محمد محيي الدين مينو - ما حدث ليوسف.. قصة قصيرة

كالعنكبوت كان يتدلى من سقف الغرفة!‏

دخلت أمه في ذلك المساء الأسود غرفته، وألقت كعادتها نظرة على سريره، فراعتها وسادته التي تناثرت أحشاؤها في أرجاء الغرفة، واصطبغت بلون الدم، وكأن جريمة ارتكبت هنا الليلة. كتمت صرخاتها المتدفقة، وتمالكت أعصابها، وحين همت بالخروج من الباب لاحظت أن صورته المعلقة على الجدار قد تهشمت شظايا، حتى لم يبد من ملامح وجهه سوى عينين غائرتين، تترقرق في محجريهما دموع وحزن مريع. أجهشت أمه بالبكاء، وراحت ترقأ بيديها المرتجفتين دموعه الساخنة التي كانت تنساب على الجدار كنهر جارف.‏

من أعلى سقف الغرفة كان ينظر إليها نظرة حزن وأسى، ولكنه كان يحاول أن يكتم أنفاسه اللاهثة، ويحاذر أن يقوم بأي حركة، حتى لا تراه على هذه الحال الشنيعة. كان يعرف أنها تتقزز من العناكب، وترجو من أبيه أن يعسفها من أسقف البيت بالمكنسة، وكانت تلعن البيوت القديمة التي لا تجلب لأهلها إلا الفأل السيئ والعناكب والجرذان.. ولكنها منذ هوى أبوه من أعلى السلم يوماً لم ترفع رأسها إلى سقف، ولو نخر مساميكه الدود. كان يظن أنه كجبل فولاذي لا يهوي، ولا يلين، مهما زلزلته الأيام، ومهما عصفت برأسه الرياح.‏

حزن على حالها أشد الحزن، وراح يراقبها، وهي تبحث عنه، وتلملم ما تكسر من صورته وما تناثر من وسادته الدامية.. فكر أن يطمئنها على وجوده في الغرفة، ولكنه اكتشف أول وهلة أنه فقد صوته، وكأن أباه ليلة البارحة قد ألقمه حجراً، فأخرسه، وشل أطرافه، فلم يقو على الحركة، لكنه في منتصف الليل تحامل على نفسه، وزحف كالعنكبوت إلى أعلى الجدار، وهو يجر قدميه المشلولتين جراً، ويلهث لهاثاً مسموعاً.. تمنى أن يكون ما رآه وأحس به ليس سوى حلم من أحلامه المروعة، فأبوه ما زال مُقعداً في فراشه، لا يقوى على الحركة ولا على الشجار،‏

وصورته ما زالت معلقة على الجدار، تحتفظ بوجهها الزجاجي. تلمس جسده، فأحس أنه نحيل وأزغب، وتململ في مكانه، فشعر أن أطرافه قد استطالت كأرجل العناكب.‏

قال في سره مستغرباً:‏

-"كان أبي يرفع يديه إلى السماء، ويرجو الله أن يمسخني قرداً لا عنكبوتاً!".‏

لم تكن كلمة (أبي) تجري على لسانه منذ حرك قدميه أول مرة، فاكتشف أنهما مشلولتان، لا تقويان على حمله، ولم يكن أمامه إلا أن يتكئ على أمه أو على أحد أخوته، ولكنهم سرعان ما أخذوا يتذمرون منه، ويعيرونه بعاهته، حتى قرر أن ينزوي في غرفته، فلا يخرج منها إلا إلى القبر. كان أبوه يريده منذ صغره أن يقف على قدميه كالرمح، ولكنه حين رآه كحشرة زاحفة اتقد الغضب بين أضلاعه حقداً ضارياً عليه وعلى أمه، وكان كلما رمقه ببصره انتابه شعور بالذنب والخوف، وإذا سمع صوته الأجش ارتجف هلعاً كطائر ذبيح.‏

تناساه أبوه وأخوته الأربعة..‏

تناساه النهار وقطه الهزيل الجائع..‏

تناساه عكازه الخشبي..‏

تناساه معطفه الدافئ..‏

تناساه وجهه، وتنكر له، حتى إذا نظر يوماً في المرآة حار بصره، وارتاب في ملامحه وراح يسأل نفسه في بؤس ويأس: "من أنا؟"، وحين لم يجد جواباً جمع قبضته، وهوى بها على المرآة، حتى تحطمت، وتناثرت شظايا ووجوهاً شوهاء كوجه أبيه وأخوته الأربعة.. ومنذ ذلك اليوم نسي وجهه، ونسي اسمه واسم أبيه وأخوته.. ولكنه لم ينس وجه أمه، وهي تقبل جبينه كل صباح، وتمسح على رأسه اللاهب يديها المعروقتين.‏

بعد أن خرجت من الغرفة بهدوء، وهي تنشج نشيجاً متقطعاً، حاول أن ينزل من أعلى السقف: اطلع إلى الأرض، فرآها هوة بلا قرار، تعلوها خيوط لامعة متشابكة.. وما إن حرك أحد أطرافه حتى أفزعته أرجله المتعددة، وأيقن أن حقيقته البائسة ليست حلماً ولا كابوساً.. حرك أرجله، وراح يجر جسده الهزيل نحو النافذة المغلقة منذ زمن طويل، فقد كان يشعر بالاختناق، وكان يخيل إليه من خوفه الشديد أن السماء استجابت حقاً لدعاء أبيه عليه، والسماء لا تفتح أبوابها أيام الشدة إلا للآباء المتجهمين القساة..‏

تناهى إلى سمعه وقع أقدام كثيرة تقترب من غرفته، فأوجس منها خيفة، وكتم أنفاسه اللاهثة، حتى كاد يختنق.. وما إن ركل أحدهم الباب بقدمه حتى انفتح على مصراعيه، فاندفع أخوته، وأخذوا يتوزعون أثاثها بينهم، وهو ينظر إليهم في حسرة وأسى، حتى لم يبق منه إلا صورته المعلقة على الجدار وعكازه الخشبي المركون في إحدى الزوايا منذ زمن بعيد. ولما انتهوا راحوا‏

يسددون سهامهم الدامية إلى وجهه في الصورة، فانبجس الدم من أنفه وعينيه المذهولتين، وسال على الجدار، حتى غطى الأرض.‏

راعه ما فعله أخوته الأعداء به، فتجمد في مكانه في ذل وانكسار، وخيل إليه أنهم لو اكتشفوا حقيقته المرة لأتوا عليه بمعسفة أبيهم، وداسوه بأقدامهم، فأطبق عينيه المذعورتين، وانزوى خلف خيوطه اللامعة المتشابكة، وهو يرتجف خوفاً وهلعاً.. ومن بعيد سمع أحدهم يقول لآخر في صلف وحقد:‏

-"لم يبق منه إلا عكازه الخشبي".‏

وقال الآخر، وهو يتنهد بارتياح غامر:‏

-"سنتكئ عليه في شيخوختنا".‏

وقال الثالث مستهزئاً:‏

-"لا نريد شيئاً يذكرنا به".‏

وقال الرابع ساخراً:‏

-"احفظوا ذكرى أخيكم الصغير يوسف".‏

ولما رجعت الأم إلى غرفته من جديد، تناهى إلى سمعها لغط شديد، ينبعث منها، فتوقفت على الباب هنيهة، تسترق السمع، ولكنها لم تفهم ما يحدث فيها، فارتدت إلى الوراء، وتريثت في الدخول قليلاً، وحين تعالت الأصوات، فتحت الباب، ودلفت إلى الداخل، فراعها أن أولادها الأربعة مسخوا بين ليلة وضحاها قروداً هوجاء، أخذت تحطم كل ما وقعت عليه. وما إن لمحها أحدهم حتى هاجمها بلا اكتراث، فانطلقت من أعماقها صرخة حادة، وهوت على الأرض جثة هامدة.‏

في تلك اللحظة فتح عينيه، فرأى من بعيد شمساً توشك أن تأفل، وهي تغمر وجهه الشاحب بصفرة الموت. لف على عنقه خيطاً لامعاً، وراح حثيثاً يتدلى كالعنكبوت من أعلى السقف.‏
أعلى