قرش بن سالم - لعنة كأس

من الصعب أن يعرف متى تم ذلك،أن يسترجع الشريط ويستنطق الأحداث فتلك هي المتاهة،أن يستمر في التغاضي واللامبالاة والقفز فوق خيط رقيق من الأمل لنسيان الألم فتلك معاناة مضاعفة وجب تقاسمها على ما في ذلك من تحامل…قد تكون الصدفة وقد تكون الألفة وقد يكون الفراغ وقد يكون الانتقام….المهم أن ما تم كان لقاء بل هدية بل لحظة حرية…مسترجعا كل ذلك في رحلته معها،سعيدا او فرحا وهو يستحضر خلواته معها

في استعدادهما للخروج بعد منتصف تلك الليلة بغية السهر اثر قرار مفاجئ جاء منها بعد فكرة عابرة أيقظت فضولها وعكست مزاجيتها المتقلبة…استوجب منه الموقف مجاراتها في لحظة تلاقي قد لا تتكرر وعلى عجالة طلب منها وهو ينظر للمائدة ترتيب تلك الطاولة وما حوته من مخلفات عشاء متنوع،طلب التقطه سمعها و سارعت إلى ترجمته من خلال تناولها للصحون المتسخة والأطعمة المتناثرة… و في حركة متسارعة تعكس سرورا دفينا بعث أحاسيس لديها لم تستطع تمييزها فهي لم تعد تعرف حقيقة شعورها تجاهه و هو ما جرها نحو سرحان تركها تتناقل في حركاتها وتلهو بأوان مبعثرة مستسلمة لخيالات تركتها تسبح في فضاءات بدت لها في نهاياتها مفرحة..و في لحظة فلت من بين يديها كأس احدث سقوطه صوتا أفزعه وأثار فيه رعبا كامنا مما لفت انتباهها…

أثار فيه السقوط حيرة غريبة شابها نوع من الخوف ذاك أنه سرح بخياله بعيدا أثناء انشغالها تاركا لها الوقت لجمع بقايا الزجاج المتناثر ومطلقا لمخيلته العنان لكي تسبح باحثة عن لحظات يستمتع فيها بوجودها معه على الرغم من فزعه.

نهض مسرعا يلملم معها بقايا الزجاج المتناثر خشية إصابتها،وهربا من هواجس طاردته بدت أمامه تلك اللحظات التي أعقبت ذاك السكون وكأنها دهرمتثاقلا بسيره طول الغرفة بحثا عن حقيبته محاولا الابتعاد عن دوامة هواجسه وملغيا استشعارات لطالما صدقُت عندما تنتابه تلك الأفكار والوساوس فتدخله في نفق ثالوث القلق والخوف و التشاؤم.

مضطرا للخروج من ذلك الثالوث و لإبعاد النحس اخذ حماما باردا و لف نفسه على عجل لتجفيف جسمه الذي صار أكثر استجابة و ليونة متأثرا بمفعول تساقط المياه الكثيف على جسمه و سماع صوت الماء الذي ابعد عنه تلك التهيؤات وجعلته و هو يختلس النظر لبقايا الكأس المتناثرة يشعر وكأن شيئا ما زال بتحطم تلك الكأس..

معتقدة أنها أنهت كل أشغالها…و استعدادا للحظة الخروج رجعت لترتيب نفسها بإلقاء نظرة على عجل في المرآة متممة أمامه استكمال لباسها في أناقة مبهرة منتقية له كل الثياب بالألوان المختلفة و المتعددة وعلى غير العادة اصطدمت الأذواق وخضعت لرغبته منهية أزمة بدت لها وارتدت ما طلب منها.

وهي تمازحه في طريقهما للخروج من الغرفة بغية تلطيف مزاجه الذي بدا أنه تعكر من وقع ما حدث و ذلك بطلب رأيه في تسريحتها؟و مدى إعجابه بعطرها؟ وعلى الرغم من أن إجاباته كانت بإيماءات يبعثها لها من دون حديث إلا أن ذلك لم يمنعها من إبداء إعجابها به وبأناقته بعد أن ارتدى الأسود.

وهما يهمان بمغادرة الغرفة طلب منها المفتاح ليوصد الباب لعله بذلك يغلق على كل هواجس طفت فجأة واحتلت كل خيالاته من لحظة سقوط الكأس… مستعملا المفتاح مرات عديدة لإغلاق باب الغرفة بدون جدوى مما اضطره للاستنجاد بعامل الفندق في مهمة إصلاح العطب إن كان هناك؟…..محاولات عامل الفندق إغلاق باب غرفتهما أعاد شريط سقوط الكأس مرة أخرى أمامه تاركا فيه أحاسيس أحيت فيه أوهام لطالما راودته طيلة حياته باستشعار أخطار محدقة أو تنبؤه بأحداث مؤلمة…نزل مع العامل الذي كانت تبدو عليه علامات التعجب حيال استحالة استعماله مجددا ذلك أن القفل لم يعد يصلح وهو الذي قام بتركيبه منذ فترة ليست ببعيدة… أوهام عاودته وهو يسرع الخطى مستبقا عاملا لم يزل يقدم اعتذاراته أحيانا ويطمئنه أحيانا أخرى بان الأمر سيكون تداركه وهو يحاول بسرعة هبوط الأدراج دون الالتفات إليه..بخطى سريعة أدركها في نهاية الممر قبل خروجهما من الباب الرئيس وهو يتساءل أيكون الموقف له علاقة بسقوط الكأس أم أن الأمر عارض؟

استبدت به مخاوف وراودته أحاسيس متناقضة من أن يكون كل ذلك التيه والضياع وسط تلك الأزقة والشوارع المغلقة بحثا عن مكان مطلا على واجهة بحرية اعتادا الذهاب إليه هو لعنة تلك الكأس المحطمة ..خوف دفعه لإحساس بالقلق خوف بالقلق والشعور بالضيق ، وصوت ارتطامها لايزال عالقا لا يفارقه على الرغم من روعة الجو والهدوء اللذين طبعا تلك الليلة تاركين إياه يسبح وسط خيالات في محاولة للترويح عن نفسه وإبعاد هواجس سكنته كلما تراءت له تلك الأجزاء المتناثرة، تناثر أحس حتى بمكنونات عواطفه تجاهها تتطاير مع تطاير الشظايا، وتتلاشى كتلاشي نشال محترف اصطاد فريسته في السوق مندسا بين الجموع…أكله الزحام تاركا ضحيته مصدوما من هول قيمة المفقود عاجزا في اقتفاء اثر ذاك النشال الذي خاله من غير بني البشر لسرعة نفاذه،نفاذ في أرض متعطشة لارتواء طال…

هواجس وأفكار كثيرة سكنته مصورة له نهاية لعلاقته معها كلما مر أمامه شريط ارتطام الكأس وتحطمه في مشهد متكرر يزيد من قلقه وتوتره ويشعره بقرب ضياعها، انقطع حبل أفكاره بتوقف سيارة أجرة أمامهما وعلى عجل امتطيا المقاعد الخلفية،و بانطلاق السيارة نسي كل ما حدث بمجرد وجودها بجنبه، مطلقا الحرية ليديه في البحث عن يديها و احتواءهما وسط الظلام وليمارس هوايته في ضم يديها الصغيرتين والطريتين ظافرا بتشابك خاله أبديا كل هذا وهي مسترخية بجنبه في المقعد الخلفي للسيارة مطلقة العنان لسلسلة أفكار سكنته وأرقته ولم يعد يستطيع استغفال عقلها الباطن كي يظفر منها بردود تزيل عنه حيرته انه صار مدركا تماما حجم وجودها وتأثيرها على حياته و هما يستمعان إلى برنامج يبث عبر الأثير أصر صاحب سيارة الأجرة المهووس به والذي كان محوره نهاية العلاقات بين المحبين أهي دوافع ذاتية أم موضوعية؟ و مقاومتهما للمصاعب وتغلبهما عليها في سبيل استمرار علاقتهما..

استوقفهما شرطي مستفسرا عن الوجهة التي يقصدانها في هذا الوقت المتأخر ليطلب منهما لاحقا أوراق هويتهما مرتابا في سلوكهما وهما يجلسان للخلف ومن دون أن يعطي أي اهتمام لتفسيرات السائق…حوادث كلها جعلته يجزم أن سقوط الكأس هو لعنة ستطارده في صورة أحداث بعدد شظايا الأجزاء المتناثرة وما إجراءات الشرطي إلا جزءا يسيرا مما هو آت على الرغم من إثبات هويته..

قد يأتي الحب فجأة وفق عبثية استعصت على كل التوقعات،تفسيرها هو ذاك التصاعد المضطرب بين الألم والأمل،بل بين المتخَيل والواقع،لابل هو مزيج من القسوة والعاطفة،وحينها يكون لفرح اللقاء وقع أليم بل لذيذ وقت انهيار تلك العلاقة نحو العشق…

رنين هاتفه تركه يستفيق من لحظات سرحان لذيذة داوم عليها بغية هروبه من واقع بدا له مملا ومتعبا ولم يستطع التأقلم معه منذ ابتعدت عنه صديقته من دون سابق إنذار، متذكرا آخر لحظات لقائهما التي كانت في مجملها للفرح وليس غيره وكيف كانت منزعجة ومضطربة على غير عادتها ولو أنها حاولت إخفاء ذلك عنه إلا انه استغرب لطريقة قضم أظافرها بواسطة أسنانها،أسنانها المتفرقة الذي استوقفه اصطفافهم غير المنسجم وتبعثر شكلهم وهو من أكثر ما يجذبه فيها،أسنان صغيرة في غير تناسق وتزداد جاذبيتهم في اختفائهم تحت شفتيها بمجرد انتهاء ضحكتها بصورة آلية تتكرر العملية لتجعله يتمعن أكثر في مكامن جمال ملكته يرفض البوح بأسراره وهو ما يزيده إصرارا على الغوص أكثر في تفاصيل تعابير تعكس مزاجيتها الصعبة، محاولا استكشاف مفاتيح لشخصية بدت له مرات تلقائية في لحظات فرحها وأحيانا أخرى غامضة ومستعصية، بانكشاف صور قلقها بشكل فاضح عندما استذكر مداعبتها ليديه وملاحظتها لأظافره التي كان يعتقد أن حجمهم طبيعي عكس ما رأت هي، وبحركة مفاجئة منها تناولت إحدى يديه وأطبقت على أحد أصابعه بأسنانها مقتلعة بقايا أظافر بخفة وباحترافية ومن دون أن تتسبب له في أي أذى،أو لربما وجد هو كذلك متعة في طريقة انقضاضها وانتزاعها لهم فترك لها الحربة في امتلاك يديه والعبث ببقايا أظافره قضمهم بتلك الطريقة التي رأى أنها بعثت فيها فرحا عكسه إشعاعا بدا جعله يغتبط بالرغم من قسوتها، من دون معرفة الأسباب لغاية اللحظة بل وضاعفت من غبطته وشاركها فرحها بتقليمها لكل أظافره…

ومن غبطة استرجاع شريط خيالات جميلة إلى فرحة لم يستطع أن يستوعبها، في صبيحة تسارعت فيها وتيرة الفرح عندما ظهر رقمها في الهاتف يطلبه، لقد مر وقت طويل منذ آخر مكالمة دارت بينهما… وأحس ساعتها بالاهانة عندما طلبت منه أن لا يحرجها بمكالماته لأنها لم تعد تستلطفها، و يجدر به أن يبتعد لإحساسها بمشاعر متناقضة تجاهه… متجاهلا كلماتها للحظات استوجبت منه تنشأته أن يصمت..

محدثا نفسه.. لست ادري لم تنتابني لحظات لا أجد فيها ردودا حاضرة لموقف لا يستدعي الصمت، وتجدني أتهرب من كلمات مستبدلا إياها بأخرى حتى تتطاير الأفكار كلها،ومن جديد أجدني أستجمع فتات أفكارٍ في توظيف جديد لعبارات أخرى بنفس المرادفات لأجدها مرة أخرى بعيدة عن مقاصدي…

لم تتركه يستجمع قواه بعد تسارع نبضات قلبه واكتساء جسمه عرقا جعله يحس بفشل غزا كل أطرافه، ليأتيه صوتها يطلب منه ببرودة وجفاء.. واستعلائية أن يعيد لها كتابها والذي هو آخر ما بقي من أغراضها عنده..

لم يكن مستعدا لتلك الوضعيات… بدا أن الأمور تتجه نحو انكسار جديد في تتمة لخيبات متتالية استمرت في حياته ولم يعد يعرف عدد الصدمات إلا عندما يتحسس مواقع الكدمات ،صدمات شكل له امتصاصها حيرة أذهلته، ذاك انه تأقلم مع الجراحات و ألم الفقدان بتفاؤل لا حدود له سمح فيه لخياله بتشكيل واقع ما بعد الفراق والتعايش مع الأوجاع في تقاسم للحظات الألم مع خيالاته عندما يحس بأنفاسه تتقطع من شدة الحنين إليها..حتى وإن تركت في قلبه جرحا وبثت في عزيمته اليأس،كان لجوئه لأعماقه متنفسا باستحضاره لحظات حميمية و صادقة لهما جمعت بينهما ذات يوم و لتخفيف نوبات متزايدة من قلق مرهق كان يعتقد عابرا،استمراره حيره كيف لها أن تهجره؟

إن مجرد مرور هكذا أفكار تجعله يضطرب ويشعر بضعف يسري في كل أعضائه مُشلا حركاته مسددا نظره تجاه أوسع أفق أمامه عله يستطيع النفاذ إلى ذلك العالم الرحب تحليقا،عالم حلم دوما أن في نهاياته تنتهي الآلام وتهيمن الطمأنينة وتستبد السعادة…

حيلته لم تهده لحلول تخفف من بُعدها عنه ومن نُفورها الذي طال، ولم يعد باستطاعته تحمل كل ذلك الجفاء منها والذي رأى فيه تعسفا لم يجد له تفسيرات، سوى في ذاك الشريط لبقايا كأس متناثرة لم تبرح مخيلته بل وصار أكثر اقتناعا من ذي قبل أن في السقوط لعنة تطارده، سقوط مازال صداه يصم أذنيه كلما تذكر الواقعة ورجعت به مخيلته للحظة الحدث..هل انحدرت العلاقة إلى الهاوية وهي تعيش خريفها بينما هو لا يملك الجرأة للاعتراف بذلك والتعايش مع وضع جديد…أم أن الأمر قد حسم لديه ومشاعره باتت تتمنع في أن تبوح له كي يتخذ قرارا يتعبه ويريحها…لقد أصبح يتمنى في بحثه المتواصل عنها إن يجدها ضعيفة وحائرة إزاء مشكلات تجعله يسترجعها من جديد، مما يسمح له بالنفاذ مرة أخرى لعوالمها..

هي لا تدري أن كلماتها في برامجها الإذاعية تقع على مسامعه فيلتقطها ويصنع منها مقارنات…هي لا تدري كذلك أن في سطورها المساهمة بها في أحد المواقع يستطيع أن يصنع منها ملاذا بين المعاني يكفيه لينام ويستيقظ بروح متجددة بحثا عن طريقة جديدة يستطيع الغوص بها في أعماقه،أعماق وجد بها دوما سندا له يستطيع به الاستغناء عن روح لازمته مستنكرة عليه سعيه المتواصل والحثيث نحو استعادتها…

لقد صارت كل تخميناته تنتهي عند لحظة سقوط الكأس،فترسم له نهايات حزينة يتجرع منها آلاما وانكسارات،تستفز فيه روحا عنيدة جبلت على التمرد والقفز على واقعه في هروب منه لنهايات يرسمها له دوما خياله….حسبه كان ذاك العناد الممل هو الأمل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى