محمد صفوت - طيف.. قصة قصيرة

تقريبا كانتْ في منتصف الشارع العريق حين توقفتْ فجأة ، توقفتْ لأنها أحست بأن يدا تعرفها جيدا تداعب أطراف أصابعها ، وبأن فماً تفوح منه دائما رائحة السجائر يهمس في أذنها ، رغم غرابة ذلك كانتْ تشعر بارتياح غريب ، زوجها وأطفالها انشغلوا عنها بمتابعة بعض ماركات الهواتف في محل مجاور، خدر لذيذ يتسرب داخلها ببطء ، وعلى نفس إيقاعه راحت تتخبط في الزحام الكثيف على الرصيف وتشق خطوات هادئة كأن هناك من يقودها وسط هذه الجموع المتداخلة ، نعم هذا الشارع في وسط البلد ، أشياء كثيرة قد تغيرتْ بالتأكيد ، كان هناك زحام وسيارات وأتوبيسات النقل العام ، لكن ليس كمثل هذا الزحام الطاغي الذي يربك الروح ، منذ عشرين عاما كان يمكنك أن تتألف مع الزحام وضوضاء الشوارع ، كان يمكن لأطراف الأصابع أن تتشابك بسهولة وتكمل طريقها ، حركة العابرين والمارة لا تسمح بذلك الأن ، منذ عشرين عاما قالها لي هنا لأول مرة حين تدلينا من أتوبيس النقل العام ، همس بها في أذني ، قالها وسط أبواق السيارات وفوضى الشارع ، وعصبية رجل المرور ، ثم طوح سيجارته بأطراف أصابعه ، أول مرة لا يمكن أن تـُنسى ، نعم كانت هنا ، مررنا بجوار تمثال طلعت حرب بعدها ، كانتْ آخر سنة لنا في الجامعة ، هذا محل الأيس كريم الشهير ، المحلات تغيرتْ كثيرا ، طلبت وقتها فانليا بالفراولة ، اشترى لي سلسة فضة من أحد الباعة على الأرصفة ، فقدتُ هذه السلسة في المستشفى عند ولادة يوسف ، لا عند ولادة ملك ، كانت تحت الوسادة وضاعتْ ، أشياء كثيرة نفقدها في زحام الحياة ، واصلتْ السير شاردة ، كأنها تتنسم روائح قديمة تخصها وحدها ، شركة صوت القاهرة ، وقفت أمام الباب تتأمل الداخل عبر الواجهة الزجاجية ، ترددتْ ثم دخلتْ ، سارتْ بهدوء وبخجل ، تتطلع في المكان الذي تغير كثيرا ، من هنا كنا نشتري شرائط عبد الحليم ، آخر شريط كان لمنير ، استفاقتْ على صوت الموظف يسألها بود إن كان يمكن أن يساعدها ، ارتبكتْ ، كانتْ تحاول أن تتذكر ، كان ذلك في منتصف التسعينات ، كنا نـُخطط لأشياء كثيرة ، لم نكن نخطط كنا فقط نحلم ، يا مدام ، صوت الموظف ، عادت تنظر له في خجل ، لو تسمح أريد شريط منير ، قاطعها الموظف بدهشة ، شريط! ، نعم شريط " ممكن" ، ألبوم قديم ، كان في منتصف التسعينات ، جذب الموظف نظارته إلى أسفل ، تطلع لها من تحت عدساتها ، في منتصف التسعينات كان هذا ممكن ، العالم الأن لا يعرف الشرائط ، الأن توجد cd ، رن هاتفها ، جاء صوت زوجها عاليا يسأل بغضب ، أنتِ فين؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى