محسن يونس - فانتازيا فرقة المزيكة.. قصة قصيرة

... فلما سطعت الشمس ، وامتلأت الشوارع بالناس ، جاء التكليف فى محل الفرقة ، من أحد أغنياء العصر والأوان لحضور حفل ختان طفله ، البالغ من العمر الثلاث سنوات ، نُبه على ريس الفرقة باصطحاب الفرقة بكامل أفرادها ، عليهم أن يركبوا لنشا لقطع البحر ، ثم النزول لركوب أحصنة تحضرهم إلى قصر الثرى ، ساكسفون ، ترومبيت ، كلارنيت ، طبلة كبيرة ، طبلة صغيرة ، مع دف ورق ، مع من يقرع الكوسات ، وربابتين ، وثلاثة من نافخى المزمار، ومغن وحيد صييت للفرقة ..
فى البقعة العتماء من المحل اطمأن ريس الفرقة على وجود الأفراد ، وهم يغيرون ملابسهم العادية إلى لبس خاص بالفرقة ، وسمع نفير حافلة تستدعيهم ، صاح : " كلكم إلى الخارج فى نظام .. طابور .. المهم المظهر يا فنان منك له .. "
نافخ الساكسفون تقيأ وسط البحر ، قالوا إن معدته ضعيفة ، رغم أنه قوى الرئتين !
قبل أن يصلوا إلى اليابسة رأوا كثافة الأشجار ، أدلى قارع الطبلة الكبيرة بملاحظة : " وصل إلى سمعى أن الأشجار فى هذا البلد تتكلم "
سخروا منه قائلين : " ووصل إلى أسماعنا أنك تستطيع الكلام مثلك مثل البشر "
ضجوا بالضحك ، حتى أن ريسهم اضطر أن يرفع صوته ، منبها عليهم أن حركتهم زائدة مما يخل بتوازن القارب الذى يحملهم ، وأنهم ما زالوا فى البحر ، صمم الرجل على أن ما يقوله عن هذه الغابة ، التى سوف يقطعونها قبل الوصول إلى قصر الثرى حديث أكده زميل فى المهنة سبق أن مر بها : " أنت كرنبة متكلمة " صاح بها ريس الفرقة فى وجه الرجل ، عندها نظر البقية إليه ، فجودوه قصيرا أكرش ، فأكملوا : " سوف يكون مصيره فى النهاية حلة بها ماء يغلى لعمل المحشى "
بين ضحكاتهم أعاد الرجل من البداية الجملة التى أثارتهم ، فاستمعوا إليه هذه المرة بانتباه حائر ، لم ينفرج فم أحدهم عن تعليق ساخر ، مثلما فعلوا فى المرة الأولى ، قال الرجل ، دائرا بنظره بينهم ، وهم يقفون على اليابسة ، فى انتظار الخطوة التالية فى رحلتهم : " وصل إلى سمعى أن الأشجار تتكلم فى هذا البلد !! "
لم يخفوا شكهم فى قواه العقلية ، قال بعضهم إن عقل ضارب الطبلة الكبيرة أصابته رجة لكثرة تعرضه لصدى ضرباته على وجه الطبلة ، نادى رئيس الفرقة أن يلتزم الجميع بالأدب فقد وصلوا إلى حافة تلك الغابة ، وعليهم اجتيازها .
وجدوا على بداية الغابة – كما قيل لهم من قبل - ناسا تؤجر الأحصنة ، ومن باب الترف ، وشوق لممارسة بعض الأبهة ، استأجروا أحصنة بعددهم ، وتنازلوا عن حصان أبيض طويل شعر العرف ، رشيق وتبدو قوته الجسدية ظاهرة لريس الفرقة ..
تصايح الجميع عندما رأوه فوق الحصان ، جميلا ولائقا ، وله حضور يفخرون به، وبأنهم فى معية مثل هذا الرجل ، تبعوه فى طريق بشكل يبدو أن الأحصنة مدربة عليه ، إذا تراصت وحدها فى صفوف أربعة أربعة ، والحقيقة أن الطريق كان بالفعل يتسع لأربعة أحصنة ، تحازى بعضها بعضا ، نظروا إلى الدليل من أهل البلد ، كانوا قد رضوا بفرض نفسه عليهم عند تأجير الأحصنة ، صاح ألا يشغلوا بالهم فالأحصنة تعرف طريقها ، بعد أن ساروا نحو الكيلو مترا فجأة أطبقت الأشجار من كل ناحية عليهم ، وبدا على الأحصنة الارتباك والذعر ، هنا طلب منهم الرجل الدليل الترجل من فوق الأحصنة وسحبها من مقودها ..
تصاعد صهيل غاضب ، وقاومت الأحصنة محاولة سحبها ، وظلت تقاوم حتى تحررت ، ثم انطلقت تعدو ، مخلفة الريس وفرقته على أرضية الغابة ، قال الرجل الدليل إن هذا يحدث وسوف يجدون الأحصنة على حافة الغابة ، عند الخروج من بين أشجارها ، عادوا يصطفون بانتظام صارم خلف ريس الفرقة ، بدأوا بعدها السير ، حتى أنه قال لهم لا تفعلوا ، نحن فى فسحة ، ولكنهم ظلوا خلفه ، محافظين على التشكيل الثنائى لطابورهم ، قال ضاحكا ، ملتفتا إليهم : " كأنكم تورطوننى فى شىء لا أعرف طبيعته يا أبالسة ؟! "
عندما اقترب ريس الفرقة من الأشجار ، مد يده تقبض على غصن ، صاح بدهشة ممزوجة بشىء من الفزع : " أرأيتم ما رأيت ؟!
" وماذا رأيت يا ريسنا؟! "
" الفرع جاء نحوى ، يلبى كأن أمه الشجرة قرأت ما كنت أنوى فعله !! "
" يا رجل لا تتوهم أشياء !! "
بعدها مباشرة أشاروا إليه ، كانت إشارتهم تحمل شيئا من الإغراء ، لفعل ما يطلبونه منه ، بلا تلكؤ : " ادخل .. ادخل بين الشجر .. هناك ثمار حلوة .. نرى رحيقها تشف قشرتها عنه "
التفت خلفه صارخا : " أين أنتم يا فرقة المزيكة؟! "
" نحن خلفك .. لماذا تصرخ ؟! "
رآهم هناك بعيدا ، هز رأسه ، مد يده ، يريد الإشارة لهم بأن يقتربوا ، أمسك بوجه رجل من رجال المزمار ، انتفض عندما صرخ ، وهو ينتر يده : " ماذا تفعل يا ريس؟! .. إصبعك دخل فى عينى "
" ولكنكم بعيدون عنى !! "
" أتسخر منا ؟! نحن خلفك تماما .. "
أراد أن يثبت لهم حسن إدراكه ، فطلب من رجل الدف أن يحاذيه كتفا بكتف ، شعر بأن كتف رجل الدف يدفع كتفه بالفعل ، فلما نظر لم يجده ، صرخ مرة أخرى آمرا ، فجاءه صوت رجل الدف واضحا قرب أذنه : " أقسم لك أننى ملتصق كتفى بكتفك .. أنت الذى يتصور أشياء!! "
تساءل : " هل يمكننا قطف هذه الثمار؟ "
هل أراد أن ينفى عن نفسه دخوله فى نوبة مرض غريب ، ربما أثار سخرية أفراد الفرقة ؟!
قال لهم الرجل الدليل إن هذه العناقيد حلوة المذاق ، ويمكن لريس الفرقة قطف ما يحب منها، رفع يده ، جاءه العنقود مستسلما ، لراحة يده المتكورة على حباته ، سحب يده بسرعة ، عشرون أو أكثر من العيون تنظر نحوه فى دعة : " ثمار هذه الأشجار على شكل عيون ترى وتتحرك .. هل ترون ما أرى؟! "
نظر للخلف فوجد أفراد الفرقة يضعون أذرعهم ترتاح على أعلى بطونهم ، ولا يتقدمون من الأشجار ، قال فى نفسه : " لماذا لا يتقدمون مثلى ؟ هل هناك مكيدة ؟! " ،
صاح فى اتجاه الرجل الدليل : " هل تأكلون تلك الثمار العيون ؟! "
جاءته الإجابة أن عليه نزع العنقود ، جاعلا حدقات العيون عكس مسكته ، فلا يجعل العيون تنظر إليه ، وبعدها يأكل كل حبة وحدها ، تأكد لديه أن الجميع يمارس لؤمه ، وأنهم يوقعونه فى شر أعماله ، وبعدها تنطلق ضحكاتهم وسخرياتهم ، قال وهو فى نيته يريد اكتشاف نواياهم : " كأنى آكل عيونا إنسانية حية ؟! "
جاءه صوت أفراد الفرقة : " ولماذا تراها هكذا ؟! عليك التخلص منها بأكلها طالما مددت يدك إليها"
" ولماذا لا تمدون أنتم أيديكم وتأكلون ؟! "
اشتم تغييرا فى لهجتهم ، ولم يصدق أن يخرج من أفواههم مثل هذا القول : " توغلت العيون جواك وأمسكت بأسرارك الخفية ، وسوف تفضحك .. اطحنها بين أسنانك قبل أن تفعل"
لم يصدق أن الرجل الدليل يؤمن على صحة كلامهم : " هذا صحيح يا رجل سوف تعلن هذه الثمار أسرارك ، وتصبح مفضوحا .. "
صاح غير مصدق : " الثمار ؟! "
تزاحم أفراد الفرقة خلفه يحثونه بطريقة عكسية ، حتى أن بعضهم كان يدفعه من ظهره ، بشكل خرج عن حدود اللياقة والانضباط ، الذى يوجد عادة بينه وبينهم ، كانت أصواتهم تحيط به كالسوار ، بعضهم يصيح :: " لا تأكلها .. ابتعد "
والبعض الآخر يصيح : " دعنا نعرف شيئا من المخبوء جواك .. ربما عثرنا على طرفة .. "
انقسموا لفريقين ، فريق يطلب منه أن يقدم على تجربة أكل الثمار العيون ، والفريق الثانى يرجوه ألا يفعل ، ليواصلوا سعيهم نحو قصر ذلك الثرى لتقديم التهنئة ، ثم فقراتهم المتتابعة ، التى تحركوا من محلهم وبلدهم لأجلها ..
كل الأشجار كأنها تحسست ، وشمت ولمست قلبه المتسارع الدقات ، ونبضه الحثيث داخل عروقه ، فشرعت عناقيدها نحوه ، رأى العيون تحاصره ، تغيرت نظرتها الآن من دعة سابقة ، إلى لون رصاصى كامد ، التفت للخلف ، فتح فمه ولم يجد لسانه ، لأنه لم يجد أفراد الفرقة فى المكان ، رجع لسانه إليه ، فهو ينادى عليهم الآن ، وزاد ترهيبا لهم بأنه سوف يوقع عليهم عقوبة الخصم من أجرهم ، عند عودتهم ، قوة أخرى أرجعته ينظر إلى الأشجار، متناسيا أفراد الفرقة وتهديده قبل ثانية من الزمن ، قوة مباغته تدفعه لفعل ما يفعل مع الأشجار ، أحاطت به عيون الأشجار ، وثمارها القريبة منه تحدق فيه بثبات ثاقب ، تخلعه من ملابسه ، تشبث بها وهو ذاهل عن التركيز ، إلا أن العرى ماثل فى ذهنه ، عارٌ ومحنةٌ تتبدل إلى دعة ورغبة ، سمع صدح مزيكة بلحن مميز آت بين جذوع تلك الأشجار البعيدة عنه ، ظلت المزيكة تأتى من شجرة تسلم لشجرة ، كانت المزيكة هامسة ، مع نقيض يحدث له ، إذ تسلل رعب وداخله دخولا عصيبا ، مع أن هذه النغمات يعرفها من سنوات مضت ، ونسى إيقاعها مع مرور الأيام والسنوات ، هل تنشط ذاكرته ؟!
كانت العيون تمتلىء بطيبة بادية ، فمن أين يقتحمه الرعب ؟! هل لأن العيون تلونت بلون أحمر دموى ؟ وهو مسلوب الإرادة يبادلها التحديق ، هل فكر فى أفراد الفرقة ، وموقفهم الغريب مرة أخرى ؟
بعد زوال بعض الذهول؟ هل وقع فى نفسه الانتقام منهم عند العودة حقيقة؟
كانت أغصان الأشجار تطبق عليه ، إذا نظر لأعلى ، فلا يرى السماء !!
فجأة تحولت العيون إلى حناجر تخرج سبابا ، فى نهايته زجر ومشاكسة : " أنت وحدك ولا أحد معك ، حتى لو كنت محاطا بمليون نفس .. تحرك إن كنت قادرا "
ما هذا التحول ؟! وما أسبابه ؟!
فى الحياة يحدث ذلك الخلط بين الطيب والشرير من الأمور ، وهل أنا خارج الحياة ؟! أنا فى الحياة ، أنا حى ، وإلا ما آلمنى هذا الصراخ !!
ثمار أولا ، ثم عيون ثانيا ، ثم حناجر ثالثا ، نفخت الحناجر رياحا شديدة الصقيع ، تخابطت أسنانه ، احتضن جذع شجرة ، مالت الشجرة مع الرياح أولا ، ثم انخلعت جذورها من تربتها ، وارتمت على الأرض تصدر منها أنّات معذبة ، وسط دمدمة عاصفة الرياح ، كان يطير ، ويعلو فى طيرانه ، ذاهبا بعيدا مارا على قباب ومبانى البلد ، وقد رأى القصر والثرى يمارس مهامه ، ولا شىء يجعل الناس أو الثرى يحول وجهه نحوه ، وهو يطير على مقربة منه ..
هدأت الرياح فجأة ، وكان يسقط من علو على خطر مغشيا عليه ، بعد ثانيتين استيقظ على سقوطه من فوق أريكته المعهودة فى محل الفرقة ، مبديا دهشة وعجبا !!
كان أفراد الفرقة يبحثون عنه ، عندما رجعوا يحملون معهم حمولة عناقيد ذات ثمار تشبه العيون، حوصر الجميع فى سؤال كبير ومخادع : هل كان ريس الفرقة يحلم ، على هدهدة مشية حصانه؟!
كانوا على حافة الغابة من الجهة الأخرى حيث يشاهد قصر الثرى على بعد قريب !!
إذن فأفراد الفرقة كاذبون فى التأكيد على أنه كان معهم ، وهذه العناقيد ذات الثمار التى تشبه العيون ، لا تعنى شيئا مما ذكر عنها ، وعن الأشجار المنزوعة من فروعها ، انتهت الحوارات التى داخلها الكثير من الحلف والقسم ، إلى أن الغموض يظل غموضا ، وأن راحة البال فى تركه على ما هو عليه ، وها هم يتناولون الثمار ، وجدوها رائعة المذاق إذا لاكوها بسرعة ، أما لو حاول أحدهم إطالة فترة المضغ واستحلاب رحيقها على مهل ، تحولت إلى طعم مر يثير المعدة ويقلبها ..
كانت فصول الرحلة تهاجمهم بكل دقائقها ، ولا استطاعة يملكونها ، ليرشوا ذاكرتهم ، فتتخطى الوقائع التى حدثت مع ريس الفرقة ، ولا يعرفون تحديد موقعهم منها أو مكانهم بالنسبة إليها ، ولكنهم ما كانوا يعيشونه هو سعيهم على أقدامهم ، مع هندمة ، وصب بعض العطر ، التى تفوح منهم روائحه ، وهم الآن على مشارف أبواب قصر الثرى سيقدمون فيه فقراتهم ، مرورا بزينات ملونة معلقة فى الشوارع ، وسماع طلقات متتابعة تطلقها المدافع ألعابا نارية كأنها نيازك صغيرة ، تتشكل بأشكال تهطل ببريق لماع على خلفية سوداء للسماء الليلية ، تعمد أفراد الفرقة حينئذ السير خلف ريسهم متأدبين ، وهم يمنحون بعض أفراد من البلد كلمات مهذبة ، حاولوا جاهدين معها ، عثروا عليها صدأة ، راكدة فى قيعان جماجمهم ، فأخرجوها هيابين ألا تكون مصيبة الغرض ، وهم يحنون الرؤوس يمينا ويسارا !!
استقبلهم رئيس التشريفات بالقصر كما قدم نفسه ، ، فظنوا أنفسهم أصحاب سيادة ، نفخوا صدورهم ، وأرجعوا رؤوسهم للخلف ، تنظر عيونهم لأعلى !!
وهم يتبعون رئيس التشريفات فى قصر الرجل الغنى ، قال المغنى لمن يجاوره غامزا بعينه نحو رجل التشريفات : " صاحب القصر هذا جبار .. إنه يعيش كملك !! "
زغده زميل الفرقة هامسا : " لا شأن لنا .. ومع ذلك من جاور السعيد يسعد ، ربما أصابنا الخير "
أشار رئيس التشريفات إلى عطفة فى رواق طويل ، ثم ساروا فى رواق آخر كانت تنبعث منه رائحة طيبة ، غلبت أنوف أفراد الفرقة فكانوا يعبون الهواء ، ويضنون بخروجه فى الزفير، انعطف من هذا الرواق إلى طريق طويل ، على جانبيه زرعت ورود حمراء وصفراء وسوداء ، جذبت انتباههم لندرتها ، هل قطف واحد أو اثنان منهم من هذه الزهور الغريبة بعضا منها ؟ واشتعل غضب ريس الفرقة الذى أطفأته يد رئيس التشريفات ، حال اشتعاله براحة يده التى مررها على صدره ، ارتبك ريس الفرقة شاعرا بالخجل لثورته ، وغمغم معتذرا شاكرا فى نفس الوقت ، بينما لم يستمر تأدب أفراد الفرقة على حاله ، ازدحم القصر عند نهاية الطريق الطويل بالصخب والقهقهات ، وهم يدلفون إلى قاعة واسعة لم تستطع عيونهم ، وقوة أبصارهم أن تحيط بوسعها المهول ، مكتظة بالرجال والنساء ، حاول ريس الفرقة تغطية عرى رئيس التشريفات بسرعة ، ولام نفسه علنا ، معتذرا عن فعلته غير المقصودة ، كانت العباءة بين يديه ، حاول أن يضعها على الجسد العارى ، بعد أن داس على ذيلها فظلت تنسحب عن الكتفين حتى سقطت على بلاط قاعة الضيوف الفارهة على وسعها ، إلا أن رئيس التشريفات أقسم أنها لن ترد إليه ، وأنها أصبحت حقا لريس الفرقة ، توقف الجميع عن صخبهم : " أنت عار يا رجل ؟! "
فرقع رئيس التشريفات بإصبعيه ، فجاء على الأثر أحدهم ، وهو يحمل على ذراعيه عباءة أكثر فخامة ، ألبسها له ، نظر مبتسما نحو أفراد الفرقة وريسهم قبل أن يقول : " أنتم خبثاء رجال فرقة المزيكة تستعجلون موعد العرى "
لا أحد منهم توقف عند هذه الملاحظة ، الخاصة بالعرى ، رأوا النساء يزحمن القاعة الفسيحة المهولة الوسع ، لعن بعضهم ما فعلته الحياة ليكون على ما هو عليه ، بعضهم لام نفسه ومحيط أفقه الضيق رغم وسع الفضاء من حوله ، بعضهم شعر بضآلة قِلَّتِهِ وَضَعْفهِ ، أراد مغنى الفرقة الصيت أن يصدح بموال فى نفس المعنى ، إلا أن ريس الفرقة لحق به قبل أن يفتح فمه ، زاجرا له ، منبها عليه أن يدخر جهده لغناء هذه الليلة ، وطلب من الجميع تقديم أفضل ما عنده ، لأن الرياح تأخذهم لوفرة أجر ، وحسن ضيافة ، لم يكونوا إليه منتبهين ، أمسكوا بكمه ، فلما نظر إليهم تتبع عيونهم وأين تنظر ، كانت النساء من حولهم كثيفات الشعر ، سود العيون لامعة لا أثر لحمرة أو اصفرار ، مبسوطات الأنوف ، مدورات الخدود ، لهن شفاه حمراء شهية ، حين تكلمن ظهرت أسنانهن جواهر بيضاء غير عالق بها صفرة أو سواد ، تنبت من لثة حمراء صحية ، بعضهن طويل الرقبة ولا تظهر رمانة البلعوم بها ، مسلوبات الجيوب مع ذلك ، فى استواء مع البطن ، فإذا التفتن وقعت عيونهم على خلفيات كاملة الاستدارة ممتلئة بغير شذوذ مع أوراك تستطيع اليد المسح عليها ، فتنزلق دون إعاقة من لحم زائد أو دهن متراكم ، عند التجربة التى انساقوا إليها طائعين من غير إجبار ، بل كانوا طالبين لها راغبين فيها ، وهم يبعدون آلاتهم كأنها شىء لا لزوم له ، أو شىء مكروه ، وجدوا أرجلهن ممتلئة فى رقة ، وفروجهن ضيقة ساخنة بلا وسع أو شق ، رأت عيونهم أيضا الكثير من سلال وأطباق واسعة الدائرة ممتلئة بالفواكه الحلوة ، شمام مقطع على هيئة أهلة ، معه بطيخ شديد الاحمرار بلا بذور ، وموز أصفر مكتنز طويل ، وكاكا ناضجة دون سوء ، وتين مشقوق، وعنب أسود وأصفر رقيق الغشاء ممتلئ بالسائل العذب ، وتمر بلح ، وحمضيات من برتقال ويوسفى ، وكيوى ، وأناناس ، وفراولة ، ثم بقية من فاكهة نصف حامضية ، خوخ ، ومشمش وكمثرى ومانجو ورمان ، فى غير موعدها أو فى موعدها ، ولحوم طيور ولحوم أبقار وغزلان وخراف ، مشوية فى التو تحتفظ بسخونتها ، يتصاعد منها بخر رائحتها الطيبة ، وأسماك من كل صنف ونوع مطبوخة ومشوية مسلوقة ومقلية ، أما المحار فكان فى أطباق شوربة ، أو فى أطباق على حوافها سكاكين وآلة يعرفونها لزوم فتح المحارة وشفط ما بها فورا ، دخل كل واحد منهم إلى غرفة يصطحب امرأتين إذا كان قنوعا ، أما من كانت نفسه أمارة فاصطحب أكثر ، هذا حدث فى البداية ثم دق على كل باب ، وظهر رئيس التشريفات يقول لكل واحد من البحارة : " أراك وقعت فى فخ المتعة ، ولست قنوعا أو شكورا !! "
فيجيبه فرد الفرقة : " أى فخ تتحدث عنه أيها الشيخ ، لا قناعة فى المتعة ، اتركنى وأغلق الباب"
يتراجع رئيس التشريفات بظهره نحو الباب صامتا ، ويغلقه ..
خمسة عشر رجلا وريسهم معهم ، هم قوام فرقة المزيكة ، ظلوا على دهشة غائرة لا تذهب من وعيهم ، ولا تغادر محياهم ، رسمت حفرا بأزميل ودُجنت فى نفوسهم ، غمرتهم شمس الصبح فى أحد حدائق البلد عرايا ، اضطروا لسرقة ما يستر أبدانهم ، كانت ذاكرتهم تبحث وتُجد ، ليس فى سبيل معرفة ما حدث ، وهم يقفون مرتعشين أمام البحر ، كأنهم لأول مرة يرونه ، لماذا تتسارع أمواج البحر خلف بعضها البعض ، هل تتحدث الموجة قبل تلاشيها عند اصطدامها برمال الشاطئ؟ وهل يجر البحر موتاها ليصنع منهم موجا جديدا ؟ لم يتحدثوا مع أحد ، ذاكرتهم التى تجد وتبحث فى ذلك ، ترفض فى نفس الوقت هذه الأسئلة معتبرة إياها من ألاعيب ذاكرة الطفل ، الذى ودعوه فى أنفسهم من سنوات ، ما كان يثير فيهم الغيظ أنها تعود مرة أخرى ولا تموت ، ما شاهده واقتنع به الناس المزدحمون عند موقف المراكب والقوارب ، فى شط البحر ، عندما يلتقون هؤلاء وريسهم ، هو أنهم فقدوا بوصلتهم ، الذين قالوا بها أكدوا مع قولهم أنهم بالطبع لا يقصدون البوصلة الآلة ، بل يقصدون بوصلة النفس والروح ..
انتظر الجميع منهم أن يصعدوا إلى أى قارب من تلك القوارب التى تذهب وتجيىء ، ليحملهم أحدها إلى بلدهم ، كانوا يتسكعون فى الشوارع هائمين ، عندما طلب منهم مرة أن يعزفوا فى لمة بحديقة من الحدائق : " ألم يئن الأوان لتعزفوا من أجل عملكم ، ومهنتكم ؟ "
" أى عزف ، و أى عمل تقصد ، وأى مهنة؟ "
" ألا تعملون فى فرقة مزيكة؟ إذا لم تمرنوا أصابعكم وعقولكم ، سوف يكون صعبا عليكم العزف "
باستنكار يصيح أفراد الفرقة وريسهم : " لم نعزف من قبل أبدا ، بل نكره المزيكة أصلا "
" ماذا بكم ؟! ما الذى أصابكم بهذا العطب ؟! عن أى شىء تبحثون فى هُيَامُكم؟! "
كانت الكلمة التى أجابوا السائلين بها تخرج من رئاتهم ، حارة ومتلهفة قبل وبعد أن تتحقق على ألسنتهم : " الجنة .."
تتبدل الفصول ، وتهدم مبان ، يعاد هندسة وتنظيم الشوارع ، يبدو البلد مغايرا لما كان عليه حينما بدأوا بحثهم ، يموت منهم صحاب ، يختلف الزمن باختلاف ناسه ، يجيء ناس يجعلون الزمن يشبههم ، الغريب أنهم رغم ظهورهم بمظهر من شرب مخدرا ، إلا أنهم مازالوا يتذكرون ضارب الطبلة الكبيرة ، وحكايته عن تلك الأشجار ، التى تنبت ثمارا تشبه العيون ، ويمكنها أن تتكلم ، يطلبون منه أن يقصها عليهم ، كلما أصابهم تعب السعى والبحث ، كانوا قد بدأوا رحلتهم مع إغراء البقاء ، ونقيضه حلم العودة!!

* الجمعة 25-1-2019


أعلى