فتحي مهذب - القطة السوداء.. قصة قصيرة

الشجرة المعمرة العمياء تتحسس بأصابعها الطويلة المغضنة المتشابكة زجاج النافذة التي تشبه نافذة مظلمة في كنيسة مهجورة.
لتوقظ( ن) كما لو أنها أم مسكونة بسحر الأمومة الأزلي.
شجرة وحيدة حزينة تقف على ساق معقوفة إختفت عصافيرها في مكان ما من هذا العالم. قد تكون الأسباب ملغزة شائكة.
هذه الشجرة شهدت جنازات كثيرة في هذا البيت المتداعي.
وقاسمت أهاليها الحلو والمر.
لم يبق الآن أحد غيره . ماتوا جميعا بوباء الكورونا بعد هجمتها الشرسة على بني الإنسان.
حتى القطة السوداء التي كانت تؤنسه آناء الليل وأطراف النهار نفقت منذ أيام يبدو أن رئتيها أصيبتا بجرثومة مستعصية لم يقف على حقيقة جوهرها جهابذة البياطرة.
جائحة تصيب القطط كل مائة سنة كما يتداول لدى كبار السن.
تشبه جائحة الكورونا.
وثمة فرضية أخرى قد تكون مساوقة للحقيقة وهي وضع مادة سامة في غذاء مغر قد أودى بحياتها من قبل أحد الجيران الذين يكنون حقدا دفينا للحيوانات المنزلية وهذا متداول لدينا وبخاصة في الأحياء الشعبية التي لا تقيم وزنا لهذه الكائنات التي لا تعترف بكثافة الجدران وتنهد أحيانا إلى اكتشاف وغزو منازل الآخرين.
كان (ن) حين يختلي بنفسه يقلد مواءها المتقطع بشكل مذهل ويناديها بعبارات لطيفة كما لو أنها لم تزل على قيد الحياة.
حبيتي تعالي ها هي سمكة لذيذة في انتظارك.سأختار لك شريكا يليق بفخامتك. بجزالة طبعك المرن وروحك المتوهجة.
سيكون قطا فحلا قادرا على تمزيق بكارتك في رمشة عين.
ستحملين بسرعة فائقة وتنجبين قططا على قدر عال من الجمال والذكاء والخفة والرشاقة.
لكن القطة لم تكن حاضرة إلا في مخياله الشاسع.
بينما كان يجلس (ن) على كرسي خشبي رث غاطسا في تأملات لم يجن من ورائها غير مزيد من الأوجاع إذ غزاه صوت نابع من قاع عميق لا ضفاف له.
قطتك لم تنجب ولو فأرا ضئيلا
برغم عهرها وميلها إلى ممارسة الجنس مع قطط شتى .
ألم تنكمش في غالب الأحايين وتتضاءل حد إستحالتها إلى قطعة من البلاستيك أو قطرات من الزئبق لتمرق من شقوق الباب المليء بالتخاريم والشقوق.
لتمنح جسدها البض لأول قط وافد من الخارج ولو كان أفظع لص في الحارة. المهم أن يتسلق مؤخرتها ويطلق رصاصاته في أستها الحارق.
وهكذا يتداول عليها الغرباء من القطط اللقيطة دون مقابل.
وبرغم هذا لم تكن تفارق البيت طويلا.تتكوم مثل كرة من قماش رديء زائغة العينين مشبعة بنعاس عارم مأخوذة بمغامراتها الجسدية المكرورة.
يرتمي (ن) صوته مثل قطعة معدن في الحجرة الضيقة.
أنت تشبهين أمي تلك المرأة البائسة وهي تتخبط تحت كلكل الثور الشهواني الأهوج زوجها الثاني الذي اختلس ما تبقى من مشمش شبابها بعد هروب بعلها الأول إلى مدينة الضباب.
حين كنت أنام تحت سريرها الكلاسيكي مثل ذكر حمام مذعور.
مصغيا إلى تساقط الآهات على رأسي الصغير وصراخ حلمتي ثدييها بين مخالبها. مصغيا إلى زلزلة السرير وعواء العضلات وصفير الشهوة المتوحش فأتحسس عضوي الذكري موقظا وطاويط كهفي السفلي منتشيا بأنين الكمنجة الغريزية التي تنبعث من مفترق جسدين يتلوان قداسا فخما في كنيسة الروح المكتظة برائحة الخبز والنبيذ. رائحة الصلصال المحترق وأزهار الأكاسيا.
لقد اكتشفت تفاصيل جسدي تحت سرير والدتي في أعماق الليل حين يحمحم جسدها في غابة اللذة المترامية الأطراف مناديا الحصان الجامح الذي يقاسمها السرير.
وفي هذه البؤرة الموحلة انطلقت مهرة عادتي السرية لتكون جزءا ضروريا حميميا في حياتي المهزوزة.
إن (ن) لا يهاب الأوبئة ولا يخاف الموت لأن علاقته بالأشياء فقدت طعمها ولونها وجوهرها.
هو مثل قطته السوداء لم يتزوج ولم ينجب بيد أن له علاقات كثيفة بنساء كثيرات ما فتئن يشبعن نوازعه الداخلية المشتعلة.
لقد تعفنت روحه وشاخ جسده وها هو ينتظر قدوم الموت على جواد بطيء الخطى.
إنه آخر حبة عنب تحتضر ببطء في عنقود العائلة المندثرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى