يمينة مشاكرة - صحوة الجبل.. ت وت: لميس سعيدي

كانوا قادمين من كلّ الدّروب نحو الجْبْل المغطَّى بالسلاسل والمحطَّم بالأساطير. مواكب شيوخ، نساء، أطفال… مفطومين عن ثدي الأم، كانوا يصلون. الأم تحيا. الفلاّحون قدَّموا العجل قربانا وعلّقوا على الشّجرة المقدَّسة وشاحا أسود. النساء علّقن عليها أحزمتهن. رُفِع الحِداد. تتقدّم داليا على مهل نحو الجْبْل. قدماها الحافيتان لا تتركان أثرًا على الحصى الرَّطب بالنّدى الطّالع من الغصينات الممدَّدة على الأرض.

تتوقّف أسفل شجرة زيتون أوراقها دامعة، تاركة الحايك الثّقيل الذي كانت تحمله ينساب. كان انجازَها الأجمل. يجمع أجمل رسومات قبيلتها؛ حروف سريّة ورثتها من بدء الأزمنة وتبهر أطفالها. تتأمّل قدميها المتشقِّقتين، تفكِّر في الأرض المتصَدِّعة بالعطش، تفركها ببعض الندى وتنهض.

فلتنطبق الجبال على طرقات النابالم، الطرقات التي جعل الغزاةُ أولادَها الذين لم يرغبوا في الموت ظلما، يعبرونها. العِظام المنفية لأطفال داليا تبحث عن قبر.

ميْرَمة، مزدانة بأجمل حليّ الدَّشْرة، تتّجه نحو الأم. مرصَّعة بكلّ ألوان البلاد ومغطَّاة بصرير المعادن، تثير شدو العصافير.

شوشانا، محمّلَة بأواني الفخّار، تعبر السّهل. تلتحم، وقد اكتسبت لون الصلصال، مع الأخاديد التي أُعيد حفرها. كتلة تراب حيّة، تتقدّم نحو الجَبَل. لا تلتفت شوشانا وراءها. كانوا يضرمون النّار في كوخها. تمتلئ السّماء برائحة أهلها، رائحة تسكن مِنخاريها، عينيها، شَعرها، بطنها وتحملها إلى الأم.

سيزين، يتمرّغ في التّراب وينهض. عاليًا كان الجْبْل. يحتفظ بعناية وفي مكان دافئ، في يديه الصغيرتين المضمومتين إلى صدره، بحلزون صغير. بعينين دامعتين وأنف أحمر، كان يستقبل ريح السّهل الحادّة. بجلاّبته المنفوخة، يدور بسرعة وسط رحابة الحقول المحروقة. يتدلّى شَعره المتشابك على جبهته الملساء السّمراء والتي تتناثر عليها حبّات الغبار. يأخذ الوحل شكل قدميه ويحميهما من العوسج. كان يركض نحو الجبل. كان يريد حذاءً، يريد خبزًا، يريد بيتًا، يريد حكايات. يسقط وينهض. شاهدهم يغتصبون أمّه، شاهدهم يهينون أباه. شهِد الكثير بالنسبة لعمره. في سنّه، كانت كتفاه ترتجفان غضبا. سيصل إلى الجْبْل. سيغنّي والحلزون سيرقص. الأم أيضا سترقص. عائدة من بعيد.

حنظلة، الرّاعي، كان يركض نحو الجَبل. لم يعد أحد سيّدَه. تخلّى في الصّباح الباكرعن قطيعه. متَّبعا نشيج ابن آوى عجوز وتحليق غراب، كان يركض بسرعة، أسرع من كلبه. لم يكن الجْبْل بعيدًا جدًا.

لا زعيم، هناك في الأعلى. مرتاحًا، يستطيع أن يعدّ النّجوم لسيربيروس. مطر خفيف باغته. بلّل به شعرَه، يديه وشرع في الصلاة:

«أيها المطر الخفيف والحنون

اغسل المآسي من على وجوهنا وأيدينا

يا رسول أجمل الأيام

أرجوك اجعل السنونو يعود.

أرجوك اجعل مخازننا تفيض.

أفواهنا تباركك».

جلس بجانب كلبه ومرّر أصابعه على الوبر الكثّ. مبلّلا حتى الجلد، كان سيربيروس يرتعش من البرد. يفضِّل حنظلة هذا الوضع على الجحيم الذي كانا يعيشان فيه. يغمس يده في شَعره الكثيف ويخرج منه نايا. الموسيقى، هذا ما كانا كلاهما بحاجة إليه. سيغنّي في الجْبْل وهكذا سيساهم رفقة اخوة مجهولين في الاحتفاء بطلوع النّهار.

الأرق المتكرّر ترك حول عينيه بصمات زرقاء. تقريبا لم يكن يجد أية راحة في الحظيرة التي كان يستعملها كمأوى. هكذا تعلّم التّفكير في مصيره ومصير رفيقه. كانا يغادران باكرًا ويعودان في وقت متأخّر جدًا إلى الحظيرة، حيث مزيج من النُّخالة والتبن المهروسين يُقدَّم لسيربيروس وللخِراف. هو، لم يكن يحقّ له أكثر من خبزة شعير وجِلدة بقرة.

كان يمضي ساعات كاملة يتحسّس ذراعيه. كان يجدهما صلبتين، صلبتين جدًا.

«هذا عَظْم، يبوح لكلبه، وليس لحما. أماّ السيّد فلديه اللحم والشّحم».
بدا سيربيروس وكأنّه يفهمه. والد حنظلة انتحر. كان عاجزا عن تسديد ديونه. صادر السيّد ممتلكاته. الابن، كان يعيش على هامش ممتلكات السيّد وسط القُطعان. يحاول أن يكبت نوبة سعال ويشرع في استفراغ الصّفراء والدّم. يمسح فمه بظهر يده. عيناه تلمعان من الحمّى. لقد ثار ضدّ السيّد، تمامًا في بداية موسم الحصاد. السيّد أهانه وأجابه بأن «الجوع مأساة، والمأساة جزء من العادات والتقاليد». سيربيروس كان شاهدًا. تأمّل الراعي رفيقه في المأساة. المطر كان قد توقّف. نهض، ألقى نظرة حالمة إلى الجْبْل. لم يكن بعيدًا جدًا. الأم تحيا.

حُرثة، العميد، بلحية تغطّي ركبتيه، كان يتقدّم موكب شيوخ مَحنيّين. يحمل كلّ واحد منهم على كتفه كتاب حكمة. نشيد غريب كان يزلزل أصواتهم. كانوا يَصلون من متاهات مجهولة. كانوا يتّجهون نحو الأم، سِربا من البرانيس الطّاهرة. سيشيّدون هناك في الأعلى معبد ألفين سنة من العصيان. حين تصل الأم، بشفتين موارَبتين على الطّفولة والأبجدية، حينها، سيتمدّدون كَفِيَلة أسفل التاريخ ليموتوا.

الهاربون من الجيش الاستعماري، محمّلين بالسّلاح، غادروا المغارات، المخابئ السّرية ونقلوا الترسانة نحو الجْبْل. الأوراق تطقطق تحت نعال أحذيتهم الصّلبة والمتضرِّرة. بندقية على الكتف، مدفع رشاش في قبضة اليد، يمشون على إيقاع الطلقات المستقبلية للمدافع. كانوا يتحرّكون في الليل، ملتحمين مع جذوع الشّجر.

وجه بلا تعابير، نظرة متوهّجة، صَدغان ملتهبان، يعيشون في الليل ويختبئون في النّهار. يتصبّب العرق من وجوههم ويمطر على أجسادهم. يسلكون دربا سُلِك من قبل. مصمّمين، يصعدون نحو الجْبْل.

يوب السّجين، الهارب عاريًا والعلامة الحمراء على جسده، كان يزحف نحو الجَبَل. محكوما عليه بالإعدام في محاكم القصر، رفض هذا المعذَّب في الأرض، القانون الذي يغتاله ويخدم مصالح مغامرين.

يزحف نحو الجْبْل، بقبضتي يدين مُحكمتين، وشفتين مضمومتين. هناك، سيقف معتدلا وقبالة القصر سَيَبول. بدأت القضبان تهتز في بؤبؤ عينيه.

أوّل نوفمبر 1954.

مواكب تتقدّم، تلتحم. تشرع الأرض في الاهتزاز. يزمجر الرّعد. الأمّ تصل.

[URL]http://alantologia.com/data/xengallery/1/1021-2ab695260e591f88d00b23dfc8429fe0.jpg[/URL]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة وتقديم: لميس سعيدي
غالبًا ما تُختزل الكاتبة الجزائرية وطبيبة الأمراض العقلية يمينة مشاكرة(1949-2013)، في الجملة التي وضعها كاتب ياسين في مقدّمة رواية «المغارة المتفجِّرة»: «في بلادنا، امرأة تكتب هي امرأة تساوي وزنها بارودا»، وبما أن لا صوت كان يعلو فوق صوت البارود حينها، فقد غفل الجميع عن جملة أخرى كتبها ياسين في المقدِّمة ذاتها وتصلح لأن تكون عنوانا لكتابة مشاكرة: «تكتب الرواية لتمرّر الشِّعر».

من بين أثرها القليل الذي لم يضع في درب حياتها المُحاطة بالغموض(نشرت روايتين فقط: «المغارة المتفجِّرة» سنة 1979 و «آريس» سنة 1999)، نقدِّم ترجمة للقصّة الوحيدة التي نشرتها يمينة مشاكرة، وكان ذلك سنة 1976 في الملحق الثّقافي لجريدة المجاهد (العدد رقم 214)، وتحديدا يوم 27 أكتوبر، أي عشية الاحتفال بالذكرى الثّانية والعشرين لاندلاع الثورة التحريرية (1954-1962).

في قصّة «صحوة الجَبَل»، تقدّم مشاكرة، بحساسية شِعرية ورؤية مختلفة، مفهوما مغايرًا للثّورة، الثّورة باعتبارها مسيرة فردية – ضمن ترنيمة جماعية – نحو الأبجدية الأولى، نحو الأم، أو ما ستسميه مشاكرة لاحقًا في روايتها «آريس»، الربّة آراكي والتي تقول عنها: «في الزّمن الغابر، قبل مجيء الربّ، كان المُلك لآراكي…أمّنا جميعا».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى