عبد الرحيم التدلاوي - قراءة في ديوان " رماد فينيق" لصلاح الدين بشر

- قراءة في العنوان:
تشكل عتبة العنوان بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات النصوص. فكلمة " رماد العنقاء" المتضمنة في بنية العنوان، قمينةٌ بشرح ما تبقى منه؛ والعنقاء طائر أسطوري يحترق ثم يُبعثُ من رماده، دليلا على الاستمرارية والبعث والتجدد في الحياة، وكذا الإصرار والعزيمة على تكرار الفعل نفسه.
فحضور رماد طائر العنقاء في المجموعة، يمثل تصويرا لحال الذات الإنسانية المعذبة في الوجود؛ لأنها تحترق وتتمزق وسط تلك المعاناة، لتصير رمادا، ثم تنبعث وتنبثق وسط هذا الركام من جديد، ومن تجليات البعث نصوص الديوان الشعرية. تُلملم الكتابة تمزقات الذات الإنسانية في نصوص متجددة، تجمع في جديلتها بين الحياة والموت، تعقب الموت، بعد الاحتراق حياة جديدة، و ولادة أخرى، معبرة بذلك على الإصرار والتحدي، فالموت ليس نهاية المطاف، بل بداية جديدة بطاقات وشحنات تمكن الذات من الصمود والمواجهة.
ولا يخفى، بحسب الأستاذ لغتيري في تقديمه، ما لهذا العنوان من دلالة عميقة، تنسجم كليا مع الجو الشعري الذي ارتضاه الأستاذ صلاح لنفسه في اجتراح قصائده، ويشي بأنه شاعر اجتذبه إلى أبعد الحدود حلم الانبعاث.
فالانبعاث ليس سوى خطوة أولى نحو تحقيق الذات، مصداقا لقول الشاعر نفسه:
ما موتي إلا لبعث!!
وما نفع الفناء
إن لم يلد عشقا
أو وطنا
أو إلها لمدينة...؟!!!!
تحتوي المجموعة على جملة تيمات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، من قبيل: المعاناة، الموت، الوطن، الحب، المرض، الخيانة... وكلها تصور لنا جوانب الذات الإنسانية الممزقة، إما بفعل الأزمات الاجتماعية وغيرها، وإما بفعل الواقع السياسي الكالح وإما بحضور الموت باعتباره زمنا منتهيا تعقبه حياة جديدة تعبر عن الانبعاث والتجدد والأمل:
أأنا نثار الفناء...؟ !
شظية شاردة
لكأس مكسورة...؟ !
كلا !أنا كفن ألوذ ميتا،
قمر جريح
مشرق في عوسج أليم،
مكلوم بأوهامي الطريدة،
أنثر في قبري
حكايتي الدفينة...
وما تلك الحكايات إلا دليل على الانبعاث، والخروج من عتمة القبر إلى نور الحياة؛ إنه الانبلاج والتجدد. وهو ما تؤكده القصيدة في نهايتها حين تقول:
يحاورني رمسي:
_من لهذه المقابر بيوم النشور؟ !
قلت:
_أنا لها ببخور الروح حتى تروم الحياة...
ويقوي هذا البعد نص "غدر الصهوات" ص25:
_في غمرة الموت_
نبيا،
وفجرا من رماد...
والديوان لا يفتقر إلي المقومات و الأسس الواجب أن تتوفر عليها القصيدة و التي تتجلى بالأساس في الصور الشعرية البليغة و الكلمة العذبة و اللفظ ذا الدلالة العميقة التي تجعل المتلقي يسبح في بحر من التأويلات و التساؤلات.
لقد استطاع الشاعر أن يجعل حروفه تعج بالأمل والحياة والحب، معطرة بشهد الإبداع، تحمل في طياتها معاني العشق، والوطن، والحنين.
فبقراءتنا لديوانه ” رماد فينيق ” نلمس زخما شعريا شاعريا و قوة جمالية على المستوى اللغوي و كذا على مستوى تشييد الصورة الشعرية، فضلا عن طاقة، ذات إيقاع داخلي، لافتة بقيمتها التكوينية في بناء النص، فرغم التعدد و التنوع في طرح القضايا تبقى تيمة البعد الرومانسي طاغية نوعا ما دون مبالغة أو السقوط في الذات المنغلقة على نفسها ، و تلك إحدى مميزات نصوصه حيث منحها دفئا و نفسا جديدا. في شعره نشعر بحكي الذات المفعمة بالحب، يشحنها بطاقة تمكنها من مواجهة القمع الممارس على الذات الآدمية و حريتها.
البعد الرومانسي:
تظهر القصائد المبدع شاعرا حالما، يناجي، كما قال الأستاذ لغتيري في تقديمه، زمنا مضى محاولا أن يبعث فيه الروح من جديد، معبرا عن ذات مثقلة بالحنين بمعنى "النوستالجيا" ليذكرنا بكبار الشعراء الرومانسيين من أمثال جبران خليل جبران وإيليا وأبي ماضي أبي القاسم الشابي، خاصة حين يتماهى في أكثر من قصيدة مع معجم هؤلاء الشعراء، من قبيل المقابر والظلام والأحزان والفناء والروح... يقول الشاعر:
يا همس الأسوار الحزينة!
هذا روع ضاري
يهيج في بيادر الحياة،
وهذا هول راعد صائل
أمطر هدب الجبال بالزغاريد والشجن
في ظلمة المرافئ البعيدة...
ولعل العناوين الفرعية للديوان، أقصد عناوين القصائد تدل على هذا النزوع لدى الشاعر نحو التعاطي الرومانسي مع القصيدة الشعرية: نبض النور، نداء الأشجان، نثار الفناء، غيم المنافي...
البعد الاجتماعي:
كما نلمس حرص الشاعر في ديوانه هذا على القصيدة الاجتماعية أيضا التي تنتمي إلى الواقع الإنساني، وبخاصة تلك التي تعبر عن ارتباطه بمدينته كعنوان شامل لحب الوطن، كما في قصيدته "في حب المخاض" ص32، حيث يعلن عن تعلقه بمراكش الحمراء مدينته ومسقط رأسه. ومن خلال النص وغيره نراه يطرح جملة تساؤلات تشغل بال الإنسان وتؤرقه.
تحمل النصوص في طياته عدة دلالات تشي بذات متمردة و ساخطة وتعبرعن المعاناة التي تتوالد في في الذات الحالمة و التواقة لمستقبل أفضل وزاهر تمكن الشاعر من تحقيق توازنه واستقراره النفسي، وتمكنه، في الآن ذاته، من التلذذ بمفاتن هذه الحياة دون كدر أو ملل، هي رغبة جامحة إذن في تغيير الأوضاع من خلال إعادة الأمور إلى مجراها الحقيقي الذي يليق و يرضى عنه الجميع، كما في نص "عواء" ص35:
في الروض والقفار
يلفني رماد من دم
كما السحر
يبعث وحي سكني منارة
فما انثنيت !..
**
يا أيها الموت
منك
أبت للحياة...
وتنتاب الشاعر لحظات حنين لماض آفل، كان يحمل في طياته معالم قوة ثم اضمحل، كما في نص "رحيل" ص44.
ليبقى الشاعر منتشيا بالأمل معبرا عن صموده وعزته ما في نص "جذور" ص47:
جذوري هنا في منبت العشق والكروم..
أنا
سدرة وارفة
بظل القطر والسجوم
أنثر من رماد سدوم...
و للعشق و الولع جانب ليس باليسير في ديوان صلاح الدين بشر، عشق بكل تجلياته صورته في عدد من نصوصه فيها الشجن و الحب و الغدر و الوحشة و سمفونية عزفتها بأوتار قلبها الذي يتراقص تارة عشقا صافيا، عذريا و تارة حبا مشحون بالأسى و الحزب لغدر الحبيب أو هجره، و هنا يمكن أن تستوقفنا مرة ثانية عتبة كأنه يتساءل ، هل هناك حقا قلب يستحق هذا الحب؟ معتمدا معجما غنيا بالمشاعر المدفونة
ونختم قراءتنا بالقول:
تتصحر بلادنا ويطوي الأمل أجنحته فوق أرض الهزائم المتلاحقة... فيعانق ذاته المحبطة يئن الشاعر_ليس بغير وجع حقيقي_ وفي صمته المكلوم أحيانا ينتظر.
تأتي النصوص من الثورة وحلم التغيير من الخوف والقلق على هذا الحلم من استنهاض عناصر تراثية تضيء وتسند من ذات تتقاطع أمانيها الشخصية مع تجربة وطنية مشحونة بالمرارة والأمل..وهي بهذا له تأتي كما الجريح إلى سريرها الخاص لتهمس بدقائق المشاعر لتخاطب ذاتها لتتبصر في سهام الصداقة التي لم تخطئ الشاعر ولتنسج من ثم جسور الكلام مع الطبيعة ومكوناتها مع الصمت مع المحبة مع الموت.. مع عالم يتفجر بحوار داخلي وينقل قضية الإنسان إلى سؤالها الأعمق.1
نصوص متأملة تحتضن جروحها التي لم تندمل فتبدع بها لغة صمتها.



صلاح الدين بشر، رماد فينيق، دار القرويين الدار البيضاء. الطبعة الأولى سنة 2016
د يمنى العيد، في القول الشعري، الشعرية والمرجعية، الحداثة والقناع، دار الفارابي، الطبعة الأولى سنة 2008، ص295.



L’image contient peut-être : 1 personne, texte

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى