قلولي بن ساعد - وقائع منسية من سيرة الكولونيل باباي

” ياحسراه على زنينة عادت وين / ومن البكرة غيمها يصبح طايح ”
*ردد النعمي البيت الذي كان قد سمعة منذ أن كان طفلا عندما لفحت وجهه الأسمر نسمة ريح حانية وهو يطل على مسقط رأسه قادما إليها من الجزائر العاصمة التي كان قد غادرها مرغما سنة 1957 وبالضبط في شهر مارس هاربا من رد فعل العدو قبلها بأيام كان قد أشرف على عمل فدائي نجى منه بإعجوبة فأسفر على قتل عدد معتبر من جنود الجيش الفرنسي… هرب إلى حيث لا يعلم أحد… هرب ولم يمهله الظرف الذي آل إليه أو ساقه إليه القدر أن يشم أريج النعناع أو يرى خضرة الربيع والنوار الذي يملأ كل سنة تلك المساحات الواسعة سعة الكون أرض أجداده التي نشأ فيها ولم يتزحزح عنها قيد أنملة إلا عندما أدى ما عليه من واجب .. لم يمت لكن الآخرون من أترابه وأفراد أسرته ظنوا في البداية أنه قد مات أو أوسجن أو أعدم …كان هناك في مكان آخر يواصل دك حصون العدو فقد إنفتحت له شهية الإنتقام من الذين عاثوا في أرض أجداده فسادا وأقسم أن لا يتوقف أو يهدأ إلا عندما يرى راية بلاده ترفرف فوق المباني والديار والثكنات المحتلة وهناك أيضا تدرج في المراتب فكان ينتقل من رتبة إلى أخرى قاطعا الفيافي والجبال والحصون المنيعة لا شئ في ذهنه سوى أن يساهم في تحرير هذه الأرض والأراضي الأخرى العزيزة عليه مثل عزة نفسه أو أكثر …الغريب في الأمرأن لا أحد من أفراد أسرته أو من أترابه سمع شيئا عنه أو وصلهم نبأ من أنباء نشاطه العسكري الذي أخلص له في مكان آخر من أمكنة المحروسة * المترامية الأطراف كأنه كان يحيط نفسه بسرية كبيرة من الصعب إختراقها أو الإمساك بشئ منها وحتى عندما أعلن عن وقف إطلاق النار إنتابته بعض الشكوك ولم يصدق أبدا تلك النكتة السمجة التي كان قد أطلقها دوغول ( سلم الشجعان ) كان في حالة من التربص والترقب والإستعداد مرابطا هو ومن معه من الفيلق الذي إسندت إليه مهمة قيادته والعمل تحت إمرته وظل على حاله في حالة إستنفار قصوى كان يردد ” عودتي ما تدوى وأنا ما نامنها ” * خمس سنوات قضاها في الجبال دون أن يتعرض لأدنى خدش أو جرح في جزء ما من أجزاء جسده القوي هوأيضا إستغرب ذلك حامدا ربه على نجاته من كمائن العدو الكثيرة التي كان يخرج منها ظافرا منتصرا كغيره من الفرسان البواسل الذي لا يخافون ولا يتراجعون قيد أنملة ربما رد ذلك إلى دعوات خالته فاطمة الداية الذي ظلت لسنوات طوال تدعوا له بالنجاة والنصر والفتح المبين وبأشياء أخرى لا يفهمها أحد سواها هي الوحيدة التى كانت تعتقد أنه ما زال حيا وسيعود مثل غودو أو مثل المهدي المنتظر طال الزمن أم قصر مرة قالت أنها رأته ومازال كما هو لم يتغير أو يمرض أو يصاب بأذى سخر منها الرعاة والرجال والنساء ولا أحد صدق ما تقول كانت مثل زرقاء اليمامة ترى مالا يراه الآخرون أو الأخريات الفرق بينها وبين زرقاء اليمامة أنه لا أحد فقأ عينها مثلما حدث لزرقاء اليمامة عندما فقأت العين التي ترى بها عقابا لها على تحذير قومها من قدوم العدو كانت تحبه حبا جما تعلقت به منذ الليلة الأولى لحظة أن سقط في حجرها قادما من بطن أمه كلتوم …لم تنسى أبدا أنها هي التي دهنت جسده بزيت الزيتون ومزقت فساتينها القديمة صانعة له منها قماطا يستر جسده من البرد والعراء ومن نسائم الريح الصرصار العاتية القادمة غربا أوشرقا مخترقة سقف بيتهم الريفي المصنوع من الطين والخشب والقصب وهي التي طلبت من والده العيشي ان يسميه النعمي حفظا لذكرى زوجها النعمي فأنصاع لها صاغرا دون تردد أو حتى مجرد إستفسار ..كانت خالته فاطمة الداية صغيرة لا يتجاوز عمرها الثامنة عشر عندما زفت إلى زوجها النعمي فوق باصور* لجمل من الجمال الكثيرة الهائمة في صحراء بلدتها الصغيرة وخلفها فتية يرددون موالا قصيرا “فاطمة وفاطمتين وفاطمة الصغيرة لي / يالصغيرة جبناك يا أم العلالق سبعة ” * أنجبت منه ثلاث بنات سرعان ما بلغن سن الرشد ثم تزوجن وبقيت وحدها دون ذكر يملأ عليها البيت ويبعد عنها الملل والوحدة والفراغ والهم الذي سكنها ثم ألهمها الحكمة والفطنة التي لا تختص بها إمرأة سواها …قتل زوجها النعمي في واقعة شهيرة مع عدد من رفاقه الذين بلغ عددهم ستة عشر الذين قادهم رجل شجاع يدعى التلي بن الأكحل دفاعا عن مدينة مجاورة كان الفرنسيون لم يدخلوها بعد ثم دفنوا في مكان أو مطمورة سميت بعد ذلك ( مطمورة 16 سطاعش ) قتل. تاركا زوجتة فاطمة للفراغ والحسرة والوحدة القاسية ..عاد النعمي مع زوجته ويزة وأبنائه الذين ولدوا كلهم بعد الإستقلال في بلدة صغيرة هناك في جرجرة …إختار ويزة زوجة له لأنه رأى فيها شيئا من الكاهنة التي دوخت أعتى الرجال … كان لا يرتاح إلا للمرأة القوية التي لا تسلمك نفسها بسهولة ويسر فهم ذلك منذ اليوم الأول الذي وقع نظره عليها عندما دعاه والدها إرزقي إلى وجبة عشاء ببيته في قريته البعيدة بأعالي جرجرة …لم تعره أدنى إبتسامة ولا نظرت في وجهه أو ران عليها شيئا من الغنج الأنثوي هذا ما جعله يحترمها أكثر ويصر إصراره المحموم على طلب يدها من والدها إرزقي الذي تعرف عليه خلال الثورة عندما كان أحد مساعديه في الفيلق الذي كان تحت إمرته ثم سرعان ما شق كل واحد منهم طريقه بعيدا عن الآخر سنوات بعدها عثر عليه بالصدفة ضمن أعضاء الكتيبة التي قامت بتهريب أحد العقداء الذي حاول الإنقلاب على العقيد هواري بومدين بعد أن إنقلب هو الأخر على الرئيس أحمد بن بلة في سيارة مسطحة إلى المغرب ..لم يقتله بالطبع لكنه طلب منه الإنصراف والعودة من حيث أتى ومن يومها توطدت العلاقة بينها بل صارا صديقين …إرزقي أيضا وجده فيه نعم الرجل الذي عفى عنه في لحظة من لحظات الحياة دون أن يجعل من ذلك شماعة حتى أنه لم يعد يذكره أبدا بهذه الواقعة …عاد النعمي ولم يجد أحدا حيا من أفراد أسرته سوى شقيقته زهرة ..نزل عندها مساء لم تصدق المسكينة عندما رأته فسقطت من شدة الفرح داخل حفرة نسي أن يردمها إبنها لما كان منهمكا في تغيير أنابيب توصيل الماء الصالح للشرب إلى بيتهم ..أخذها بين يديه لمساعدتها على النهوض …لم تنتبه أبدا من فرط شوقها إليه لزوجته وأبنائه …كانت تشعر ببعض الإنقباض والحرج الذي أزاله عنها عندما قدمهم لها واحدا بعد الآخر رحبت بهم جميعا بل أسكنتهم أعماقها الخاوية إلا من ذكر وحيد هو إبنها صالح الذي صار الآن رجلا لم تتركه بالطبع يغادر البيت خلال تلك الليلة طالبة منه أن يؤجل رؤية الدنيا والأرض وحارة الزيقم والبساتين التي حولها وبعض أترابه القدامى إلى يوم الغد كانت تريد أن تشبع من رؤيته وأن تصدق حقا أنها ليست في حلم بل هاهو أمامها ماثلا لها كحقيقة مثل شمس الظهيرة والضوضاء والجبل وشجرة الصفصاف التي أمام بيتها فجأة داهمتها صورة خالتها فاطمة الداية التي ظلت تقول أنه سيعود إن عاجلا أم آجلا لكنها كتمت إسمها بين شفتيها لئلا يسألها عنها أو يداهمه الحزن والأسى حين يعلم أنها لم تعد على قيد الحياة هو أيضا شعر بذلك عندما إستند على طرف وسادة قائلا عليك الرحمة يا خالتي ..لم تستطع صبرا ولا كتم دموعها التي فاضت من عينيها الذاويتين كشمعة ذابلة كانت تبكي أمامه بلا توقف أو تكلف بكاءا خالصا نابعا منها ومن آهاته الطويلة وكان النعمي يحاول تهدئتها والحنو عليها كأي أنثى فقدت السيطرة على عواطفها لم تمنحه حتى فرصة السؤال عنها ولا كيف ماتت رغم أنه قدر أن ذلك بفعل تقدمها في العمر …بدأ يشعر أنه مغمى عليه أو أنه في حالة تيه بعيدة أبعد من عمره وشبابه الذي قضاه في الجبال منافحا عن الحق …كانت صورة خالته فاطمة الداية تغطي كل سماء قريته مهيمنة على ما عداها من الصور التي تتراءى له أمام ناظرية في مشهد لم يره أبدا في حياته تساءل كيف أمكن لي نسيانها كل هذه السنوات الطويلة… ؟ من أنساني فيها … ؟ عاتب نفسه قليلا قبل أن تعود إليه مالئة شاشة البيت وتلك الغرفة المتواضعة التي وضعتها تحت تصرفه شقيقته هو وزوجته وأبنائه ولم يعد من شئ يمثل أدنى إهتمام له أمام تلك المرأة المدهشة التي ربته صغيرا و”حملته وهنا على وهن” حتى رتبته العسكرية والنياشين التي يحملها على كتفيه لم تكن تساوي عنده مجرد غفوة لذيذة على صدر خالته فاطمة الداية كان فقط يريد أن يراها أمامه أو يدفن رأسه في أعماقها وبين يديها مثل الطفل الذي مل العالم وطلق الدنيا فقرر العودة إلى بطن أمه ولم يستيقظ من هلوساته ومما هو فيه إلا بعد أن وضعت أمامه شقيقته زهرة صينية القهوة الخضراء الموشحة بالشيح وبرائحة القرفة الذي يبدوأنه نسيها أو يكاد …أفاق مذعورا كأنه تعرض لصعقة كهربائية أو أن أحدا رشه بالماء البارد ثم سرعان ما إبستم في وجهها شاكرا لها فضلها الكبير لم يشأ أيضا أن يذكرها بما رأى أو ما حدث له فأفتعل بعض التحمل والصبر في الوقت الذي كانت فيه إبنته فاطمة تقلب صور أبيها مع عدد من القادة والمسؤولين إنتظرت أن تفرغ فاطمة من تقليب ألبوم الصورإستلت منه صورة كبيرة يظهر فيها النعمي في إجتماع يضم كبار القادة والعقداء ثم علقتها في إطار بقلب الدار كشئ ثمبن أثمن مما رأت سمعها بعد قليل تردد لجاراتها أن شقيقها النعمي الذي عاد بعد سنوات طويلة يشغل منصبا مهما في الدولة وهي لا تعلم ضحك قليلا لطيبتها ثم توسل إليها ان لا تكلف نفسها كثيرا حين إعداد وجبة العشاء فهو لا يأكل سوى قليل من المسفوف كذلك المسفوف الذي كان يتناوله عندما كان صغيرا من يد خالته فاطمة الداية إبتسمت له ثم قالت سأعد لك طعاما بلحم الخروف لن تنسه أبد الدهر… ببطء وحذر شديد وضع صالح المفتاح في الباب وعندما بلع فناء البيت إعترضت سبيله زهرة طلبت منه التوجه إلى الغرفة المقابلة ليرى خاله الذي كان يظن أنه مات أو أعدم لم يصدق أبدا ما رأته عيناه رغم أنه لم يره سوى في بعض الصور القديمة التي إلتقطها له مصطفى الصوار … عانقه طويلا ثم جلس أمامه مرحبا به لم تسعه الفرحة …قابلته وجوه أخرى كانت تقتحم مخيلته وجوه كان يبحث فيها عن صورة ممكنة لخاله الذي قيل له أنه مات في مكان ما بعيد أبعد من حدود قريته بل من حدود المدينة الزاحفة نحو التمدن والفوضى مثلما قال آخرون أنه لازال حيا وهو الآن في العاصمة أو في وهران بإسم آخر هو الكولونيل باباي …وجوه كثيرة كانت تترائ له في مشهد سينمائي لم يضفر منه إلا بصورة أخرى لا علاقة لها بمايراه الآن وهو أمامه رأس أصلع وبشرة سمراء وقامة فارعة وعينين حادتين مثل عيني والدته زهرة … لحظات بعدها كانت شقيقته زهرة تحمل أطباق الطعام والحساء واللحم تحلق الجميع حول المائدة وزهرة حريصة كل الحرص على أن تضع أطراف اللحم الكبيرة أمامه وأمام أبنائه اكلوا جميعهم بمتعة وهناء بقلب حي وعاطفة مشوبة بالحنان والسخاء مافتئت تحاول إرضاء أبنائه خاصة منهم حسان فتشرع في إزالة بقايا العظام تاركة له شرائح اللحم وحدها وهو راض يبتسم في وجه عمته فيردد أمامها بعض عبارات المجاملة حين تحاصره بعينيها فتتابع وقع الملعقة بين شفتيه وتحت أسنانه البيضاء اللامعة كضوء النهار وعندما كان الغد إستيقظ على وقع أصوات متداخلة كانت تأتيه من بعيد ولولا بعض التعب والإرهاق الذي داهمه بفعل السفر والسهرمع إبن أخته صالح لخرج قبل أن يتناول فطور الصباح يستطلع عن المغزى من هذا الضجيج الذي أفسد عليه الصفاء الذي ظنه قريبا منه تناول فطور الصباح والضجيج لازال قائما أثناء ذلك كان صالح قد وقف على تجمهر عدد من الناس والفضوليين الذي جاءوا خلف رئيس البلدية ورئيس الدائرة وعدد من أفراد الدرك الوطني يريدون رؤية الكولونيل باباي طارحين عليه إمكانية توفير الحماية الأمنية له ولأبنائه وعندما علم بالخبر عن طريق إبن أخته صالح إنصرف ليقف أمامهم شاهرا مسدسا كان معه في وجوهم ثم طلب منهم الإنصراف فورا ودون تردد فهو لا يريد شيئا منهم وقبل أن ينصرفوا أضاف قائلا أنا هنا النعمي إبن البلدة ولست الكولونيل باباي …كان أكثر إيلاما له هو وجود من كان بالأمس يريد الوشاية به إلى الحاكم العسكري الفرنسي وهاهو اليوم يتمنى الإقتراب منه أو كسب رضاه أعلم قال أن “الناس على دين ملوكم” ولكني لم أكن أدري بتاتا أن ذلك الحركي المدعو بوطيبة سيكون ضمن أعضاء الوفد الذي جاء يعرض علي إمكانية توفير الحماية لي ولأفراد أسرتي .. لم يغادر صالح البيت بطلب من خاله النعمي الذي أوصاه أن ينتظر حلول المساء ثم يأخذ معه ويزة وحسان وفاطمة وصابر يذرع معم أركان القرية شبرا فشبرا ثم أضاف كأنه يؤكد له ذلك لا تترك مكانا إلا وأخذتهم إليه وحدثتهم عنه وبإستحياء رد عليه صالح
- حاضر يا خالي مثلما تريد
مع بدء الخريف وفي الصباحات الموشاة بالندى والظل وبرائحة المطر وهدير السيول والسواقي وإنثيال أوراق الخريف يبدأ القرويون في الخروج من بيوتهم مشكلين جماعات جماعات على أبواب المقاهي القليلة أو قرب السوق المغطاة مشهد يتكرر يوميا والقليل منهم ممن لا شغل له يندس وسط عدد من الفضوليين امام متجر العوفي الذي يجمع فيه مالا عين رأت ولا أذن سمعت خليط من الخرداوات واللوازم المنزلية والعقاقير والأدوية جميع القرويون تعودوا عليه وعلى حديث الساخر وتلك الحلقة التي يقيمها أمام دكانه كأنه مزار أو مقام لابد للمريد أن يمر عليه طلبا للبركة وللعون منه تعلو وجوههم المكدودة بالفراغ والحرمان والحسرة مسحة من التخدير كالراوي الذي أوقد نار الحكاية ودون تردد أو وجل تنساب من شفتيه أفكار كثيرة وحكايا لا تنتهي عن أسرار عشقه المحموم لله والدنيا والناس على ما في حديثه الممتع من مسالك القول بحسب ما يقتضيه أو يريد السامع كان العوفي رفيق صباه وزميلا له في محضرة سي علي بن بغداد التي حفظ عنده نصف القرآن لم ينس أبدا أنه كان ينهض باكرا في حدود الساعة الخامسة صباحا بعد أن تعد له خالته فاطمة الداية قليلا من القهوة وخبز الفطير التي تقوم بتحضيره في طاجين الطين تحت لهيب نار الحطب / حطب الكروش الذي يجلبه الباعة الريفيون من الغابات المحيطة بزنينة يجلس محاذيا للعوفي بالقرب من ذلك الركن الأيسر المطلي بالجير الأبيض من قاعة صغيرة يكسوا أرضيتها المبلطة حصير من الحلفاء العتيقة يجلس عليها عشرات الأطفالهم والمريدين وأمامهم بمحاذاة الركن الذي يجلس فيها سي علي بن بغداد خزانة من اللوح القديم تصطف فيها كتب القرآن والسيرة النبوية وتفسير الطبري وكتب النحو والبلاغة خصصها سي علي بن بغداد لتعليم الفتيان اللغة والنحو وحفظ كتاب الله فاجأه يتوسط حلقة المريدين من الشباب فعرفه لأول وهلة من تلك الشامة التي على جبينه الأيمن فاجأه قائلا دون أن يلقي عليه التحية يا “العوفي راك مازلت حي” …علت الدهشة وجه العوفي وراح يتأمل في الوجه الذي يقابله ذاكرا له إسمه لم يستطع أن يضفر منه بفكرة أو ملمح أو صفحة نائية دارت بذهنه صور كثيرة أغلبها يعود إلى ما قبل الإستقلال بحث طويلا فلم يجد أحد يعينه على تلمس الطريق التي تقوده لمعرفة الشخص الواقف أمامه لا أبدا فأغلب المحيطين به في هذه اللحظات هم من أجيال ما بعد الإستقلال ولا أحد منهم بإمكانه أن يطفئ النار التي في صدره نار الذكرى والمسافات البعيدة أبعد من عمره الذي قضاه راويا يمسك بتلابيب الحكاية الآهلة بمتاع الزمن والماضي الذي أفل وها هو يأتيه في صورة شخص قال له ” يا العوفي راك مازلت حي ” بلكنة محلية لم تؤثر عليها الهجانة ولا بللها مطر اللهجات المتداخلة الواحدة تلو الأخرى دام العجب ربع ساعة أو أقل وعندما لاحظ النعمي أن العوفي قد تاه بعيدا ولم يعد يذكر عنه شيئا أخرج له من جيب سواله صورة له وهما معا بالأبيض والأسود قرب المصيف إلتقطها لهما مصور من الأغواط تعود أن يزور زنينة كل يوم أربعاء وهو يوم السوق الأسبوعية باسطا أمام القرويين أجهزة التصوير مقابل مبلغ زهيد من النقود تفحص الصورة ثم سرعان ما سقطت من يده حين أمسك صديقه النعمي في جو من والوحشة والبكاء الذي لا زمه قليلا كان يبدو كمن صار في حلم من أحلامه المشتتة في الهباء ..لم يصدق أبدا أن الصدفة وحدها هي التي جمعته من جديدا مع رفيق صباه النعمي بعد دهر من الفراق بكى أمامه كطفل ولم يفرغ بعد من شجنه إلا عندما طلب منه النعمي أن يقوده إلى حيث حارة الزيقم لكن العوفي قال له قبل ذلك دعنا نشرب قليلا من القهوة عند قويدر الفسيان بقي النعمي منهمكا في تأمل صالة المقهى ..مقهى صغير يؤمه الفقراء والبطالون خليط من الشباب والكهول متحلقين حول بعض الطاولات القديمة وأمامهم نادل عرف فيما بعد أن إسمه بن عرعار يوزع فناجين القهوة وأكواب الشاي على رواد المقهى كان في لحظة تأمل مستغرقا في عمل قويدرالفسيان الذي كان يقف خلف الكونتوار معزولا أمام النار الموقدة لاشئ امامه سوى الإعداد الجيد لقهوة الفرارة المطلوبة بحدة من طرف رواد المقهى أو تحلية الشاي الصحراوي الموشح برائحة النعناع وعندما فرغ من عملة ولا حظ وجود العوفي حياه من بعيد ثم سرعان ما تقدم منه وشئ من الفضول يدعوه لمعرفة الشخص الذي معه لم ينتظر كثيرا ثوان قليلة بعدها علت الدهشة وجهه واجما حين قال للعوفي إن إن لم تخني الذاكرة فالرجل الذي معك يشبه كثيرا صديقنا القديم النعمي ضحك العوفي ضحكة إهتزت لها أرجاء القاعة …كان هذا كافيا لأن يقول له بل هو النعمي نفسه قل لي كيف عرفت ذلك… ؟ يبدوا أنك قوي الذاكرة ساد بينهم صمت طويل كسره قويدرالفسيان عندما سلم على الرجل معانقا إياه في لحظة حنين لا تخلو من بعض الشجن أثناء ذلك أقسم قويدرالفسيان للعوفي والنعمي بعدم المغادرة أو العودة إليه منتصف النهار لإن وجبة الغذاء ستكون عنده في بيته تململ العوفي دون أن يجد جوابا لأنه هو الآخر كان ينوي ذلك ..لكن النعمي رفض ذلك رفضا مشوبا ببعض الخجل متذرعا للرجل بأنه ليس وحده بل معه زوجته وأبناءه وأن شقيقته زهرة ستغضب منه غضبا شديدا وهو لا يريد أن يسبب لها حرجا خاصة وأنها هي كل ماتبقى له على هذه الأرض من أقارب شاكرا قويدر الفسيان على كرمه الكبير إستاء الرجل قليلا لكنه فبل في النهاية حجج النعمي ورأى فيها كل الصواب كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما غادر النعمي المقهى مع رفيق صباه العوفي متوجهين إلى حارة الزيقم التي يفصلها عن الشارع الكبير مرتفع من البيوت المطلة على الناس والدنيا وما بينهما بعض الممرات الضيقة المأهولة بالراجلين القادمين من وراء الحارة والبساتين التي خلفها …سارا قليلا بإتجاه الممر المؤدي إلى حارة الزيقم وعندما أطلا على الحارة ساد وجه النعمي بعض الوجوم ثم سأل العوفي أين الحارة … ؟ زفر العوفي زفرة طويلة طقطت عظام صدره قبل أن يقول أي حارة تعني حارة الزيقم أم حارة المعاليم … ؟ لم يدعه يقول شيئا سمعه يردد شاهقا يا خويا إنها نفس الحارة التي تركها اليهود وحل محلهم لفيف من الحرفيين و”المعاليم” الذين أوقدوا نار ” الزبرة ” في أرجائها وحتى هذه الأخيرة فقد ماتت قضى عليها قرار أعمى ثم حولها إلى ساحة جرداء المباني القديمة التي هدمت عن آخرها أقيمت في مكانها عمارات جديدة من دون تنسيق أو خصوصية معمارية حتى بيت الدرويشة سلطانة فقد هدم عن آخره وإلتجأت المخلوقة إلى بيت العارف بالله سيدي عبد القادرالزنيني لتقضي فيه سنوات قليلة ماتت بعدها غما وحسرة لم تستطع مواجهة الإقتلاع الذي رأته وضاعف من جنونها ..بحث طويلا عن بيت خالته فاطمة الداية فلم يعثر له على أثر بقي واجما يبحث هنا وهناك عن ظلال البيت الذي خلفه وراءه قبل فجر الإستقلال …البيت الذي سقط فيه في حجر خالته فاطمة الداية قادما من بطن أمه كلتوم لا حظ ذلك العوفي ثم قاده هناك أسفل الحارة قريبا من مخبزة أنشأت حديثا ثم قال هنا كان بيت خالتك فاطمة الداية تأمل المكان العاري المحاذي لربوة بجانبها عمارات وشقق صغيرة أنشأت حديثا بكى قليلا كما لم يبك أبدا في حياته تساءل العوفي هل يبكي الرجال الأقوياء الرجال الذين نافحوا عنا ولا رف لهم جفن أو خافوا أو تراجعوا قيد أنملة … ؟ وبينما كان النعمي تائها لا يدري أين هو لاح ضباب في الأفق وبدأت الشمس تنحصر شيئا فشيئا تاركة لبعض الظل أن يأخذ مداه لفت نظره وجود طفل لا يتجاوز عمره السبع سنوات يلهوأمام شقة صغيرة قرب تضاريس التربة التي حمل منها حفنة من تراب قبله ثم قام بذرذرته على وجه وأطراف جسده أمام المكان الذي قال له العوفي أنه كل ما تبقى من أثر لبيت خالته فاطمة الداية ..تمعن عميقا في وجه الطفل الذي كان يلهو بدراجة قديمة ثم تقدم منه مانحا إياه مبلغا من المال أوصاه أن يشتري به دراجة جديدة تعجب الطفل ثم أنعطف كالبرق الخاطف فرحا بهذه الهبة المجزية كان العوفي غارقا في حيرته ولم يفق منها إلا بعد أن سمع النعمي يطلب منه التوجه إلى بيت لالة سلطانة سارا بضع خطوات وعندما بلغا الممر الأخير الملتصف بالجدار المقابل لسكن مهجور كان في ما مضى مقرا لحانة إمرأة يهودية تدعى مريم الدوام حيث الوكر الذي إتخذت منه سلطانة بيتا ومأوى لها لا حظ أن كل ما بقي منه مجرد أرض جرداء معفرة بالتراب وببعض الأحجار القديمة وبقايا من اللوح والقصب مثلها مثل الشوارع التي خلت منها الحياة وصارت كالقيور الموحشة لا شئ فيها يمتع النظر أو يسر الخاطر أو يدفع عن النفس الملل والروتين وأشياء أخرى كثيرة سمعه يقول كأنه يعتذر لأحد غادرت أنت الحياة بينما أنا كنت خارج القلعة في محطة من محطات الدنيا لم أستوعب ما سمعت ولم أصدق وعندما قررت العودة للوقوف على آثار خطاك شعور غريب كان ينتابني حين أمر على بابك أوأدور حول أطراف الحارة ومداخلها الأربع فأفتش في أفيائها عن ظلال طفولتي وأصداء من غادروها أو أقتلعوا منها بقرار أعمى ..كان يكفي أن أستلهم من وجودي فيها ولو لدقائق بعضا من الحنين وذلك الصفاء الذهني والروحي الذي أحمله معي زادا وعونا لي حين أشرف على الإنكسار أو السقوط في هاوية لا قرار لها ولم يغادر المكان إلا عندما بدأ يشعر بأن شخصا ما يقف على رأسه ويأمره الإنصراف والذهاب إلى مقبرة سيدي إمحمد بن صالح ولم يكن سوى رفيق صباه العوفي فأنصاع له واجما مخترقا بعض المنحنيات التي قطعها راجلا غير مبال بما رأى من نظرات الفضوليين الذين بدأوا يطرحون بعض علامات الإستفهام عن المغزى من ذلك فقد بدت له المقبرة على غير ما تركها عليه عندما غادر مسقط رأسه مجبرا كذلك باحتها إزدانت ببعض الإتساع هذا ما جعل بعض التفاؤل يسري إليه مفتتا ذرات الحزن والإنكسار الذي ران عليه حافرا في أعماقه ندوبا بعيدة أو غائرة في ذاكرته لم ينتظر كثيرا فسرعان ما وجد نفسه أمام قبر من القبور القديمة عليه لافتة مكتوب فيها ( قبر حارسة القلعة لالة سلطانة ) غير بعيد عنه قبر آخر عليه لافتة أخرى كتب فيها بالبند العريض ( قبر الرائية فاطمة الداية الملقبة بزرقاء اليمامة ) قرأ الفاتحة وسورة الإخلاص ثم إنصرف يائسا لئلا تهزمه الذكرى أو يهده الحنين من جديد أسبوع بعدها شرع النعمي في كتابة مذكراته هذا ما أعلن عنه لإبن أخته صالح تزامن ذلك مع خبر إقالة الوالي بقرار قيل أنه فوقي وفي خضم ذلك لم ينتبه أغلب القرويون لخلو بيت صالح ووالدته زهرة من ساكنيه نادل المقهى بن عرعار هو الذي قال للعوفي أنهم قد غادروا صباحا إلى وجهة مجهولة بطلب من الكولونيل باباي وحتى خديجة الطالبة بجامعة زيان عاشور وخطيبة صالح فقد تلقت هي الأخرى رسالة عبر بريدها الإلكتروني من صالح يتأسف لها عن فسخ خطوبته معها لأن خاله الكولونيل باباي طلب منه الزواج بإبنته فاطمة وهولا يستطيع أن يرد له طلبا ثم ختم الرسالة بالكلمات التالية “هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لخالي الذي نافح عنا طويلا / …وداعا خديجة وداعا زنينة “

* مقطع من قصيدة للشاعر الشعبي الشريف بن الوعيل
* عودتي ما تدوى وأنا مانامنها / مثل شعبي جزائري
* مقاطع أغنية للفنان خليفي أحمد
* الباصور يعنى بها الهودج الذي يوضع فوق ظهر الجمل
* المحروسة يعنى بها الجزائر

الجلفة في 14/ 08/ 2017



قلولي بن ساعد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى