرم من حنان أبيه فقد توفي. سعد ولد طيب الذِّكر، لطيف المحيا، معتدل القامة، قوي البنية، أبيض البشرة، عيناه الواسعتان السوداوتان فيها بريق من الأمل نوعا ما، ذو شعر أسود صقيل، على قريب سيُنهي دراسته في الكلية، وله من العمر واحدا وعشرين سنة، مع أنَّ مظهره يُوحي للوهلة الأولى بأنَّه أصغر سنا ممَّا يبدو عليه، يداه كبيرتان وقويتان، إنها يدا مزارع، لديهم حديقة كبيرة مليئة بالأزهار الجميلة الملونة والمتنوعة، لديهم تشكيلة رائعة ممزوجة، هذا ما جعل يداه كبيرتان وقويتان ربما بتأثُّر الملامسة اليومية لصلصال الحديقة التي يضطر للعمل فيها، يعتبرها سعد أهم شيء في المنزل فهي تقريبا ذكرى لوالده ولد محب للعلم ولعائلته أخلاق عالية" الرواية ص09. والتَّركيز على شخصية "سعد" في افتتاحية الرواية، أمر يكتسي أهمية كبيرة، باعتباره الشخصية الرئيسة فيها، وحوله تدور وتتمركز أحداثها، والأكيد أنَّ القارئ سيتعاطف مع "سعد" كيف لا والروائي قد منحه مثل هذه الأوصاف.
تبدأ الأحداث في شكل صِّراع قد يبدو للوهلة الأولى عاديا وبريئا، ولكن سنكتشف لاحقا أنَّه العمود الفقري الذي يمكن أن نردَّ له كلَّ الأحداث اللاحقة، يتمثَّل الصِّراع في تنافس حاد غير مصرَّح به بين "سعد" و"تينا" في من يظفر بالمرتبة الأولى للدراسة بكلية الطب، ولأسباب يصرح بها لاحقا، فقد "حافظ على المركز الثَّاني في الصفِّ ولم يبالِ، وأتت عدَّة مرات لتستفزه وتُقلِّل من شأنه، أمَّا سعد فكان يتجاهلها، طبعا، لأنَّه لا يستطيع التكلُّم مع أحد أدنى منه علما، وأدنى منه خلقا." الرواية ص10 قد كان التَّحدي بينهما في أوجِّه، فصاحب المرتبة الأولى سيصبح جرَّاحا، واجتازا الاثنين الامتحان، فنجحت "تينا" وفشل "سعد". إنَّ نجاحها لم يكن عن جدارة واستحقاق، بل حصَّلت تلك المرتبة بالاحتيال فقد منحت كبير الموظَّفين مبلغا ماليا ضخما، وعاقبة هذا النجاح المزور يعود إليه الروائي بشكل بارع ومناسب في الصفحات الأخير من عمله عندما يروي لنا قصة فشل "تينا" في حياتها العملية كطبيبة.
إنَّ حدث فشل "سعد" في اجتياز امتحان الجراحة كان منعطفا حقيقا لسيرورة الأحداث وتطورها، فقد شكَّل ذلك أكبر عائق نفسي يواجهه، وهو ما سيرمي به لاحقا في بؤرة لن يستطيع الخلاص منها، ولعل أهون عواقب فشله ذاك، محاولة والدته "فلَّة" البحث عن عمل تساعد به ابنها الوحيد، وهي الفكرة التي عارضها "سعد" بشدَّة، بالإضافة إلى محاولاته المتكررة لإعادة اجتياز الامتحان العام المقبل والتي باءت كلها بالفشل، بعد تعنت ورفض مدير الجامعة.
انطلاقا من الحدث المفصلي في الرواية (الفشل في الامتحان) يعمد الروائي إلى فن الاستطراد بحثا عن سيرورة لأحداث الرواية، والاستطراد "وهو أن يأخذ المتكلم في معنى، فبينا يمرُّ فيه يأخذ في معنى آخرَ، وقد جعل الأول سببًا إليه."
[2] وإن كان مذهب الاستطراد منبوذا في الكثير من المواضع إلا أنَّ "مصطفى رباح" تمكَّن من الجمع بين الخيوط المبعثرة التي تُلميها عليه طبيعة الأحداث في تسلسل ماتع ومائز، فنجده يربط الحدث الثالث بالثاني والثاني بالأول وهكذا وصولا إلى لحظة فشله في اجتياز امتحان الجراحة. فرفضه لفكرة عمل والدته المريضة أصلا، دفعته للبحث عن عمل مناسب، وفي سياق بحثه، تعود به الذاكرة أدراجها إلى السيد "ليت" صاحب أوَّل عمله له، فيذكُر قصَّته التي انتهت بقتل "ليث" لأخيه الاستغلالي المستبد، وهي حوادث تتشابه والكثير من القصص الواقعية لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
يُعتبر عمل "سعد" في مقهى السيد "جميل" منعطفا آخر لأحداث الرواية، ولحياة "سعد" فمن طالب مجتهد مثابر كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح من أمهر الأطباء في الجراحة إلى نادل بمقهى، أضف إلى ذلك استغلال "جميل" له ولطيبته وتفانيه في عمله، ثم سرعان ما تتسارع وتيرة الأحداث، عندما يلتحق بالمقهى مجموعة من الشباب، الذي خططوا من البداية لسرقة المقهى، ما أدى بهم لاحقا إلى قتل السيد "جميل" وإلصاق التهمة بـ "سعد".
تتوقَّف آلية سرد الأحدث قليلا عندما يعمد الرَّاوي لنقل بعض التَّفاصيل المتعلِّقة به على لسان "سعد" من ذلك ما جاء في الرِّواية: "سأبتعد عنك، لن أدع الكراهية تسود بيننا أكر، ولكنني حين أعود إلى فراشي في نهاية كل يوم لا أذكر سواك مع أنني أتذكر سلبيات صداقتنا، أنا الذي جاهدت طوال حياتي أن أتجاهلك لأنني تخطيت كل هذا وذاك وتحملت كل نوباتي معك، أنا ممن لك أو ليس الابتعاد عن شخص خوفا من خسارته هو بذاته الحب؟ توقفت الحياة عن إذهالي منذ أن غاب عن حياتي صديقي، كل شيء بات في عيني مكررا واعتياديا، أريد أن أستعيد نظرتي الأولى لكل الأشياء التي أدهشتني، كانت فريدة من نوعها فيها شيء من الجدية وشيء من الفكاهة، كنت أقي أجمل الأوقات معه..." الرواية ص24.
تتفاقم الأحداث وتزداد تعقيدا وبؤسا بعد تواطئ "سعد" مع بقية العمال بالمقهى وسرقة المال، ولكونها سرقة مبررة من وجهة نظر "سعد" يتعاطف القارئ معه، ويقف كثيرا على حدث السرقة هذا، متأملا تارة ومقارنا بما يحدث في محيطه تارة أخرى، فالسجون مملوءة بالكثيرين ممن دفعتهم ظروف الحياة وقساوتها لارتكاب جرم السرقة، وهنا نلمح تطورا لشخصية "سعد" وهي تطوُرات فرضتها بنية الحدث وليست وليدة الخيال والعشوائية، ويظهر ذلك في تصرفاته مع والدته بدءا من لحظة التي صرخ فيها في وجهها.
يحاول الروائي أن يجعل منحى الأحداث أكثر توازنا، وقبل أن يفرَّ منه الخيط السَّردي، فيُقحم شخصية "زين" في مسرح الأحداث، الذي اتَّفق مع الأم على معرفة مصدر الأموال التي ظهرت عند "سعد" فجأة، والتي ادَّعى أنَّ السيِّد "جميل" قد أقرضها إيَّاها، لكن لا أثر للسيد "جميل"، لا في المقهى ولا البيت وفوجئ بأنَّه لم يظهر منذ مدَّة، ليحيلنا الرِّوائي عبر تقنية الاستطراد إلى قصَّة أخرى هي قصَّة "جميل" وصديقه.
تتمظهر الأحداث في رواية "الألوان الصَّارخة" بأسلوب مميَّز، ما يُظهر تمكُّن "مصطفى رباح" من تقنيات السَّرد وآلياته، فبعد أن يمضي قدما في سرد محاولات "سعد" في إقناع والدته بإجراء العملية، والشكوك التي شابت هذه المحاولات وتحريها مع "زين" يعود بنا إلى تفاصيل قتل "جميل"، ويُرجع الدَّافع إلى مشاركته في هذه الجريمة إلى الفقر، يقول: "ولكنَّ العامل الوحيد الذي جعلني هكذا هو الفقر " الرواية ص53. تزداد الأحداث تعقيدا عندما تعلم الأم بجريمة ابنها عن طريق "زين" ما اضطرَّها إلى مغادرة البيت لأيام وتعود بعد ذلك وتواجهه بالحقائق فيعترف لها بكل شيء، وبعد صراع نفسي مرير تُقرِّر الأم "فلة" إبلاغ الشرطة، وفي ذلك دلالات مباشرة على تمسُّكها بقيمها وتشبُّثها بأخلاقها ورفضها التام للتداوي بأموال الحرام.
يُقللُ الرِّوائي "مصطفى رباح" من وتيرة السَّرد قليلا، فيدخل "سعد" السِّجن ويمكث به ليومين، ليستطرد مرة أخرى مع قصَّة "عمر" زميله في الزنزانة، يخرج ليجد أمَّه مريضة ويعثر على رسائل قديمة من والده، وهذه الرَّسائل ستفتح باب الأحداث على كل الاحتمالات، فكل شيء محتمل، مما يجعل القارئ يتهيأ للاصطدام بأي حدث في أي لحظة، فيعود بنا للحديث عن "آية" أخته من الرضاعة، بعد أن أصيبت أمه بسكتة قلبية حادة، لتتوفى بعدها. وبذلك تكون الأحدث قد بلغت ذروتها.
بوفاة الوالدة "فلة" نلمح شخصية جديدة لـ"سعد"، "سعد" الذي أبدى رغبة كبيرة في العمل في المقهى الذي أوصى به "جميل" إليه، ومع أخته "آية" يكتشفان رسالة من والدهما موجهة إلى "آية" يشير فيها إلى احتمالية عودته إليهما، مما يثير فيهما الشك والريبة والحيرة، وما إن يشعر "سعد" و"آية" أن الحياة قد استقامت لهما حت يُعتقل "سعد" بتهمة السَّرقة والقتل، ليظهر والدهما "نزيم" من جديد وتبدأ رحلة "آية" في البحث عنه، ليتَّضح أن اختفائه كان في مصلحة العائلة، وتتضح الكثير من الحقائق منها: أنَّ "آية" ابنته الحقيقية وليست متبنَّاة، وهكذا يبدأ الراوي ومن وراءه الروائي في فك الكثير من العقد بأسلوب مميَّز وسلس ليصل بـ"سعد" وأخته ووالدهما إلى برِّ الأمان.
02- الشَّخصية ليست كائنا ورقيا فحسب...:
تكتسي الشَّخصية أهمية كبيرة في بنية النَّص الرِّوائي، ويتعدَّى وصفها مجرَّد كائن ورقي يحقُّ للروائي تشكيله كيفما يشاء، فالأدوار الوظيفية المنوطة بها كثيرة ومتعددة، لعلَّ أبرزها النَّظر إليها بوصفها وسيلة في يد الروائي للتَّعبير عن رؤاه وأفكاره وفلسفته الخاصة، فيستطيع التَّخفي وراءها ليُنطقها بما يُريدُ خاصة ما تعلَّق بالإيديولوجي وتوجُّهه السِّياسي والفكري، كما تُعدُّ ركنا أساسيا في السَّرد، فكل ما يتَّصل به من حدث ومكان وزمان يتَّصل بالشَّخصية مباشرة، أضف إلى ذلك كونها المخوَّلة بتخطيط الحدث وتنفيذه، وتنظيم الأفعال، والمسؤولة عن سيرورة الخطاب الرِّوائي.
ونحن نطالع رواية "الألوان الصَّارخة" نتعرَّف على العديد من الشَّخصيات، منها ما هو رئيس لا تنهض بنية الرواية إلا به، كـ"سعد" و"زين" و"نادر" وآية" و"نزيم" ومنها ما هو ثانوي يظهر لفترة ثم يتوارى، ولا يستدعيه الرَّاوي إلا وقت الضَّرورة، مثل: "عمر" و"جميل" و"ليلى" و"تينا" و"حسان" و"نبيل" وغيرها.
من بين هذه الشَّخصيات التي استطاع "مصطفى رباح" أن يُظهرها إلى العلن بأسلوب روائي دقيق ورزين، قلَّما نعثر عليه لدى الروائيين الشَّباب تبرز الشَّخصيات الآتية:
2-1- سعد: وهي شخصية رئيسة في الرواية، ارتأى "مصطفى رباح" أن يفتتح بها سطوره الأولى من الرواية، يقول عنها: "سعد ولد طيب الذِّكر، لطيف المحيا، معتدل القامة، قوي البنية، أبيض البشرة، عيناه الواسعتان السوداوتان فيها بريق من الأمل نوعا ما، ذو شعر أسود صقيل، عما قريب سيُنهي دراسته في الكلية، وله من العمر واحدا وعشرين سنة، مع أن مظهره يوحي للوهلة الأولى بأنه أصغر سنا ممَّا يبدو عليه، يداه كبيرتان وقويتان، إنها يدا مزارع"... الرواية ص09. مثل هذه الأوصاف التي يُفصحُ عنها الراوي في مدخل الرواية تجعل من "سعد" شخصية واقعية ماثلة أمام المتلقي، فتخرج من كونها كائنا ورقيا إلى خارج النَّص، فتظهر للقارئ جليَّة واضحة المعالم والملامح، ومعها يمضي ليكتشف عوالم النَّص، ولا يكتفي برصد ملامحها الفيزيولوجية بل يقدم لنا جانبا سيكولوجيا عنها "وإن يكن عصبيا صامتا من سلالة القلقين منذ الولادة فهو قلق على الدوام من انقضاء الوقت، قليل الصداقات..." الرواية ص09. وشخصية "سعد" شخصية نامية متطورة، متأثرة بما يحدث حولها، ففشله في اجتياز امتحان الجراحة شكَّل عقدة نفسية لم يستطع تجاوزها بل هوت به في حفرة سحيقة، جعلته يسرق ويدخل السِّجن، كما أنَّ مخالطته لرفقاء السوء في المقهى جعلت مشاعر الطمع وسطوة المال تتسلَّل لنفسه البريئة، على أنَّ صفات "طيب الذكر/لطيف المحيا..." هي من رجَّحت كفة الخير في شخصيته ليعود إلى أخطائه مصلحا لها الواحد تلو الآخر. كما لا نكاد نعثر على حدث رئيس كان أو ثانوي إلا ولـ"سعد" دور فيه، ما يعني أنَّه شخصية ذات طابع وظيفي سواء اضطلع بدور سلبي أو إيجابي.
2-2-الأم "فلة": تُعتبر شخصية الأم شخصية رئيسة في رواية "الألوان الصَّارخة" لاعتبارين اثنين، أولهما مشاركتها الوظيفية والفعالة في تطور مسار الأحداث، فهي الحافز والدافع لنجاح ابنها "سعد" في دراسته الجامعية، وهي -أيضا- السبب في ابتعاده عن الجامعة بحثا عن عمل ليجري لها عملية جراحية، وهي نموذج عن الشخصية السَّوِية أو الشخصية القدوة التي رفضت إجراء العملية بأموال مشبوهة، وأيضا هي من بلغت الشرطة عن ابنها "سعد" وهي -أيضا- من احتفظت بالكثير من الأسرار في قلبها ومضت في حياتها قدما ترعى ولديها، أمَّا الاعتبار الثَّاني فيتمثل في كونها المحرك الفعلي لأي فعل يصدر من "سعد" فحبه لها كامن في قلبه، ظاهر، جلي في تصرفاته، واستمر هذا المحرك حتى بعد وفاتها.
2-3- زين: شخصية تمثل نموذجا للشاب الصالح، فهو مدير جمعية خيرية، أدَّى دورا كبيرا في رعاية الأم وابنها، وهو مؤتمن، إنَّه الشَّخصية التي استطاع "مصطفى رباح" إقحامها في بنية الرواية لفكِّ بعض الألغاز كمصدر الأموال التي حصَّلها "سعد"، لقد استعان به الروائي لكي يغطي غياب الأب "نزيم".
2-4- آية: أخت "سعد" من الرضاعة، مغتربة في لندن، يذكرها الراوي في البداية ويمرُّ حتى تعتقد أنَّه نسيها أو تناسها، لكنَّه يستدعيها عندما تقتضي الحاجة، فتظهر لتتولَّى مهمة تحريك الأحداث بعد أن توفيت الأم وسُجن "سعد"، ففي اللحظة التي يشعر فيها القارئ أنَّ وتيرة الأحداث تباطأت وتنحصر الحلول بالنسبة إليه، ويكاد خيط السَّرد يضيع من الراوي تطفو إلى السَّطح شخصية "آية" متولية كل ذلك، فهي من أعادت بعض السعادة إلى حياة أخيها وصديقه "نادر" وهي من حاولت جاهدة إخراج "سعد" من السِّجن، ولها يرجع الفضل في العثور على والديهما "نزيم".
2-5- نزيم: أو شخصية الأب، الذي لا يظهر إلا في اللحظات الحرجة من أحداث الرواية، وقد استطاع "مصطفى رباح" أن يُعيده إلى المشهد قبيل انتهاء الرواية بعد أن طمره في بدايتها، وبأسلوب سلس ودقة متناهية تمكَّن من بعثه من جديد، فعاد بنا من خلاله إلى ما بعد البداية من خلال قصَّة تعارف "نزيم" و"فلة" ليعرج بنا في مشاهد مؤثرة إلى قصَّة اختفائه وسبب عودته.
تبدو شخصيات الرواية في "الألوان الصَّارخة" مرتبطة بالحدث وطبيعته الفنية، باستثناء شخصية "سعد" المحورية، وأغلبها شخصيات متعدِّدة الوظائف، ويمكن في أي لحظة أن تكون صوت الروائي نفسه، كما يبدو واضحا اعتناء الروائي بكل حركة أو فعل يصدر عنها، ما يدل على استيعابه جيدا لمقولة :"لا حبكة بدون شخصية"، من ذلك إلمامه شبه التام بهواجسها وخلفيتها المعرفية والتاريخية والثقافية وبسياقها الاجتماعي.
03- وقفان مع بعض المقاطع السَّردية:
نهدف من وراء هذا العنوان الفرعي لتحليل بعض المقاطع السردية من رواية "الألوان الصَّارخة"، ومعيار انتقائنا لها دون غيرها يرجع إلى لعدَّة أسبابها، أهمها: جمالية التعبير عن الفكرة، فلسفة المعنى، شعرية اللغة، من هذه المقاطع:
3-1-التَّركيز على الأهم بلد المهم: ورد في الرِّواية: "في يوم من الأيام ولد سعد وفي تاريخ لن أكلف نفي عناء ذكره إذ لا يمكن أن يكون له أية أهمية للقارئ" الرواية ص09. ما يشدُّ الانتباه في هذا المقطع إهمال الروائي لتاريخ ميلاد "سعد" فهو يرى أنَّ لا فائدة تُرجى من ذكره، والمهم بالنسبة إليه أنَّه ولدٌ وجاء إلى الدُّنيا، ما يُحيلنا أنَّ الروائي يركز جهوده على الفعل الصَّادر عن الشَّخصية وعلى ما هي عليه الآن، خاصة ما تعلَّق بالشَّخصية الرئيسة، بعيدا عن سياقها التَّاريخي، فما يهم القارئ هو ما يقوم به "سعد" على أنَّه يعود بعدها ليخبرنا أنَّه يبلغ من العمر واحدا وعشرين سنة لدى التحاقه بالجامعة، وهي معلومة لا تشي بأي معلومة يمكن أن تساعد على تحديد تاريخ ميلاده الذي قد يشغل بال القارئ، كما يذكر لاحقا -وهو بصدد عرض رسائل والده إليه- تاريخ الرسالة التي تعود إلى 16/10/1992م فيتوهم القارئ أن بإمكانه تحديد تاريخ الميلاد، ولكنَّ يفشل عندما لا يعثر على عمر "سعد" عندما كتب له والده الرسالة. لقد تمكَّن "مصطفى رباح" أن يتلاعب بالقارئ جيدا وبمهارة من خلال إعطائه هذه الإيحاءات دافعا له بالبحث والحساب، ليكتشف القارئ استحالة ذلك ويقتنع بما ذهب إليه من أنَّ ذكر التاريخ فعلا غير مهم.
والأمر ذاته تقريبا ينطبق على المقطع الآتي: "وقد فكر سعد بإنفاق ذلك القدر من المال لن أكلف نفسي عناء ذكره،" الرواية ص22. فالأرقام غير مهمة لـ"مصطفى رباح" فهمه أكبر من أن يلتفت إليها، وما كان ذلك أن يتأتى له لولا إدراكه الجيد أنَّها لن تؤثر على مجرى الأحداث.
3-2- الشُّعور كأنَّك تعيشه: ورد في الرواية :"عند مناداة السيدة "إلينا" لاحظ سعد ما لا تراه الأعين استسلم للحياة، صوت يخرخ فيه من داخل رأسه، شعر بالحياة تضربه مرة تلو الأخرى، صرخات عصافير ثاقبة ذات صوت غير واثق، اشتعلت نيران قلبه اليوم، أصبح فجأة حقودا، كان سعد يُحس بدمه يصعد حتى صدفيه ويضرب أطراف أذنيه، يا لظلمك أيتها القلوب العزيزة." الرواية ص10. لقد استطاع "مصطفى رباح" أن يُعبر بمهارة قلَّ مثيلها عن مشاعر الأسى والحزن التي تسلَّلت لـ"سعد" لحظة خسارته المفتعلة في امتحان الجراحة، وفازت "إلينا" بواسطة المال والرشوة، فقد تمكَّن بلغة بسيطة ومفردات قليلة أن يعبر عمَّا يحس به القارئ في مثل هكذا مواقف-وما أكثرها- إنَّه شعور لا يمكن للنفس البشرية أن تقاومه وتداريه، فحشد لذلك مفردات دالة من قبيل: تضربه، صرخات، ثاقبة، غير واثق، اشتعلت، نيران، حقودا... وهي مفردات تستطيع أن تصيب القارئ بعدوى حمولاتها السلبية.
3-3- بعضٌ من السريالية: نعثر في رواية "الألوان الصَّارخة" على مقاطع سردية مدهشة حدَّ الانبهار، يطرقها الرِّوائي بحوارات داخلية لا مثيل لها، من ذلك: "قلت للشَّمس خبئيني قد أتى القمر وأتى معه ظلامه الدَّامس ووحشته، قالت الشمس ببرودة:
- إلى متى، إلى متى ستكون خائفا هكذا من أي شيء كان؟
ما دمت أنت بجانبي لن يصيبني أذى، أو أي مكروه كان، دائما ما أسمع في الليل خطى قريبة ويفر الباب من الغرفة دائما كالسحب المغتربة، دائما ما أجدك يا شمسي، مرت على بالي أقمار الطفولة خلف أسوارها سجن المواويل الطويل، ربيت عصافيري ونحلي ورأيت التاريخ بمرآتي، ليت مرآتي كانت من حجر لكي لا تنكر مرة كآخر مرة، سأعد خسارتي. لا،لا أريد خبئيني يا شمسي بوحدتي، خذي مني المجد والسهر، فأعود طفلا رضيعا، لو أحصيت عدد النجوم التي كدست على إطار صورتنا الفاتنة التي كانت على حافة جدار المنزل، لكن أسبوع من الكبرياء، يوما ما لا تلوميني حين أستسلم للعالم كبيرا كان أم صغيرا، أعيش في الكهف وحيدا لا أبالي حين تأتي العواصف والأمطار، أتحمل كما يتحمل الراعي كذبة أساطير الأولين، أتحمل كما يتحمل هؤلاء همهم.
- لا..لا أستطيع أن أخبئك سأغيب، سألقي عليك السلام غدا عند بزوغ الفجر، لا تدق بابي مرة أخرى، فأنا نائمة على صوت خرير النهر في اشتعال اللهب سأصطاد سحابة عابرة عندما تسقط في حلقي ذبابة وسأنام عليها، سأدرب قلبي على النسيان كي يسع الورد والشوك، لا أحد يتغيَّر فجأة ويستيقظ من النقيض للنقيض." الرواية ص21.
إنَّنا هنا إزاء مقطع سريالي يتراوح بين الهذيان والواقع، فـ"مصطفى رباح" يوظِّف لغة شفَّافة للتَّعبير عن اللاشعور واللاوعي، إنَّه يحاول قنص لحظات فارة من الخيال والأحلام والوهم حتَّى، بعيدا عن أي تدخلٍ للعقل والمنطق، فيُبحرُ بنا في حوار هادئ وجميل بين "سعد" و"الشَّمس" فهو يرى فيها المنقذ بعد أن تأزمت الأمور من حوله وتعقَّدت، إنَّها لغة أشبه ما تكون بـ"الفوضى المهذبة" كما يسِّميها "حبيب مونسي" فنحن أمام "لغة سردية جذابة، آسرة، إلا أنها لا تروي شيئا.. أو أنها تروي أشياء عدَّة في آن واحد. فالخيط الذي كنا نتابعه منذ حين انفرط من بين أيدينا، وغدونا في وسط المتاهة السَّردية نُتابع صدى الكلمات الجميلة التي تُطل علينا دون أن تمكننا من دلالتها التي نعرفها فيها منذ البدء."
[3] وتبدو اللغة الشعرية واضحة في كل أركان المقطع وكأنَّنا أمام قصيدة نثر متكاملة المعالم.
3-4- فلسفة "مصطفى رباح" الخاصة: نعثر -أيضا- في رواية الألوان الصَّارخة على مقاطع سردية تضجُّ بالفلسفة، فلسفة خاصة بالروائي، في نظرته للحياة، وخاصة بالراوي في نظرته لمجريات الأحداث، من ذلك المقطع الآتي: "ما العمل حين تقهر، حين تستنزف ضحكاتك وتتهافت الخيبات عليك، حين لا تستطيع البكاء ولا الشكوى وتصبح الفضفضة بلا فائدة، ما العمل أعتقد أن الشيء الأكبر رعبا في هذا العالم ليس فيلم رعب أو ما شابه وإنما أنك لا تعلم أبدا ما هي النوايا الحقيقية للأشخاص اتجاهك، هنيئا لمن لا يتوقع، فإن ظنه لن يخيب أبدا، أنا كنت كذلك إلى أن دخلتم أنتم في حياتي فغيرتم كل شيء في، روح بدون شخصية أصبحت هكذا لقد فقدت كل شيء، فقدت صديقي المفضل الذي كان يثق بي، فقدت حبا وثقة وكرامة وعاطفة وحياة أو بمعنى آخر لقد فقدت نفسي، ماتت الحياة في روحي وجسدي حيث لا أدري ماذا حل بي؟ لقد دفنت براءتي في مقبرة النسيان وأصبحت شخصا ناضجا إلى ذلك الحد الممل الذي يثير الشفقة لم أعقد معكم الصفقة، لقد قلتم إننا سنأخذ المال ونغيب عن الأنظار وأنا وافقت على ذلك..." الرواية ص48. ربما قد يبدو المقطع غير متماسك نوعا ما، ولكن بالعودة إلى كون النص باكورة أعمال "مصطفى رباح" وعمره الذي لم يتجاوز 15 سنة، فإنَّه يغدو مع هذه الحقائق فعلا مقطعا فلسفيا بامتياز، حاول فيه "مصطفى رباح" أن يقارب شعور الحزن والقهر من خلال شخصية "سعد" فأطلق العنان لأفكاره وراح يفسر شعور الخيبة، وأرجعها إلى "فعل النوايا" ففي نظره يكفي أن تنوي الخيانة لتصبح خائنا، ويكفي أن تنوي الظلم لتصبح ظالما، سواءً أنجز الفعلين أم لا، فالنية وحدها تكفي.
لقد برهن "مصطفى رباح" أنَّ بإمكان الروائي أن يبتكر فلسفة خاصة به بعيدة عن رؤى وتنظيرات الفلاسفة الكبار، فكما للروائي الحق في ابتكار شخصيات من العدم، والتصرف في مجريات الأحداث كما يشاء، فله الحق أيضا أن ينحو بنفسه منحا خاصا في الفلسفة والتأويل، ولحظتها لا يحتاج الروائي إلى مفاهيم الفلسفة وآلياتها ونظرياتها... بقدر ما يحتاج إلى مهارات العقل التحليلي الواعي القادر على ربط الحدث بالشعور النفسي بعيدا عن النَّمطية المألوفة، كما يتطلب الأمر الاستثمار في عنصر الخيال بتوظيف لغة ينتشلها من عوالم السحر والوهم.
وبنفس الآلية يحاول "مصطفى رباح" طرق موضوع القضاء والقدر، ولكن وفق رؤيته الشَّخصية، يقول: "والآن ماذا؟ أتساءل هل القدر يؤذيني أم يعاقبني؟ عندما يخلق الظروف التي تجعلني لا أستطيع السعي وراء رغباتي، عندما يجعلني أحب شخصا لا أستطيع امتلاكه، عندما يجعل حظي عاثرا هكذا، عندما يزرع في داخلي أمنيات لن تتحقق مع الزمن عندما يضعني في مكان لا أنتمي إليه فالأذى شيء والعقاب شيء آخر." الرواية ص54. إنَّها قضيَّة أثارها الرعيل الأول من المتكلمين والفلاسفة، على أنَّ "مصطفى رباح" لا يفصح عن رأيه في القضية بشكل مباشر، بل يترك للقارئ استنتاج ذلك عبر تقديم مجموعة من التصورات.
3-5- للعدمية والوجودية أثر في "الألوان الصَّارخة: نصادف بعض المقاطع السَّردية التي يغلب عليها طابع العدمية والوجودية، يقول: "أتعلم يا صديقي! أصبحت عندما أنظر في المرآة أرى شخصا ما يحدثني وأشعر بشيء ما يجعلني أختنق من الداخل وكأنني سأموت ولن أستيقظ في الصباح وأحس أيضا بأنني لا أستطيع العيش في هذا المنزل وأني لا أستحق شيئا لا أهلي ولا أحد من البشر وأن الأيام قد تمر وتجعلني أختنق وأفكر بالأشياء، يستحيل أن تحصل على راحة وإن كنت صاحيا، أشرد كثيرا وعندما يحادثني أحد ما أسمع منه جيدا ولكن أنظر إليه باستغراب وكأن أول مرة ألتقي به، هل أجد تفسيرا لما حصل لي، أم أن علامات الجنون قد بدأت تظهر، أصبحت لا أعرف ماذا أفعل أصبحت مثل الحديد أو قلبي مثل الحديد." الرواية ص64. يشعر القارئ أمام هذا المقطع السردي بما يشعر به "سعد" فالحياة لا معنى لها، ولا جدوى من التَّمسك بها، ما يجعلنا مباشرة أمام العدمية، بوصفها مذهبا يؤمن بأنَّ كافة القيم والأخلاق ليس لها أي أساس أو قاعدة يمكن الرجوع إليها أو القياس على أساسها، إنَّ هذه اللحظات التي عبر بها الروائي عن حالة "سعد" تمثل قمَّة التشاؤم، فـ"سعد" أصبح لا يطيق حتَّى ذاته وعجز عن إيجاد تفسير لما يحصل له، فأسلم نفسه لتيار العدمية والوجودية.
3-6- شعرية اللغة:
لا يكفُّ "مصطفى رباح" عن إبهار القارئ لـ"الألوان الصَّارخة" فبعد أنَّ حلق به في عوالم الفلسفة والتَّأمل، يُحلق به مرَّة أخرى في عوالم الشِّعر والجمال، فنجده يوظف لغة في العديد من المقاطع السردية أقل ما يُقال أنها شعرية، وكأنَّنا أما قصائد نثر متفرقة في متن الرواية، ينثرها هنا وهناك، فلا ندرك -حقيقة- هل هو يسرد أم ينظم أبياتا من الشعر، دون يؤثر ذلك على تنامي السرد وتطور إيقاعه، لقد استطاع الروائي أن يخلق مساحة لغوية جميلة يُريح بها "سعد" ويستريح معه القارئ، من ذلك: ""أعتقد أحيانا أن كل شيء في الحياة جميل، السماء والغيوم والطيور والضفادع والزهور وحتى المخلوقات الفضائية الوهمية وحتى الصخور، لكن الإنسان فقط هو الشيء الوحيد في هذا العالم القذر والقبيح." الرواية ص67. وفي مقطع آخر: "على أمي بكيت بكاء ثكلى، فمالي غير دمعاتي شهود، كزقوم الجحيم دموعي نار، دموع خدشت فيها الخدود، أيا عطرا يفوح بثوب عاشق تشيع كالفراشة والورود ...لقد ذهب الذي سكن الديار، وبات اليوم في جحر اللحود، يا أمي تبا لها فلتسقط السرات" الرواية ص73. وفي مقطع آخر: "أختنق بمجرد رحيلها وهي طعامي فإن غابت أصابتني مجاعة وهي الماء إذا غابت أبتلى بالجفاف في حلقي." الرواية ص91. إذن، نحن فعلا أمام مقاطع تنضح بالشِّعر، بها حمولة عاطفية زائدة وجمالية متفردة.
4- الرَّاوي في "الألوان الصَّارخة":
ينظر إلى الراوي على أنَّه الواسطة بين القارئ والروائي، فهو صوت يتحدَّث ويسرد وعينٌ ترى وتصف، ونعثر في رواية "الألوان الصَّارخة" على ثلاثة رواة يتقاسمون السَّرد ويتناوبونه بالتَّتابع، هم: نادر، سعد، آية. على أنَّ "نادر" هو الراوي الأساسي في الرواية، فهو الذي يفتتحها وهو من ينهيها، والملاحظ أنَّ الراوي رغم تعدده فمعرفته تتساوى وشخوص الرواية، فلا تزيد معرفته عن معرفتهم، وهو ما يُعرف بـ"الرؤية المصاحبة".
ما يبرز تمكُّن "مصطفى رباح" من آليات الكتابة الرواية أن جعل من الراوي شخصية فاعلة في البنية السردية للرواية، وأخفاه في بدايتها ليظهره لاحقا، وأول ظهور له كان لحظة بدء "سعد" في العمل في مقهى السيد "جميل" يقول: "كنت أنا وسعد ذاهبان من الطريق نفسه أنا متجها إلى الجامعة الموجودة في ذلك الحي وكان أول يوم لي فيها وهو إلى المقهى ليعمل" الرواية ص20 أيضا في قوله: "وكان قراري صائبا عندما اخترت الأدب العربي، منذ نعومة أظافري وأنا أعشق الأدب، تماما كما ينبت العشب بين مفاصل الصخر، فأنا ترعرعت بين مفاصل الأدب وكنت أظن أن الجامعة تهتم بالأدب العربي..." الرواية ص20. يختفي الراوي (نادر) ليتولى مهمة السَّرد "سعد" أو "آية" حسب مقتضيات السَّرد ذاته، على أنَّ المقطع الآتي هو من يبرز أنَّ الراوي الأساسي هو "نادر" صديق "سعد" يقول: "لقد عانقته بشدة، لقد اشتقت له أكثر من أي وقت مضى، وقلت له بكل حرة
وتأسف عظم الله أجرك يا صديقي." الرواية ص96. يبقى في الأخير أن نشير إلى أنَّه سرد ذاتي، يتَّبعُ فيه القارئ أحداث الرواية أو السرد من زاوية نظر الراوي، ووجهة نظره ومشاعره وعواطفه.
5- رواية الألوان الصارخة" منبع للأمثال والحكم:
لعلَّ توظيف "مصطفى رابحي" لبعض الأمثال والحكم هو أكثر ما يشدُّ انتباه القارئ -طبعا بالعودة إلى سنِّ الروائي- ما يحيلنا إلى سعة اطِّلاعه ومدى الخبرة التي اكتسبها ونهلها من الكتب وقراءاته، وهي أمثال وحكم تتسق وسياقها الروائي، فتأتي معبرة عن شعور الشخصية النَّفسي وحالتها الاجتماعية، على أنَّ الجميل في هذا الباب، أنَّ هناك أمثالا نلمس فيها الابتكار، بمعنى أنَّ الروائي "مصطفى رباح" هو من ابتكر هذه المعاني السامية التي حاول صياغتها لغويا، وقد نجح في ذلك كثيرا، نذكر منها: "سارق البط يفضح نفسه بنفسه" الرواية ص10. "الصديق وقت الضيق" الرواية ص18. "من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئا فسوف يضطر غدا إلى شراء الأسف بأغلى ثمن" الرواية ص18. "أخبرني من هو صديقك، أخبرك من أنت" الرواية ص30. "عملت من الحبة قبة" الرواية ص42. "إن الجبان يموت ألف مرة لكن الشجاع لا يموت إلا مرة واحدة" الرواية ص50. "بغيت تكحلها عميتها" الرواية ص54. أمَّا تلك التي حاول ابتكارها وصياغتها وفق تمكنه من آليات التعبير نذكر: "الصديق المزيف كلما أعطاك سلب منك ما هو أغلى" الرواية ص21. "لا أحد يتغير فجأة ويستيقظ من النقيض للنقيض" الرواية ص21. "جرب الدنيا وإن لم تستطع جرب ما وراء ستارها" الرواية ص23.
6- التداخل الأجناسي في رواية "الألوان الصَّارخة":

تتداخل بعض الأجناس الأدبية في رواية "الألوان الصَّارخة" دون أن يطغى جنس على آخر، وهو ما يبينُ إدراك ومتابعة "مصطفى رباح" لمستجدات الساحة الروائية، فالتداخل الأجناسي في الرواية المعاصرة يُعدُ من أهم ملامح التجريب الروائي، فـ"مصطفى رباح" أدرك جيدا أنَّ الأدب في عمومه ما هو إلا ظاهرة إنسانية قابلة للتأثر بعوامل داخلية وخارجية، وأن الإبداع الروائي المعاصر لا يرى ضرًا في كسر نمطية الكتابة الروائية السائدة، فنجده يدسُّ قصة قصيرة لجبران خليل جبران دون أن يؤثر ذلك على بنية الرواية أو تعيينها الأجناسي، يقول: "بعد إلحاحه لي، قررت أن أحكي له حكاية ولم أعرف ما الذي سأقرأه له فأنا لدي الكثير من القصص وجاءت في بالي قصة البنفسجة الطموح لجبران خليل جبران." الرواية ص34. وبالفعل ينقل لنا النَّص الكامل للقصة، والروائي بذلك يمنح القارئ فسحة خارج "الألوان الصاخبة" أملا منه أن تدفع القصَّة عنه بعض الملل والركود، ثم هناك قصة الثعلب مع الدجاجة، الرواية ص38. كل هذا بأسلوب جدُّ مميز لا تشعر معه إطلاقا أنَّك خرجت من عوالم رواية "الألوان الصَّاخبة" وبعيد عن القصة هناك تداخل من نوع آخر، يظهر في تداخل الرواية مع فن الرِّسالة من خلال رسائل الأب "نزيم" لابنه "سعد" و"آية" وكذلك رسالة السيد "جميل" إلى "سعد" الرواية ص45 + ص80.
في الأخير، تجدر بي الإشارة إلى أنَّ هذه القراءة قراءة سريعة لرواية "الألوان الصاخبة" للروائي المبدع "مصطفى رباح"، وما جعل منها سريعة إعجابي الكبير بها أسلوبا وسردا ولغة، وهو -أيضا- ما دفعني لسكب انطباعي الأولي عنها في هذه الصَّفحات، تقديرا لجهده الواضح، وتثمينا للنص في حد ذاته، وتحفيزا له على المضي قدما في حقل الكتابة الخصب، خاصة مع امتلاكه لمقومات الكتابة الفنية، وأُحُب أن أنوِّه بتمكنه من قواعد اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة وإملاءً... هي رواية غُصت عبرها في عوالم متخيلة ولكنها الأكثر واقعية في الحقيقة من الواقع نفسه، تمثلت فيها "سعدا" في الكثير ممن أعرفهم وفي نفسي، عشت معه لحظات بؤسه وشقائه، وعاينت أحلامه عن كثب، وودت لو أمد له يد المساعدة في أكثر من موقف.


[1]- مصطفى رباح، الألوان الصَّاخبة، دار المثقف، دار ببلومانيا مصر للنشر والتوزيع، ط01، 2018م.
[2]- الصناعتين؛ لأبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)، تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: المكتبة العصرية - بيروت، د ط، 1419 ه، ص 382.
[3]- حبيب مونسي، من لغة الهذيان إلى هذيان اللغة، موقع ديوان العرب: ديوان العرب - منبر حر للثقافة والفكر والأدب اطلع عليه يوم: 01/04/2020م، على الساعة: 15:32.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى