ألف ليلة و ليلة د. عمرو عبد العزيز منير - رحلة في مدن ألف ليلة وليلة..

اكتسبت مدن المشرق العربي في المخيلة الشعبية العربية أبعادًا ودلالات اقتربت من الأسطورة والخيال، وأخذهذا الشرق يتمتع في تلك المخيلة بصفة تكاد تكون «نمطية» تنطوي على الصدق حينا، وعلىالكثير من التصورات والأوهام الغامضة في أحيان أخرى، ولعل هذه التصورات، التي راحتتتضخم عبر العصور، جاءت من القصص والروايات التي تروى عن الشرق، ولا شك أن أهم عملساهم في صياغة هذه التصورات، وأطلق العنان للمخيلة، هو كتاب «ألف ليلة وليلة» الذييقدم وبشكل مدهش قصصا خرافية تتحدث عن الأسفار في الصحراء والبحار، وعن الجن،والأقزام، واللصوص، وعن الليالي الملاح، وعن جمال النساء الشرقيات، وعن الوقائعوالحوادث الخارقة…وذلك في سرد يومي متلاحق ترويه شهرزاد لزوجها شهريار تجنبالعقوبة الموت التي تنتظرها إن هي أخفقت في خلق التشويق لدى شهريار، فالخدعة قائمةعلى أن ينتظر بشغف الليلة التالية ليسمع بقية القصة، وبهذا المعنى فإن شهرزاد حافظتعلى حياتها عبر فضيلة القص المباركة على عكس سابقاتها اللواتي قتلن. فالشرق في هذا العمل وفي غيره من الأعمال هو متحف للأعراق، والإثنيات، والثقافاتالمختلفة، وهو فضاء تتعدد فيه الآلهة والقديسون، الأشرار والأتقياء، وهو موطن حافلبالخرافة والأساطير القادمة من تاريخ غابر قديم قدم مدن هذا الجزء من العالم.

وكانت القاهرة في زمن سلاطين المماليك بمثابة ستارة المسرح الخلفية التي جرت عليها حكايات ألف ليلة وليلة الخيالية ، هذه الخيالات الرومانسية التي كانت تمسك بأيدي السامعين، وتجوب بهم الأسواق والمنازل، ليشاهدوا الحياة المتواضعة والراقية في الشوارع والميادين وساحات الإنشاد الديني، وكل ما يمس نسيج الحياة بين الناس.[1] كما كان للقاهرة ظلالها الواضحة في سيرة بني هلال . وهى ظلال لا تقل عن مثيلاتها في قصص ألف ليلة وليلة . فالقاهرة تبدو في السيرة الهلالية واضحة كل الوضوح بخططها وأسواقها وحماماتها ودكاكينها ومساكنها ونحو ذلك. وكان خط السماء اللامتناهي في تنوعه ما بين المآذن والقباب التي نراها في العاصمة يستلفت نظر جميع الزوار الذين كانوا يسارعون إلى المقارنة بين القاهرة وبقية المدن المصرية القديمة، برغم حداثة وجودها نسبيا إلا أنها سرعان ما سادت الحياة المصرية بصورة طاغية غير عادية، وحازت شهرة واسعة جعلت منها: “مدينة عظيمة، آهلة يحبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ما لا يحيط بجملته وتفصيله إلا خالق الكل جل وعلا”.[2] فأضحت “حضرة الدنيا ، وبستان العالم، محشر الأمم، مدرج الكثير من البشر”.[3]

وكان من الضرورة بمكان؛ أن تحظى القاهرة بقدر أوفر من الأساطير والحكايات الشعبية خاصة فيما يتعلق بنشأتها وتأسيسها، الأمر الذي جعل من أساطير تأسيس القاهرة تطغى على أسطورة تأسيس الإسكندرية ذات القدم في الزمان والمكان, وتتشابه معها في المضمون، الأمر الذي يفسر أن هذه القصص بأبعادها الأسطورية لم تبد ناتئة أو شاذة عن نسيج ورو القصص الوارد عن تأسيس المدن وفكرة الطالع السعيد هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يرجع تقارب روايات تأسيس القاهرة مع روايات تأسيس الإسكندرية إلى تشابه ولزوجة تركيب الوجدان الشعبي نفسه، أو ربما كان تلك الاستعارة من باب خلع صفات على القاهرة شبيهة بصفات عراقة تاريخ الإسكندرية، ورغبة الوجدان الشعبي في أن يجعل القاهرة مؤثرة لا متأثرة، معيرة لا مستعيرة، ناحلة لا منتحلة.

يقول ابن ظهيرة( في محاسنه) : “لما قصد (جوهر الصقلي) في بناء السور، جمع المنجمين وأمرهم أن يختاروا طالعا لحفر الأساس، وطالعا لرمي حجارته، فجعلوا خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس، وأعلموا البنائين أن ساعة تحريك هذه الأجراس ترمون ما بأيديكم من الطين والحجارة في الأساس فوقف المنجمون لتحرير هذه الساعة، فاتفق من مشيئة الله سبحانه وتعالى أن وقع غراب على خشبة من تلك الأخشاب، فتحركت الأجراس، فظن الموكلون بالبناء أن المنجمين قد حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين و الحجارة في الأساس”.[4] ، “لذلك السبب لا تنقطع الدماء والقتال والنزاع والفتن والفساد عن القاهرة المعزية التي سميت بهذا الاسم لوضع أساسها في طالع المريخ…”.[5]

ومع اتفاق في المعنى واختلاف في الألفاظ يحكي الرحالة والمؤرخون عن بناء وتأسيس الإسكندرية :” حكى المسعودي أن الإسكندر وقع له مثل ذلك في بناء الإسكندرية، أنه أحب أن يرمي أساسها دفعة واحدة في سائر أقطارها، في وقت محمود يختاره، وطالع سعيد، فخفق رأس الإسكندر، وكان قد احترز في نفسه في حال ارتقابه الوقت المحمود، فنام فجلس على حبل الجرس الكبير غراب، فحركه فصوت وتحركت الحبال، وخفقا ما عليها من الأجراس الصغار .. فلما سمع الصناع تلك الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة، وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأخبر، فتعجب وقال: “أردت أمراً وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها..”.[6]، وبهذا تلعب خرافة “الطالع” دورها في بقاء أو بناء المدن ولعل للسبب نفسه أرجع السيوطي سبب بقاء الأهرام إلى “الطالع السعيد” حيث: “كان ابتداء بنائها في طالع سعيد”.[7]

ولعل الربط بين خراب كلٍ من القاهرة والإسكندرية وبين ظهور الغراب يرجع لبقايا الاعتقاد الشعبي في أسطورية الغراب بما يحمله من دلالات وارتباطه بأحداث تاريخية ذات طابع (مأساوي)، فهو طائر تشاءمت به العرب كلها، بل “أن كثيرًا من الشعوب منذ العصور القديمة كانت تحس إزاء هذا الطائر إحساسا يشوبه التقديس أو الأسطورة”.[8]، دون أن يفكر الناس بصيده، ولعل وروده في قصة نوح u وأسطورة الطوفان البابلية أثر في ذلك، كما أنه هو الذي دل قابيل كيف يدفن أخاه هابيل، وهو دليل عبد المطلب على موضع “زمزم”، وهذا يعني أنه أشبه بالكاهن والدليل فهو يحمل رسالة من وراء حجب الغيب، وقد غذى هذا الشعور الموروث الشعبي بقوله : “أشأم من غراب البين” وقولهم:” ما هو إلا غراب نوح. “u[9] ، ويبدو أن أحاديث الناس عن الغراب أخذت تترى لتزيد التطيَّر منه رسوخا لا سيما تلك الأحاديث (المنمقة المزخرفة) التي ابتدعها الخيال الشعبي لتدخل في مجال الأساطير من أوسع الأبواب فيما يتعلق بالـتأصيل لنشأة وعمران القاهرة والإسكندرية على حد سواء، ولعل الخيال الشعبي قد استصفى من الأساطير القديمة رمزيتها التي تعززها الخبرة الاجتماعية من أن الغراب قد جلب الخراب والشؤم على الإسكندرية والقاهرة بعدما كانتا في أوج ازدهارهما وانحصار ما كانتا عليه من مظاهر الحضارة والفخامة، مثلما كان الحال مع مدينة “أمسوس” المصرية المندثرة بفعل الطوفان حيث كانت “الغربان قد كثرت في أيام الملك لوجيم، وصارت تفسد الزروع والغلال، فعمل أربع منارات في جوانب مدينة أمسوس, وجعل على كل منارة صورة غراب, وعليه صورة الحية قد التوت، فلما عاين الغربان ذلك, نفروا عن المدينة”.[10]

وقد كان حظ مدينة الإسكندرية من الموروث الشعبي والأساطير كبيراً في كتابات المؤرخين والرحالة ،حيث كانت عاصمة لمصر حين فتحها العرب المسلمون، وكانت من الروعة والبهاء والفخامة بحيث أثارت دهشتهم وعجبهم، وأغرت الرحالة والمؤرخين بالبحث عن أصولها، وبالطبع عن نسبها وعن سحرها الخلاب, وغرائب وعجائب البنيان، وتزامن هذا مع حكايات إرم ذات العماد الخرافية والروايات الخيالية الرائجة على نطاق واسع عن الاسكندر، والتي تركت أصداءها في الكتابات التاريخية.

ابن الوردي يشير إليها بقوله: “بها من الآبار العجيبة، والرسوم الهائلة التي تشهد لبانيها بالملك والقدرة والحكمة، وهي حصينة الأسوار عامرة الديار..”.[11] ورآها ابن بطوطة أنها : “الثغر المحروس والقطر المأنوس العجيبة الشأن الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين.. فكل بديعة بها اختلاؤها، وكل طرفه فإليها انتهاؤها، وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا..”.[12]

وبدأ المقريزي حديثه عنها فقال: “… هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا، وأقدمها وضعا وقد بنيت غير مرة، فأول ما بُنيت بعد كون الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوحu، وكان يُقال لها إذ ذاك مدينة راقودة، ثم بُنيت بعد ذلك مرتين، فلما كان في أيام اليونانيين جددها الاسكندر بن فيلبش المقدوني الذي قهر داراً وملك ممالك الفرس بعد تخريب بخت نصر مدينة منف بمائة وعشرين سنة شمسية فعرفت به، ومنذ جددها الاسكندر المذكور انتقل تخت المملكة من مدينة منف إلى الإسكندرية فصارت دار المملكة بديار مصر ولم تزل حتى ظهر دين الإسلام”.[13]

هنا نجد اختلاطا بين العناصر الأسطورية والعناصر التاريخية في مزيج حيوي، فقد بنى الاسكندر مدينة الإسكندرية فوق بقايا راقودة حقا.[14]، كما أنه قهر الفرس.[15] ، ولكن بقية القصة تحمل بصمات الخيال . وأورد ابن محشرة عدداً من الروايات الخيالية حول بناء راقودة منها أنه :”قيل أنه كان سكان البحر يؤذون الناس ويختطفونهم بالليل فاتخذ الاسكندر الطلسمات مصورة على أعمدة رخام على هيئة شجرة السرو، طول العمود منها 80 ذراعاً وهي باقية إلى هذه الغاية، يقال أنها كانت على أعمدة نحاس قد خرقت الأرض فصورت فيها أشكال وصور تمنع وتدفع”.[16] ويضيف العمري أن : “الاسكندر زاد في بنائها، وأطال في منارتها، وجعل فيها مرآة كان يرى منها مراكب العدو عن بعد، فإذا صارت بإزائها، وصدمت شعاعها أحرقها كما تحرق المهاة في الشمس ما قابلها من الخرق، وإن لم تتصل بها، فسميت الإسكندرية من حينئذ، وكان اسمها قبل ذلك (وقودة) وبذلك يعرفها القبط في كتبهم القديمة”.[17]

ويعلق السيوطي على المنارة بقوله: “في أعلاها تماثيل من نحاس منها تمثال قد أشار بسبابة يده اليمنى نحو الشمس أينما كانت من الفلك يدور منها حينما دارت ، ومنها تمثال وجهه إلى البحر إذا صار العدو منهم على نحو من ليلة سمع له صوت هائل يعلم به أهل المدينة طروق العدو، ومنها تمثال كلما مضت من الليل ساعة صوت صوتا مطرباً، وكان بأعلاها مرآة ترى منها قسطنطينية، وبينهما عرض البحر، فكلما جهز الروم جيشاً رؤى في المرآة..”.[18]، “وفي كتاب الطلسمات أنها بنيت طلسماً لئلا يغلب ماء البحر على أرض مصر”.[19]، فهي “أول عجائب الدنيا الأربع” على حد قول الرازي.[20]

تلك الحكايات الخيالية مثال على القصص الدائر في التراث الشعبي حول مدينة الإسكندرية والقصص التي تدور حول هذه المدينة كثيرة ومتنوعة الاتجاهات والنزعات، سواء إغريقية أو مصرية أو عربية يحاول كل اتجاه منهم انتزاع تاريخ المدينة وربطه به.

على جانب آخر؛ نجد أن الإحساس الأسطوري بالزمن ـ في تلك الروايات التي قيلت في شأن الإسكندرية ـ يأتي في تناسق كامل مع بقية العناصر الأسطورية، كالشخصيات والطلاسم والأماكن الأسطورية، والمخلوقات حبيسة الفولكلور، إلى غير ذلك من عناصر أدت إلى طمس المعالم التاريخية للأحداث والشخصيات والأماكن. وكان من الضروري بعد أن تمت عملية تجريد الشخصيات والأماكن من شكلها التاريخي الواقعي أن يوضع هذا كله داخل إحساس أو إدراك خاص بالزمن يبتعد عن الإحساس التاريخي بالزمن وينقلنا إلى عالم لا مكان فيه للزمن المحدود، ولا اعتراف فيه بالتطور الزمني ولا بالتقسيمات الزمنية الإنسانية، ويعطينا وحدات زمنية مختلفة عما عهدناه من فهم وإدراك للزمن عند الإنسان.[21]

من تلك الأماكن والمدن التي ألهبت خيالات الناس وأقلام الرحالة و المؤرخين مدينة “إرم ذات العماد[22]” وهي المدينة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم.[23]، وقد كان ذلك كافياً لإطلاق عنان الخيال الذي ربط بين مدينة الإسكندرية وبين مدينة (إرم ذات العماد) إذ يقول المؤرخون: “إن إرم ذات العماد هي الإسكندرية، وقال الناظرون في الأعمار في جميع الأقاليم والأمصار: لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان كطولها بمريوط ووادي فرغانة، ومريوط قرية من قرى الإسكندرية بالقرب منها وهي كبيرة ولها بساتين كثيرة”.[24] ويقول الرحالة البلوي: “ذكر المفسرون عن ابن كعب قوله: إرم ذات العماد: أنها الإسكندرية، فهي أعجب البلدان وفيها بنيان عجيب ذكر صاحب الجغرافيا أنها بنيت في ثلاثمائة سنة، وأن أهلها مكثوا سبعين سنة لا يمشون فيها بالنهار إلا معصبين”.[25]

ثمة رواية أخرى تقول: “ذكر جماعة من أهل العلم أن الإسكندر المقدوني .. انتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند ـ وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد ـ: “أنا شداد بن عاد بن شداد بن عاد، شيدت بساعدي البلاد، وقطعت عظيم العماد من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا كإرم، وأثقل إليها كل ذي إقدام، وكرم مع جميع العشائر والأمم”.[26]

وهكذا، لم تخل الروايات التي تناولت أصل الإسكندرية من تأثير الاتجاهات الثقافية السائدة ومحاولات نسبة أصلها إلى الإغريق أو العرب والمتعربين أو المصريين تماما مثلما حاولت تلك الاتجاهات نسبة مصر إلى أصولهم . كما نكشف لنا الروايات كيف أنها كانت تستمد نواتها من القصص الديني، ثم تأخذ في البناء عليها من الأحداث والشخصيات والأخبار والأزمان التي تلائمها، وتلائم رؤيتها للتاريخ، والأحداث وتحقق الغرض التي ترمي إليه. كما نلحظ في بعض الروايات تبادل التأثر والتأثير بين كتب التراث القديم وألف ليلة.

كما لم تخل سيرة مدينة الإسكندرية وأخبارها وبعض المدن الأخرى من فكرة الشخصيات الحارسة والطلسمات التي كانت تلازم بناء المدن المصرية القديمة سواء قبل الطوفان أو بعده . فنجد الروحانيات والجن والشياطين وحكاياتهم المستمدة من الأساطير لها دور في الروايات الخاصة ببناء المدن المصرية القديمة تخلق نوعاً من الغموض على المستوى الزمني والمكاني للمدن المصرية، تحاول فيه مثل تلك الأخبار خلق صيغة زمنية ومكانية قد يكون لأحداث الرواية فيها نوع من المعقولية بالمعنى العادي، مثال ذلك ما أورده الغرناطي بقوله: “الجن قد عملت لسليمان u في الإسكندرية مجلساً من أعمدة الرخام الأحمر الملون، بأنواع الألوان الصافي، كالجزع اليماني المصقول كالمرآة إذا نظر الإنسان فيها يرى من يمشي خلفه لصفائها. وعدد الأعمدة ثلاثمائة أو نحوها، كل عمود ثلاثون ذراعاً على قاعدة من رخام، وعلى رأسه قاعدة أخرى من رخام في غاية الأحكام …. وكان قد قطعت الجن سقف ذلك البيت الذي هو مجلس سليمان u من حجر واحد أخضر مربعاً”.[27]

الإسكندرية إذن، أضفت على تاريخها خصوصية شديدة عند ارتباط نشأتها بكائنات غيبية وظروف غامضة، فالجن يبني ويعمر، والسحر والطلسم يحمي ويقهر وبنيان الأعمدة يبهر: “ومن عجائبها أن بالإسكندرية أسطوانة متحركة والناس يقولون أنها تتحرك بحركة الشمس، وإنما قالوا ذلك؛ لأنها إذا مالت يوضع تحتها شئ، فإذا استوت لا يمكن أخذها، وإن كان خزفاً أو زجاجاً يسمع تقريعه”.[28]، فهذه “الاسطوانة من أحدى أعاجيب الدنيا ويقال أن الجن صنعتها لسليمان بن داود”.[29]

والراجح أن حكايات السحر والطلسمات والكائنات الغيبية هذه شأنها شأن أخبار الخوارق والمعجزات تعكس قدراً كبيراً من الانبهار والإعجاب الممزوجين بالنقص الحاد في المعلومات التاريخية، ولا غرابة في أن تحظى مدينة الإسكندرية بهذا القدر الكبير من اهتمام المورث الشعبي فقد كانت عاصمة مصر منذ أسسها الاسكندر الأكبر وطوال عصر البطالمة، وظلت هي العاصمة حتى بعد ولاية رومانية في النصف الأخير من القرن الأول ق.م. وبقيت الإسكندرية عاصمة لمصر طوال ما يقرب من سبعة قرون عندما فتح عمرو بن العاص مصر تحت راية الإسلام في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، ولذلك انعكست أهمية العاصمة المصرية في الحكايات الدائرة حول مدينة الإسكندرية، وهي لا تختلف كثيراً سواء من حيث بنائها الفني، أو من حيث هدفها، من الحكايات الخيالية حول المدن المصرية الأخرى.

———————————————————————————-

إحالات

[1]-آن وولف: كم تبعد القاهرة؟(ترجمة قاسم عبده قاسم , القاهرة 2006م), ص 171، ص 172.

[2]-ابن سعيد الأندلسي: النجوم الزاهرة في حضرة القاهرة(القسم الخاص بالقاهرة، تحقيق : حسين نصار مطبعة دار الكتب، القاهرة 1970م)، ص 29.

[3]-عبد الرحمن بن خلدون: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً (تحقيق: محمد الطنجي، سلسلة الذخائر، العدد 100، القاهرة 2003م)، ص 246.

[4]-ابن ظهيرة: الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، تحقيق مصطفى السقا وكامل المهندس، مركز تحقيق التراث، دار الكتب، القاهرة 1969م ، ص 181؛ الإسحاقي: أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول، سلسلة الذخائر، العدد 35، القاهرة 1998م ، ص116؛ السيوطي، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، جزآن، المكتبة التجارية بمصر، القاهرة 1908، ج1، ص 24.

[5]-أولياﭽلبي: سياحتنا مه مصر، ترجمة محمد على عونه، تحقيق: عبد الوهاب عزام، وأحمد السعيد سليمان، مراجعة: أحمد فؤاد متولي ، الطبعة الأولى، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 2005، ص 393.

[6]-ابن ظهيرة: المصدر السابق، ص 182؛ المسعودي: مروج الذهب، ج2، ص 424؛ ابن محشرة: الاستبصار في عجائب الأمصار، نشر وتحقيق: سعد زغلول عبدالحميد، الإسكندرية 1958,ص 92، ص 93؛ أولياﭽلبي: سياحتنا مه مصر، ص 394.

[7]-السيوطي: حسن المحاضرة، ج1، ص 71.

[8]-چيمس فريزر: الفولكلور في العهد القديم(الجزء الثاني: ترجمة نبيلة إبراهيم،ط الثانية، دار المعارف، القاهرة 1982م)، ص 133.

[9]-انظر البغدادي (عبد القادر بن عمر): خــزانـة الأدب ( الجزء الرابع، تحقيق: عبد السلام هارون، الطبعة الأولى، مكتبة الخانكي، القاهرة 1986م)، ص 762؛ الحافظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): الحــيــوان، ج2، (تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة البابلي، القاهرة 1940م)، ص 321.

[10]-ابن إياس: كتاب تاريخ مصر المسمى بدائع الزهور في وقائع الدهور، الجزء الأول، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق، مصر المحمية، القاهرة 1311هـ، ج2، ص 10.

[11]-ابن الوردي: خريدة العجائب، ص 30.

[12]-ابن بطوطة: الرحلة، ص 17.

[13]-الخطط، ج2، ص 144؛ العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ص 492.

[14]-صمم الاسكندر على بناء مدينة مقدونية في الأراضي المصرية لتنتزع طرق التجارة من الفينيقيين حلفاء الفرس إلى أيدي المصريين الأصدقاء: ومن ثم جاء اختياره لقرية راقودة المجهولة لكي تتحول إلى أعظم مدينة عرفها التاريخ ووجد في راقودة مكاناً جيرياً صلباً يرتفع عن سطح الدلتا وقريب من المياه العذبة. انظر: سيد أحمد الناصري: الإغريق تاريخهم وحضارتهم، ص 534.

[15]- قهر الإسكندر الفرس في معركة حاسمة كانت بداية النهاية للإمبراطورية الفارسية، وهي معركة (جاوجاميلا) في أول أكتوبر عام 331 ق.م. وقد وفدت العناصر الفارسية إلى مصر مرتين , كانت الأولى على يد قمبيز , واستمر بقاؤهم أكثر من قرن خلال الأسرة السابعة والعشرين . والثانية على يد كسرى الثاني عام 616ق . م , وقد صبغت مصر بعض الأسرات الفارسية بعاداتها فسموا أبناءهم بأسماء مصرية , واتجهوا بدعوتهم إلى الأرباب المصرية وساهم بعض ملوكهم في إنجاز معابد مصرية في الدلتا والواحات. انظر: سيد أحمد الناصري، الإغريق تاريخهم وحضارتهم، ص 536.

[16]-ابن محشرة: الاستبصار في عجائب الأمصار، ص 93؛ المقريزي: الخطط، ج1، ص 144.

[17]-العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ص 494؛الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات، ص 47، 48.

[18]-السيوطي: حسن المحاضرة، ج1، ص 39؛ الغرناطي: تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، ص 57، القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 145.

[19]-المقدسي: أحسن التقاسيم، ص 211.

[20]-الرازي (عمر بن محمد بن عبد الله) (ت 728 هـ): مسامرة الندمان ومؤانسة الإخوان ( تحقيق: وليد مشوح، الطبعة الأولى، مركز زايد للتراث، الأمارات 2003م)، ص 177.

[21]-محمد خليفة حسن: الأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، ص 106.

[22]- جاء في أساطير العرب أنّ (إرم ذات العماد) مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في ضوء النهار، ثمّ أقفرت هذه المدينة العجيبة واختفت في الصحراء، فهي في مكان محجوب عامرة بقصورها السحريّة وكنوزها المباحة، ولكن لا وصول إليها، وقد طلبها كثيرون فهلكوا أو ضلّوا وعادوا قانعين من الغنيمة بالإياب“وتعد من المدن المسحورة تلك المدن التي عرفت في زمن ما واختفت بصورة غامضة، وارتبطت بشكل ما بالغرابة والعجائبيّة نحو إرم ذات العماد,محمد الصالح :الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث (منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق 2000م),ص177.

[23]-“ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد” [الفجر / 7]

[24]-ابن محشرة: الاستبصار في عجائب الأمصار، ص 100

[25]- البلوي: تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، ج1، ص 198؛ الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات، ص 44؛ اسحق بن المنجم: آكام المرجان، ص 22

[26]-المسعودي: مروج الذهب، ج1، ص 370.

[27]-الغرناطي: تحفة الألباب، ص 57؛ الأبشهي: المستظرف في كل فن مستطرف، ج1، ص 546.

[28]-القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ج1، ص 145.

[29]-ابن محشرة: الاستبصار، ص 99.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى