أمل الكردفاني - تكاليف الأبعاد المثالية في الرسم والاسكيتشيسيزم

ليس هذا المقال منافحة عن الوحشية او التجريبية او الرومانسية وليس موقفاً ضد الواقعية أو الكلاسيكية اليونانية وكلاسيكية عصر النهضة. فنطاقه أضيق من ذلك..إنه يدعو للاسكيتشيسيزم، كأصالة للعمل الفني..ليس فقط لأنه يتجاوز الأبعاد المثالية بل لأنه مقتنع برفض التجميل. وإذا كان البعض يُنكر الأصالة، فبعيداً عن الجدل، لا يمكننا أن ننكر الإقتراب من الأصالة، ولكن كيف يوجد الإقتراب إن كانت الأصالة نفسها منعدمة. الاصالة التي نراها هي أصالة المعنى الشعوري، ليس فقط بمفهومه التعبير بل حتى بفمهومه الفينومنولوجي، الذي يعبر عن فقاعة نقاء في الظلام..هذه هي الاصالة.
وعليه فمن هو الرسام الحقيقي؟ أو الفعلي؟ او الذي يشار إليه كرسام؟
هو الذي يبلغ درجة من المثالية في محاكاة الأبعاد الواقعية(مدرسة واقعية).
بل وأيا كانت مدرسته الفنية (إذ تخلق المدرسة نفسها واقعيتها)، فالأبعاد المثالية ظلت مسألة تحتاج للنظر إليها من زاوية عنفها المعياري:
١- الأبعاد المثالية تمثل عنصرية مبطنة،..إذ أنها تطرح -على مستوى واسع- معاييرها كأساس، لأنها ملتزمة بالتقارب مع الطبيعة..وهي بالتالي تحدد الطبيعة نفسها، وترفض غِناها وتسميه شذوذاً، وتعتبره استثناءً مقيتاً، وطفل شيطاني.
٢- تعتمد الرؤية المثالية على منظور خطي، وقانون واحد، يجب ان ينتظم العالم تحته، وبالتالي ترفض الفوضى، ولكنه ليس رفضاً علمياً بل رفضاً عسكرياً، إذ الفن لا يجب أن يتساوى مع العلوم. بل يجب دائما أن ينزع إلى الفوضى ليكون فناً وليس مدونة قوانين.
٣- الأبعاد المثالية، هي قانون، وعكسها تماما، فن الكاريكاتير، إذ مطلوب منه دائما أن يفتقر للمثالية، ليتمكن من الهبوط إلى مستوى أعم من مستوى الرسم ذو الأبعاد المثالية. وهذا افتراض طبقي من ناحية وغير صحيح من ناحية أخرى، إذ أن الطبقات الإجتماعية الدنيا تنزع نحو المعايير الثابتة، ولا تتقبل التغيرات المفاجئة...ولكنها استطاعت -عبر الزمن- الاعتياد على الرسم الكاريكاتيري وتقبلته كما هو..وليس كمرحلة بدائية خلف المثالية (وبالتالي أمتلك الكاريكاتير مثاليته الخاصة).
لقد شاهدت رسمة لطفل في العاشرة، وهي رسمة يجب الاعتراف بأنها حملت فكرة عظيمة على سفينة قديمة.
كانت الرسمة مقسمة لثلاث مستويات؛ على المستوى الأعلى تتراص مباني يتصاعد منها الدخان، بدا واضحا أنها مصانع من عهد القرن الثامن عشر. وفي المستوى الأوسط فراغ، يعبر عن مجرى مائي به مركب صيد، وفي المستوى الثالث فراغ عُشبي.
وأضاف الطفل بشكل ينم عن بقرية حافة النهر الشمالية على شكل كلمات تتحدث عن البيئة.
وهكذا تكون الفكرة نفسها قد تم التعبير عنها بأفضل من الرسمة التي يقوم بها رسام كبير (ملتزم بالأبعاد المثالية)؛ إذ أن رسمة الطفل؛ تعكس عفويتها بشكل أكبر، وفوق ذلك أيمان بقضية معينة، ثم أنها إلى حد كبير لم تنشغل إلا بالتعبير عن الذات عبر الفن...وهذا يجعل الفن أكثر حيوية، وأقرب إلى الفن الشعبي، والفلوكلور، والأهم أنه أكثر اتصالاً باللحظة التي تربط داخل الرسام بما هو خارجه، فهنا سنجد ذاتا. وفكرة، وتعبير عن الفكرة، وفوق هذا؛ وعي بالمجاز الفني، وبالتأويل، ووعي بأن وضع دخان فوق كل المباني التي تكاد تكون متشابهة وبسيطة، يسهل تأويله كدخان ملوِّث والمباني كمصانع، والمجرى المائي كرمز للأرض والبيئ، والمركب كمصلحة لا تنفصل عن الرؤية الطوباوية للبيئة أي الصحة العامة.
تحققت في الرسمة إذن كل مقومات الفن، فماذا نريد أكثر من ذلك.

٤- يصادر البعد المثالي على التجريب؛ في رأيي المتواضع أن الاسكيتش أكثر أهم من المنتج النهائي، بل هو -أي الاسكيتش- هو في الواقع المنتج النهائي والأصلي، والخالي من الدوافع غير الفنية، والأقل نرجسية، والأكثر ربطا بين روح الفنان وعمله الفني. وهذا ما يجعل كل اسكيتش تجريباً في حد ذاته، لكننا نادرا ما نرى معارض للاسكيتشات. فهناك الخوف الدائم من النقد المؤدلج بالبعد المثالي، ولذلك فالأعمال الأولى، تندثر، المخطوطات ذات الروح والرائحة التاريخية تختفي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى