روابح الحاج - في عشق روميّتين

الإهـــداء
شكــرا أيُّتها الحياة الجميلـــــة
التي انسحبت منا دون إشعـار منها لتبقى الذاكـــرة لوحدها
تََلْعَقُ الجليـــــد والسَّرابات
بصمت …….
شكرا أيضا أنت أيّتـــــــــها الأرض الطيّبـــــــــة
التي وهبتنــــــــا الحيـــــــاة وأعطتنا الشّهـــــداء
بسخـــــــــــــاء ………..

صبــاح المقاتليـــن صهيل الخيل صكْصكــات السّيوف والِّرمــــاح وروائـــــح الدّم والأموات تَعْلُو سماء (تامازغا) الماما (نوميديا ) بقــلب جريح وعيـــن دامعة تَرْقُب ُحــــــرب الأخويـــن بأسى (قرطجنّة) تنفخ بوق الحرب في جوقتـــها البونيقيـــّة الثّانية (صفاقس ) يُحَصِّن المدينة يَتَجَوَّلُ بين أسوارها نهارا متنكرا بزيِّ إمرأة يتجسّس أخبار الخونة متخفيّا بين قصورها ليلا خادما (صَفَا قُـصَّ) ليرويَّ حكايات المدينة المحصَّنة فيخادع ساستها حتى يسوس دسائسهم يستهوي عسكرها فيتوِّجـــوه ملكا وعريسا ل(صوفونيسا ) .

حين وضع الفتى الطريُّ خريج جامعـــة التاريخ رجليه على الأرض تحسَّس إسفلت المدينــــــة السَاخن وهو يلفح أُخْمُصَ قدميـــة لينقطع شريط ذاكرته الملحمي ويصطدم بجغرافيا المدينـــــة

ليشرع السَّائح الجزائري المبتديء أولى رحلاته خارج التراب الوطني والتي اختارها أن تكون مدينة صفاقس التونسية ليعبر من خلالها إلى رحلته التي إشتهى تسميتها ب “سندباد في الرحلـــــة الثامنة ” إلى جزيرة منسيّة تقع على تخومها وذلك بعد متابعته لشريط شهَّر سياحيّا لها ولروعة شواطئها وسواحلها ومع الخطوة الثانية علا صوت اللــّه من جامعها الكبيــــــــــر ليمســـح أحزان حروبهـــــا من ذاكرتهـــــــا .

وجدها مزدحمة بالوجوه المتعبــــة والفرحـــة تتداخل صور البنايات القديمة والحديثة تَنْفَتِحُ وتنغلــــق الفضاءات بحدائق ومقــــاه وساحات .

يَغْرَقُ مع المدينة في حراكها وزحامها الغير منقطع ظلّ صوت العجوز التي جانبته في الـطريق من العاصمة التونسية يَتَرَدَّدُ صداه بأذنيه تمتم به في خلوة بنفسه (بصفـــــاقس لا يجوع أحد هي مدينة الفقراء والسمك)

تاه في مدينة أخطبوطيّة رئتها تنفث سموم الصناعة وقلبها يدق للحب والحياة , مدينة تُصَــــارِعُ بقاءهـــا بين مصاف المدن المتوسطية العملاقــــة .

وبشهيّة رومنسيّة لِمَسَاءٍ صيفيٍّ شرع المغيب بالتهام الضِّياء بشراهــــة شاعريــــّة أسقطـــــــت شمسا هرمة ومتكاسلة على صدر بحر عجوز لتغفــــو .

بدا عليه العياء وبلغ منه التعب أشدَّه فانزوى إلى مقهى بحيّ شعبي اكتظّ عن اخره حتى نسائـه وأطفاله ’ عَمَّهُ صمت أَطْبَقَهُ فأحاله إلى حالة من الذُّهول عدا صوت تلفاز يبث على المباشــــــر نتائج الفصل في المدينة التي ستُحظى باستضافة الألعاب المتوسطيــــّة .

وحيدا بلباس قاهر الفراعنة بواقعة أم درمان الشّهيرة والذي ظلّ يحتفظ به برغم تقاعد صاحبـــــه متتبعا بذلك مودا أصدقائه من جيل العهدة الرابعة التي خلعت قمصان شيغيفارا و معطوب الوناس والحركات الإنفاصليّة والوجوه الفنيّة العالميّة فاختاروا ألوان محاربي الصحراء تقرِّبهم من بعضهم في المنافي ومدن الإغتراب تجمعهم أحيانا كأصابع اليد الواحدة يبطشون بها كلّ ما حام خطر من حولهم كما أنهم يرونها تزيد من أناقتهم ووسامتهم حتى يستهووا بها الحسناوات فيغروهنّ بالمغامرة

تورَّط هذا الفتى الصغيـــربهذا المقهى الذي قد لاتسرِّه عواقبه لاحقا ,وحين أعلنت الوسيمــــة برتقالة (بيسكارا ) الإيطاليــــّة النتائـــج بتتويج مدينة وهران الجزائرية عروسا للمتوسّط أجهـش الجميع في بكاء فضيع “هكذا هم الفقراء يبكون بصدق في الخيبـــات الوطنيــــة ويفرحــــــــون بالإستحقاقات المشرفة للوطن” قالها وعايش لحظات من البكاء الهيستيري الجماعي بسبب خيبة مدينتهـــتم بحظّ شرف الإحتضان .

أَوْجَسَ هذا خيفة في قلبه إلى أن قطع شيخ مسن صور المشهد الحزين حين صاح بأعلى صوتــه المحجرش “ وان تو ثري فيفا لالجيري فيفا وهران الباهية وهرن يا وهرن “.

عَمَّ بعدها التّصفيق والصّفير وبكل روح رياضيّة عاد الفقراء إلى طيبتهم وأقبلوا يهنئونـــه وعلى غير إكتراث منه للحدث سار إلى مبتغاه .

وحين صعد العبّارة التي تغصُّ بالمسافرين والعائدين فلاّحة وعمّال وتجّار وسوّاح وجوه متعبــة ووجوه مستبشرة وأخرى في حالات أنس تتأمّل الصّمت والزّرقـــــــة .

ودونما شعر جلس بجانبه بَدَتْ له ملامحه غامضة تحمل أسرار الصّحراء تارة ورائحة السّمـــك والبحّارة تارة أخرى .

يضع على رأسه قبّعة القراصنة وبشارب كث ولحية غزاهما شيب غزير رمقه بعينين عسليتيــن مملوءتين بالخدر تُوقِعُ ناظرهما في نعاس فضيع وحين تبسّم في وجهه زال قلقـــــه ظانّا منه أنّه من مافيا الموانيء الجزائرية التي يشاع عنها أنّها تتاجر بالأعضاء البشريّة وكل ماهو ضـــــــد الحيـــــــــــــاة .

سرَّه أيضا حين تيقَّن من خطابه مع أحدهم باللّهجة التونسيّة .وبلغ منه الهدوء مستقرّا حين ناوله كوب القهوة فتبادلا معا التَّحايا والتعارف .

إفترش اللَّيل المكان وعمَّت السَّكينة والهدوء وظلَّت محركـــات العبَّارة المتعبــــــة لوحدها تقاوم الصَّمت والموج وجاذبيّة البحر بانسياب ساحر باشر يحدِّثه بصوت هافت تنطفيء كلماته بألحان شجيِّة أتعبها الزَّمن وكلما أجابه عن بقعة جزائرية إلا وأعاد وأطنب الحديث عنها من صحرائها إلى تلِّها يعرف خفايا أسرارها يتحدَّث عن صراع بنو مزاب مع قبائل الشعانبــــة يروي قصصا بطولية عن بلاد القبائل والشَّاويَة يذكر أشعارا لمصطفى بن ابراهيم ويغنِّيــــها بصوت الشِّيخـــة الجنيَّة يتلو حكما لعبد الرَّحمان المجدوب .

يمصُّ بشاربيه السّوداوين المترهِّلتين السِّيجارة إلى أعقابها حتى يُفنِي تبغهــــا عن اخره , وحين تَفَرَّسَهُ جيدا عرف أنه من تلك البلاد التي يكسر جليدها سنان الجمال ذكَّره بدفء قهوة الفـــرارة التي تنضب على حطب الكرّوش الجبلي ونكهتها المميّزة بالشّيح البرّي الذي ينعـــش الروح عن أسراب الحمام بالحايك والخلخال والحناء ورائحة السخابات التي تغزو الأجواء حين يعبـــــرن .

لوحات كبيرة تفوق سنَّ الصّغير الذي اكتشف أن الشّيــــخ أكثر منه جزائريّة وحتى يُفْحِمَهُ أجهز عليه حين قال :ألست من تلك البلاد التي ضاقت صحراؤها بعقيدين فقتل أحدهما الآخر ؟

حينها إبتلع الفتى كلّ الكلام الذي بجوفه وعَلَقَ ريقه غُصَّةً بحلقه وحتى ينهي من خوفه استرجع حواره معه ذكَّره أنه من بلاد تبعد عن التي ذكرها بساعة أو يزيد إلى الجنوب الغربي .

حين سمع منه هذا عَلَتْ قهقهته أجواء العبارة مخترقة الصّمت وآذان الرّاكبين التي آنس أغلبيتها التي تعرفه وظلَّ يضحك بِشَطَطٍ جنوني ويحدِّثه بكلام يقطعه بضحكه إبن تلك البلاد الســـــَّاحرة التي أخفتها حسناء من بنات (تينهينات ) قاهرة الرّوم وماسخـــة الغــــزاة حجرا بجبلها إمرأة لا تنجب إلا الشُّهداء حتى غارت منها النساء فقالوا زانية .

فَوَارَتْ مدينتها أسفــــل هضبتها إلى الألف عام تُخْفِي حَكَايَاهَا وجمالها عن الطّامعين .

قطع عطب بالعبَّارة حديث الشَّيخ فانتاب السُّياح بعضا من هواجس القلق والفزع بينما تَحَلَّقَ من حولنا أهل الأرض و البحريسمعون قَصَصَ الشّيخ .

كنا كلما ضاقت بنا سبل الحياة نحن ساكنــــة الجنوب التونسي نفتح نافــــذة للرزق والحياة على الصّحراء الكبرى من (قفصة ) تعلَّمت طريقي مع القوافل واللُّصوص والمهرِّبين وحين إشتـــــدّ عودي سلبتني رحلة رالي “باريس داكار” التي كانت تعبر الصّحراء الجزائريــــّة الكبرى وبِبَلَدِ هذا الطّري تحديدا تبدأ حكاياتي مع السّرقات المحترفة .

ببلدته تتوقف وتعبر قوافل متسابقي الرّالي محترفة وهواة ومصادفة مع ذلك تقيم المنطقة وِعْدَتَهَا السّنوية لمتصوِّفة ومُرِيدِي الطّريقة الرّحمانية , كنّا نندسُّ بين الوفود الكثيـــرة ننعم بمائها وثمار جنانها وصفو هوائها وكرم أهلهــــا.

وفي اللّيلة الثالثة تكون المدينة قد أدركت منتهاها الملائكي بميتتهـــا الرابعـــــة بعد أن تجلَّت في لباسها الأسود فيهيمون كلّهم بعطر الجنّة وحتى بأبناء وبنات عيسى يداهمهم الديوان فيســـافرون مع الحضــــرة الربانيـــة دون إذن منهم .

حينها أكون قد إمتطيت درّاجة ياماها الشّرود وعلى وقع الهارلي دافيدسون أشــــــقّ طريقي إلى الباهية وهران أترك تلك البقعــــة السّاحرة خلفي مع الرالي الذي يشــقّ طريقـــــــه في الغد إلى الصّحراء الكبرى عبر بواّبة واحة الأغواط حفظت كل الطّرقــــــــات السّهلة والوعرة المخيفـة والمطمئنة أعرف حتى نقاط التّفتيش الحكوميّة التي اجتازها برشاوي أشرطــــــــــة فيديو إكس ومجلاّت الخلاعة ومنشّطات الجنس وبعض السّجائر الفاخرة .

أصلحت العباَّرة أعطابها واستأنفت رحلتها كما أستأنف هو حكايته , في الرّحلـــــة الأخيـــــــرة كان الزَّبون من مدينة وهران يسكن بحي كاناستال مهندس صوتيّات بديسكو مغــــــــرب أفرحه كثيرا مواصفات الدّراجة التي رآها مثاليـــــّة لتسجيل فيديو كليب للشّاب الذي لم يتوّج ملكــا بعد أذكره أنه كان بعنوان (لاكامال ) ومن طيبتـــه أَقَمْتُ للرّاحة ببيته يعيش رفقة أخت له فراشة بِقِدٍّ ممشوق هيفاء يومان كانا كافيّين أن تتأجّج لوعة العشـــــق والغرام في الصّباح الأخيــــر حين أوصلتها إلى مكان عملها بسوق الفلاح رمتني بقبلــــة هوائيّـــــة ملأت قلبي بكثير من الحيـــاة .

وعلى خلاف العادة لم أشعر بعيــــاء أو تعب في طريــق العودة الطّويــــل على إمتداد خلجان وسواحل وتضاريس جغرافيا متنوّعة لبلاد بحـــد قارة كنت قد عبرتها .

ومن سوء الحظ أنّها كانت الرحلــــــــة الأخيرة حيث انطفأ الحب والأحلام الجميلــــة بغتة فبعد مشاركتي في مظاهرات مناوئة لسياسة الدولة العنصرية في التّشغيل بمنجم الفوسفاط بقفصــــة دخلت السّجن بتهم سياسية ولولا ثورة اليــــاسمين التي حرّرتني مع كثير من المضلومين لكنت حفرت قبري بيدي هناك .

وعلى غبش صبح مبلّل ببريّة ليل بوهيمي أَفَلَ في النّور لتتعرّى بعده الحسنــــــاء جزيرة قرقنة لتبرز مفاتنها للناظريــــــن .

كان يسمع وهو فرح بعودة سندباده الصّغيـــــر الذي رآه توقّف في رحلتــه بالعبَّارة بَاتِـــــرًا من الرّحلة التي دفعه إليهــــا حتى يرى عمق الحياة لا الشهادة وحدها , حكاية منه جميلة توقعها ولم تكن بواحة عذراء قرب بئر وجِرَارٍ عَطَاشَى لصبيّة سقاها ماء سلسبيبلا .

فراح يردّد في صمته ( ماشابه الإبن أباه أحيانا ) .

كَّفَاهُ حينها عودتــــه سالما فبعد رحيل زوجتـــــه التي أوصته به خيرا في النظــرة الأخيرة وهي مستلقيّـــة على مقعد طاكسي يقلّهما إلى مدينة البليدة لحصّة التداوي بالكيميائي وحيده منها صار يؤنسه ويملأن حياتهما رفقةً تصادقَا وتمكّنَا من قتل عقدة (الأب ) بسلاسة وطالما جالسه تراءت له خيالتها أمامه يتذكر حديثها البسيط حين تشخص مرضها وتعرف أسبابه تؤسسه بتهم جاهزة للمفاعل النّووي بضواحيهم تراه سببا مباشرا لمرضها حين لوّثت إشعاعاته ماءهم وهواءهم فرّ من خيالاتها فتجمّعوا جميعــــا كثيرون بهذه الولايــــة المليونيّة من سحقهم هذا الخبيث بصمت .

ولاية لا يقرأ رقم سكانها في الأمراض والأوبئة والكوارث والرسوب والتسرُّب والجريمة……

يُقْرَأُ فقط في الإنتخابات المزوّرة حتى يملؤوا صناديقها بأصواتهم ,ولايــــة دائما تنهشها الذّاكرة الوطنيّة في تاريخها بظلم ترك كلّ هذا مع نفسه وعاد من بعيــــــد لعن فحمة الفوسفاط التونسية الذي جرّ عليه ريح الحب وحرّك جمراتها الهادئة .

ففي ذات صباح حين كان مهندس الميكانيكا الذي قتله والده بشهادة وفاة مزوّرة حتى يَقِيه حرب الرّمال التي فتحت شهيتـــها بقتال الأشقّاء في معركة” مقالــــــة “.

وهو يؤثّث لبداية يو

مه الجديد بقراجه للميكانيك فإذا به يسمع قهقهات مشحونة بأنغام أنوثة عذبة حين وصلت روزاعصفورة القولواز الفرنسية الزرقاء التي تحرّرت من أقفاص قصر الايليزي لتغرد على أرض الشرق مع كلوديا شموس البافاريا الصّافية وهما تدفعان بشبح الصــــــّحاري قاهرة الكثبان الرّملية ” لاندروفر” الرياضيّة التي تخلّفت كي يصلـــــح أعطابها.

حينها أغلق بابـــــه عام وليلة ” في عشق روميّتين ” وبرغم إلتزام أهل القريـــــة بعاداتهـــــــم الصّارمة إلا أنّهم تعاطفوا معه بل رأوا فيه بطلا قوميّا يشفي لا وعيهم الجماعي الشّقي بساديـــّة الإنتقام من الذّاكرة الكولونياليــــّة حسب تصوّرهم .

فاجأه الصّبح الموالي لثورة أكتوبر حين إقتحـــم البوليس السّري بيته ليواجه بعدها تُهَمًا بالتّخابر على الدولة و بالتّواطؤ مع الأجانــــب .


* عن مسارب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى