د. البشير ضيف الله - شعرية السَّرد التاريخي في رواية " الديوان الإسبرطي" لـِعبد الوهاب عيساوي

تشكّل رواية " الديوان الإسبرطي" المرشحة لجائزة البوكر والصادرة في طبعتها الأولى عن دار " ميم" 2018 حالة استثنائية بحكم حركيتها وانتشارها على نطاق واسع بعد بلوغ طبعتها الرابعة وربما الخامسة عمّا قريب ، وتوزيعها في أغلب المعارض العربية والدولية كما أنها تعطي انطباعا عن الحراك الروائي اللاّفت الذي تشهده الساحة العربية، ولعلّ مبعث هذا القول معالجتها لقضية التواجد العثماني في الجزائر الذي يبقى مشرّعا على أسئلة لاتنتهي، ونقاط ظلّ قد تحتاج إلى كثير من "الجرأة" للوقوف على حقائق قد تكون صادمة خصوصا في ظلّ الأحداث التي تعرفها الساحة العربيّة وبروز الدّور العثماني الجديد كرقم مؤثر بشكل أو بآخر في كثير من النّزاعات، فهل جاء الزّمن لتسمية الحقائق بمسمياتها، والتأكيد على أنّ التواجد العثماني بالجزائر كان شكلا من أشكال الاستعمار تحت غطاء الحماية مثلا؟ أم هو بمثابة "مَحرم" انتدبته الجزائر لنفسها؟ الرواية تحاول "النبش" في هذا "الطابو" التاريخي من وجهات نظر مختلفة، فهي -بتعبير لوكاتش- تُثير الحاضر بوصف تاريخنا السابق ليس بإعادة سرد الوقائع التاريخية كما هي -دور المؤرخ مثلا- ولكن بمعايشة الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدّت بهم إلى التفكير و التصرّف بذلك الشكل ولن يكون ذلك طبعا بتبرير تلك الأعمال وإنّما بوضع مخرجات لها ظاهرة أو مضمرة استطاعت رواية "الديوان الإسبرطي" إثارتها بامتياز.

إنّ التشكيل البوليفوني الذي اعتمده الروائي "عبد الوهاب عيساوي" عامل مهمّ في الوقوف على الأحداث التاريخية المركّزة في نطاق زمني قصير نسبيا -1815/1833-انطلاقا من هزيمة الفرنسيين التاريخية في معركة "واترلو"، فقد انتدب الكاتب خمس شخصيات ممثلة في ديبون الصحافي، وكافيار الجندي من جهة الحملة الفرنسية، ثمّ حمة السلاوي و دوجة وابن ميار من الجهة الجزائرية ..هذه الشخصيات المتميزة بمحمولات فكرية مختلفة ، ورؤى ترتبط بظروف كلّ منها تشكّل نسيجا سرديا متناوبا ومتبادل الأدوار ، حيث تؤدي كلّ شخصية دورها السردي وفق مايقتضيه مشروع الرواية،وما هندسه الكاتب الذي وفق في تحريك/تشبيك هذا "التّطيف" الشخصياتي، فهذا المنجز السّردي يحتفي بالتعدّد والاختلاف و المحافظة على تماسات ضرورية للوصول إلى تمثيل بوليفوني يجسّد الدارة السّردية.

شعرية العنوان:

يظلّ المجال التأويلي للعنوان مفتوحا في هذه الرواية خصوصا وأنّ إحالته تاريخية عسكرية بالأساس، فالديوان الإسبرطي استدعاء لمكوّن تاريخي تتعدّد تخريجاته،ولا يمكن الكشف عن خباياه إلاّ باقتحام عالم الرواية فلم يكشف بواطن النّص ولاحتى ظواهره -بتعبير جينيت- فلطالما كانت العناوين مداخل كاشفة للمتون السّردية وحتى الشّعرية، غير أنّ مضمراته في هذه الرواية لم تكنْ بذلك التجلّي في عناوين أخرى خصوصاوأنّ العنوان حمّالُ وجوه -كما يقال- وهذا التركيب الاسمي المكوّن من صفة وموصوف، فالديوان هو الكتاب عموما ، أوالدَّفتَرُ الذي يكتب فيه أَسماء الجيش وأَهل العطاء وهو مانميل إليه بحكم موضوعة الرواية، أمّا انتساب الديوان إلى إسبرطا فلن تكون إلاّ إحالة على العاصمة الجزائرية أو المحروسة كما كانت تسمّى ، وهذا الاستدعاء التاريخي في حدّ ذاته شكل من أشكال الإثارة الجمالية، وقد تكون هناك تقاطعات بينها وبين إسبرطا اليونانية القديمة التي انتقلت من حالة الهدوء و الطمأنينة إلى مدينة عسكرية بامتياز..إنّ هذا الاستدعاء المدروس بلاشكّ ينقلنا إلى اشتغال الروائي الكبير على منجزه السّردي بداية من العنوان باعتباره "فيزا" النّص نحو القارئ تدليلا على محتواه أو ممارسة لعملية إغراء الجمهور -بتعبير جينيت-وفي الحالين فإنّ عنوان الرواية شكّل -في نظري-علامة فارقة ونقطة استقطاب مهمّة.

شعرية توظيف الحدث التاريخي:
لعلّ التحقيب الزمني الذي استند إليه الروائي نقطة قوّة الرواية بالعودة إلى قراءة الأرشيف المحاط بسياجات "الرقابة" التاريخية التي تحاول فرض منطقها خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالكيانات العظمى أو تلك التي كانت عظمى -على الأقل- والتاريخ يكتبه المنتصرون كما يقال..إنّ اختيار الحدث /الموضوع ممثَّلا في معركة واترلو 1815م التي أفقدت نابليون هيمنته ووضعت حدّا له ليس جديدا ، لكنّ الفلسفة تختلف هذه المرّة، فأنْ يُمارس الروائي عملية إثارة الأسئلة التاريخية في ظروف استثنائية معيشة يميّزها صراع إبستيمو/إيديولوجي وبمستوى تخييلي راق، فإنّما يحاول أن يجد لتخييله منفذا جماليا عابرا لحدود اللحظة التاريخية، منفذا يمارس الحفر في كثير من المواقف التي تحتاج إلى قراءة جديدة قد يصعب على المؤرخ ذاته إثارتها لعوامل أقوى منه بخلاف الروائي، وكأنّما أراد أن يؤكّد لنا المبدأ الكوني في تداول الأيام بين الضعف و القوة، سقوط دول وقيام أخرى ..هي بمثابة إسقاطات تاريخية تعضّدها الأحداث ويسجّلها التاريخ بلا هوادة.

شعرية اللغة السَّردية وخطاب الشخصيات:

تتميّز لغة الرواية بالقوة والأناقة و الحراك.. أصبغت على المنجز السّردي هالة من "الروحانية" ، فهي رواية تروحن التاريخ تستنفر أنفاس التاريخ ولم يكن متاحا لها هذا المدُّ لولا هذا اللّغوي الدّقيق الذي أنتج توصيفا متميّزا للشخصيات من جهة،ومن جهة أخرى قدّم خطابا خطابا متأنقا على ألسنة هذه الشخصيات وتجاربها المختلفة من ديبون الصحفي إلى الضابط كافيار إلى حمة السلاوي مُلاعب الدّمى إلى ابن ميار المستشار وأخيرا دوجة المجبرة على ممارسة البغاء، دون أن ننسى حضور بعض الشخصيات في سياق الحكي بشكل ما كالسلطان العثماني ،والملك الفرنسي ونابليون بونابرت . فهذه الشخصيات وإنْ اختلفت مستوياتها الاجتماعية و المعارفية إلاّ أنّ ممارستها لفعل الحكي جاءت متقاربة المستوى، ولعلّ السؤال الذي طرحه الناقد الجزائري الأمين بحري حول شخصيات الرواية الخمس إن كانوا رواة أم أبطلا له مايبرّره، فأدوارها كما خطاباتها تكاد تكون متقاربة- باستثناء دوجة-فكلّ شخصية من هذه الشخصيات تصلح أن تكون رواية، غير أنّ ما يعنينا في هذا الشق ذلك الخطاب المبدع المليء بالحكمة في كثير من حيثياته ما يعكس عمق تجربة الروائي و اشتغاله المتواصل على النّص، وكثيرا ما تستوقف القارئ عبارات عالية الأداء على غرار "بعض الهزائم تبدو انتصاراتٍ في القلوب التي أظلمت بالخطيئة، وبعض الانتصارات تجلب الخيبة لحاملها"، و " بعض الرجال مثل الفينيق، ليس موتهم إلا مرحلة من مراحل حياتهم"، و لعلّ المقطع التالي يقدّم ملمحا لغويا وجماليا غاية في التوصيف " حمّة يا حمّة ، شئت أم أبيت المحروسة التي كنت تدافع عنها بالأمس لم تصبح محروسة اليوم ، تناهت إلي أصواتهم من المقابر أسفل القصبة ، ركضت فارّا منها لكنّها اقتفت أثري ، حتى و أنا أعبر باب المدينة الغربي ، و أتجاوز الشّارع الممتدّ إلى الميناء ، غابت أصوات الموتى لكن الحقيقة لم تغب ، تقرؤها عند كل منعطفٍ للمحروسة ، شارع شارل الخامس ، شارع دوكين ، شارع دوربا ، شارع كليبر ، باب فرنسا ، لم تعد الأسماء نفسها ، و بعض الحواري اختفت أشكالها القديمة ، ونبتت أخرى و بأسماء مختلفة "، " وظل سيدي صامتاً لم يجبني مثلما في السابق، لكن طيراً صغيراً حلق في سماء القبة"

لقد أضافت هذه الرواية -بتعبير الناقد الأمين بحري – "فصلاً هاماً من فصول الرواية التاريخية العربية والجزائرية بتقديمها لتوليفة من اللوحات التاريخية والمشاهد الحية في صور تخييلية عميقة الارتباط بالتاريخ، دون أن تخون التاريخ وحوادثه وشخصياته في شيء، ودون أن يخونها التخييل السردي في تقديم رؤية متعددة الأبعاد لفترة تاريخية متداخلة الأحداث، عاصرتها الرواية تخييلياً ومنحت القارئ فيها حياة ومعايشة لأحداثها وشخصياتها، بأنفاس سردية جارفة تحمل من التشويق ما تحمله من ندوب وإكراهات ناتجة عن حوادث عمل راسخ القواعد من حيث انتمائه الفني روايةً وتاريخاً"

إنّ الاحتفاء النّقدي برواية الديوان الإسبرطي التي نجحت -بتعبير عمار الثويني- في تقديم نص سردي بارع التفاصيل ومتقن البناء ومتكامل الأركان يعطينا انطباعا قويا بأحقية هذا المنجز السّردي بالتواجد ضمن القائمة القصيرة في انتظار القرار النهائي للجنة جائزة البوكر العربية الشّهر القادم ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى