مخلص الصغير - النص الأدبي جمال نائم يوقظه القارئ

رحل صاحب “الأثر المفتوح”، بعدما خلف وخلد من ورائه دراسات جمالية باهرة، وأعمالا أدبية ساحرة، منذ روايته “اسم الوردة”، وصولا إلى “ العدد صفر”. وقد ترك الروائي والسيميائي الإيطالي هذه الأعمال مفتوحة أمام الإنسانية، مثلما طالب بترك كل الأعمال الأدبية مفتوحة على المطلق واللانهائي، أمام كل تأويلات القراء وإمكانيات القراءة.

فقد ظل إيكو يعتبر الكتابة، كما القراءة، ورشة مفتوحة، تحمل دعوة إلى الجميع من أجل الالتحاق بالعمل. ولذلك، ترك الباب مفتوحا قبل رحيله.

ناي على انفراد

غالبا ما كان المثقفون والحالمون المغاربة والعرب يشدون الرحال إلى معرض الكتاب بمدينة الدار البيضاء، من أجل الاطلاع على آخر الإصدارات والإبداعات. ومن جملتها إصدارات الناقد والروائي الإيطالي “أمبرتو إيكو”، خاصة في ترجماتها التي يقترحها علينا السيميائي المغربي سعيد بنكراد.

فقد ظل قراء العربية يتخبطهم شغف القراءة الذي لازم إيكو، وهم يشبهون أبطال روايته الفاتكة “اسم الوردة”، أولئك الطلبة الرهبان الذين قادهم شغف القراءة إلى مطالعة كتاب “الكوميديا”، لأرسطو، والذي لم يصل إلينا. لكن، لا أحد منهم قرأ الكتاب المفقود إلى اليوم..

هذه السنة، لم يظهر إيكو في معرض الدار البيضاء، ولم تظهر له من ترجمة جديدة. بل إن مترجمه الأثير إلى العربية سعيد بنكراد أطل علينا بنسخة ثانية من ترجمته لكتاب “تأملات في السرد الروائي”، وهو الكتاب الذي ترجمه قبل عشر سنوات، بعنوان “ست نزهات في غابة السرد”. وكأن المترجم على علم بأن إيكو راحل لا محالة، ولا جدوى من انتظار كتاب جديد منه من أجل ترجمته، أو قراءته.

انطلق المعرض الدولي للنشر والكتاب بمدينة الدار البيضاء الجمعة 12 فبراير الجاري، ورحل إيكو الجمعة في 19 منه. ولمّا ينتهِ المعرض بعدُ. ولمّا ينتهِ إيكو هو الآخر، ولن ينتهيَ إلى الأبد. لأن حياة إيكو مثل كتبه العظيمة، لها مقدمات، ولا خواتم لها ولا نهايات. كيف لا، وهو صاحب “الأثر المفتوح”، كتابه الأول سنة 1962، والذي ذهب فيه إلى أن الأعمال الأدبية لا نهاية لها، ولا حصر لمعانيها.
وقد انطلق في ذلك من رواية “جيمس جويس” الثرية “استيقاظ عائلة الفينيالس”، ليؤكد لنا أن العمل الأدبي يتضمن دعوة إلى ازدواج وتشابك الدلالات، وأن النص الأدبي مثل “جمال نائم”، يوقظه القارئ. وعلى أساس أن النص المفتوح يمنح القارئ حرية في قراءته، كما يقول إيكو. وفي سنة 1979، سينتقل الرجل إلى وضع سيميائيات للقراءة واصطلاح لها، من خلال كتابه “القارئ في الحكاية”، ثم كتاب “العلامة”، مباشرة، ليكون بعدها أحد أعلام الدرس السيميائي المعاصر، والسيميائيات التأويلية على وجه التحديد.

رغم أن الألمانيين إيزر وياوس قد استبقا إيكو إلى الكتابة في ما يعرف بنظرية التلقي والتنظير لها، غير أن إيكو ظل أكثر وعيا بأهمية القارئ في النظرية الأدبية. تأكد ذلك من اشتغاله على مفهوم الحرية في قراءة الأثر الأدبي، منذ كتابه الأول. ويذكر تلامذته أنه كان يستثمر قيم الديمقراطية والحداثة في الدرس النقدي، وهو ينادي بإعمال مبدأ الحرية في القراءة. لذلك، نجده في “الأثر المفتوح” ينطلق من تحليل مؤلفات موسيقية، من قبيل “مقطع الناي المنفرد” للوتشيانو، مؤكدا أن هنالك العديد من المؤلفات الموسيقية التي تتميز بالحرية الكبيرة التي تمنحها للشخص الذي يؤديها.

وهذا يشبه تلك التأويلات التي تحدّث عنها إيكو، والتي تغني النص وتمنحه تنفيذا، وتعيد إحياءه في إطار أصيل. ولكنها “الحرية الواعية”، كما استعار إيكو هذا المفهوم من سلفه بوسور. وقد عاد إيكو إلى الموسيقى، ليؤكد أطروحة مواطنه العظيم والساحر دافنتشي، الذي اعتبر الموسيقى أرقى أنواع الفن، لأنها مفتوحة على المطلق، غير محدّدة بكلمات لها دلالات ومرجعيات تشدّها إلى الواقع، كما يحدث في الأدب، وغير محددة بألوان وأشكال وأبعاد وظلال، كما يحدث في الفن التشكيلي.

تصدر الأعمال النقدية للراحل عن عمق فكري لا يعلم الكثيرون مصدره. غير أن معينه وينابيعه فلسفية لا محالة. وعلى المشككين في ذلك أن يعلموا بأن إيكو هو فيلسوف أولا، وهو الذي ناقش أطروحة في الفلسفة، سنة 1954، عن القديس طوما الأكويني، ونظريته في الفن والجمال. وبعدها، سيطل علينا إيكو بكتاب عن “تاريخ الجمال”. ولهذا، سوف تختار الجامعات الأميركية الراحل إيكو من ضمن 100 أشهر فيلسوف خلال القرن العشرين.

هذه الخلفية الفلسفية هي التي جعلته تأويليا لا يقاوم، وسيميائيا مفكرا لا يستكين إلى المنهج وصرامته. لأنه انطلق من “العلامة”، كما هو عنوان كتابه المنهجي الشهير. من هنا، ظلت كتاباته الموالية عزفا على مفهوم التأويل واستراتيجياته، وعبورا لمسالكه وممالكه، ومساراته ومنعرجاته. حيث كتب الرجل عن حدود التأويل وعن التأويل والتأويل المضاعف، وعن أعمال وتأويلات مفتوحة على اللانهائي.

رحيل روائي

المدونة النقدية والتأويلية لإيكو ستبقى عملا مفتوحا على المطلق، لا ينتهي ولا يموت. فقد مات إيكو، ومات إيكو الروائي تحديدا. لأن رواياته وإن اتسعت لأكثر من تأويل، واستجابت لأكبر من تحليل، فإنه لا يمكننا، بعد اليوم، أن نقرأ رواية جديدة لإيكو، وقد غادرنا الرجل.
روايات من قبيل “اسم الوردة” و”بندول فوكو” و”جزيرة اليوم السابق” ورواية “مقبرة براغ”، ثم روايته الأخيرة “العدد صفر”، التي صدرت السنة الماضية. وقبل الانتهاء من هذه الرواية، سيكتب إيكو واحدا من آخر أعماله النقدية، ويتعلق الأمر بكتاب “اعترافات روائي ناشئ”.

في هذا الكتاب، يعتبر إيكو نفسه كاتبا ناشئا، وبالتالي، واعدا. فقد كتب روايته الأولى “اسم الوردة” وقد تجاوز الخمسين. وحدث ذلك سنة 1980. وعليه، يقول إيكو، في محاضرة ألقاها سنة 2008، إن عمر ممارسته لكتابة الرواية لا يتجاوز 28 سنة. “ولهذا السبب أعتبر نفسي روائيا ناشئا وواعدا، لم يكتب إلى حدّ الآن سوى خمس روايات، وسيكتب الكثير منها في الخمسين سنة المقبلة”. هنا، كان إيكو يسخر من الزمن، الذي طالما شغفه في تحليل الرواية، على غرار ما وقع لجينيت مع بروست. فالراحل كان يعرف أنه لن يعيش خمسين سنة جديدة، ليكمل عشر روايات. هو الذي ظل يعتبر نفسه “جامعيا وناقدا بالحرفة، وروائيا بالفطرة”، مثلما يقول.

لكن إيكو، حتى وهو يكتب نقدا محترفا، وهو الفيلسوف والعالم السيميائي، فقد كان يستعين بالسرد في التحليل والتفكير والتأويل. لهذا، سيتهمه أحد أساتذته الذين ناقشوا أطروحته عن الجمالية عند توماس الأكويني أنه يمارس نوعا من “الغش السردي”، باعتراف إيكو. فقد فاجأ أعضاء اللجنة، يومها، وهو يعرض أطروحته مثلما يحكي قصة بوليسية. وظل الرجل يشبه البحث العلمي بالبحث الجنائي، الذي يستدعي فتح محضر، أي أن يكون هنالك محضر مفتوح، على غرار “الأثر المفتوح”، ليشرع المحقق في البحث.

وقد يأتي الأمر في صيغة تحقيق صحافي، كما هي روايته الأخيرة. ذلك أن “العدد صفر”، يحيل على تجربة الصحافة، وعلى ذلك العدد النموذجي الأول الذي تصدره إدارة جريدة في بدايتها، يكون بمثابة عدد تجريبي، قبل الشروع في التواصل اليومي مع القراء، من خلال العدد الأول فالذي يليه، وهكذا…

وقد كتب إيكو هذه الرواية عن الصحافة الإيطالية، ووقائع إيطاليا المعاصرة، منذ مقتل موسوليني وعشيقته منتصف القرن الماضي، مرورا بالفساد الذي عمّ البلاد، على عهد بيرلسكوني، ودور المافيا الإيطالية في المشهد الإيطالي الغامض، وتحكمها في الصحافة، وبالتالي تحكمها في المعلومة، وفي نقل الحقيقة وتزييفها. وقد كتب إيكو روايته في صيغة مذكرات يومية، وكأنما هي صحيفة روائية، تعيد بناء الحقيقة من الأصل، انطلاقا من “العدد صفر”.

رحل إيكو، وقد ترك كل شيء مفتوحا على المستقبل، كتبه ورواياته، وأعمال الآخرين ورواياتهم، ومفهوم الكتابة نفسه. لأنه مفهوم عصي على التحديد. سئل إيكو ذات مرة “كيف تكتب”، فأجاب “من اليسار إلى اليمين”. وينبهنا الكاتب ههنا إلى أن هذا لا ينطبق على العرب مثلا، لأنهم يكتبون من اليمين إلى اليسار. لكننا نستطيع قراءة إيكو من اليسار إلى اليمين، في لغته أو اللغات الأوروبية التي يترجم إليها، ومن اليمين إلى اليسار، وقد ترجم إلى العربية كاملا تقريبا.
وقد تساءل إيكو مرة أخرى: إذا كانت الدول الأوروبية قد استطاعت توحيد عملتها، واستطاعت خلق سوق مشتركة، فما هي لغتها المشتركة؟ يجيب إيكو “إنها الترجمة، بما هي كتابة أيضا”، كما يعلمنا. وهذه الكتابة عنده عبارة عن ورشة مفتوحة غير مكتملة، ولذلك سميت ورشة في نظره. ولقد رحل إيكو، ليترك الورشة مفتوحة، مثل وصية للعالم. ولسان حاله يردد ما قاله العظيم لوركا “إذا مت دعوا الشرفة مفتوحة”. أو الورشةَ مفتوحة… فرحل إيكو، وقد ترك الباب كله مشرعا ومفتوحا إلى الأبد.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى