محسن يونس - عاشق من ديامو.. قصة قصيرة

( 1 )
غراب ديامو النوحى ساكن أعالى الأشجار عشق ، والعشق داء ليس له دواء إلا من رحمه رب العباد ، فأنزل عليه النسيان بعد مكابدة أهوال السهد ، وعذابات الحرمان ..
قلنا إن غراب ديامو عشق ، والمعشوقة هى تلك البومة الصغيرة ، ذات العيون الخضراء الكبيرة ، جننت الغراب باستمرار حملقتهما مع إدارة رأسها لو أرادت رؤيته داخل محجرى عينيها الخضراوين الجميلتين .. أليس عاشقا ؟! ما معنى ذلك ؟ .. معناه أن بعض البلاهة يمكننا أن ننعت بها بعض العشاق ، ولله فى خلقه شئون ..
كان الغراب يجد مشقة فى صيد فئران ديامو ، ولكنها مشقة الحبيب من أجل المحبوبة ، يحمل الفأر فى منقاره ، طائرا إلى جحور البوم هناك فى أعالى حجارة الجدار ، حذرا من رؤية البوم الكبير له ، أو عزول يكمن فى ستر ، فتكون الفضيحة ، يقدم صيده للمحبوبة هنيئا مريئا ، فبعد الوجبة لابد سيأتى الوعد مع السعد مناجاة ، وهياما ، ومنقارا يلتقى بمنقار ، يجد الغراب النوحى هذا ديامو الجزيرة جنة الله فى أرضه ، وهو العبد يحوم فى أرجائها كأنها جائزته التى وعد بها ، وها هى له ..
فى مغرب يوم أحرق فيه أهل ديامو قش الأحراش ، ليقضوا بدخانه على الناموس المسبب للدغات مغيظة ، وربما لمرض كان الدكتور سالف الذكر – برنوفة – قد اكتشفه فى دمائهم، كان الدخان الحادث قد أحدث هيجانا بين قوم البوم ، وأعمى العاشق عن أى حذر ، فوقع فى يد البومة الكبيرة أم البومة الصغيرة المعشوقة متلبسا ، وهو يبثها حبه ولوعته ..
العاشق عمل بسرعة قبل أن تصرخ البومة الأم معلنة الفضيحة ، تقدم منها بشجاعة قائلا :
" أنا الغراب النوحى أطلب يد السنيورة العفيفة ابنتك أم عيون جريئة .. "
البومة الكبيرة دارت برأسها فى كل الاتجاهات ، ثم صاحت : " لا مانع عندى .. ولكن لابنتى مهر عليك أن تؤديه .. " صاح الغراب ، واتساع الأرض لا يسعه : " أنا مستعد .. طلباتك أوامر يا أمى .. " صرخت البومة الكبيرة : " أنا لست أمك .. أنا حماتك .. والآن اسمع .. مهر ابنتى مائة قفة مملوءة بالشمس .. هل تستطيع ؟ "
نحن أهل ديامو الجزيرة كنا نشاهد الغراب كل يوم ، وهو يملأ مائة قفة بالشمس ، ينقلها هناك حيث جحر البومة الأم فى شقوق حجارة الجدار ، بعدها نسمع صراخ البومة الكبيرة ، وهى تقول للغراب : " أيها الخائب .. ليس فى هذه القفف المائة أى شمس .. "
كان الغراب يعاود الكرة كل يوم ..

( 2 )
سبحان من له الدوام ، والبقاء له وحده دون الخلق من إنسان وحيوان وطير ، فكل نفس من هؤلاء ذائقة الموت .. نقول هذا لأن العشاق يتلهون عن تلك الحقيقة داخل دائرة وهم من أبدية ظن وصل المعشوق ، والنهل من عسل هذا الوصال دون حساب لحفر الحياة .. كان غرابنا النوحى يداوم على ملء المائة قفة بالشمس ، وهو فى مزاج خليط من سعادة ومن هيام ، تتابعه العيون الخضراء لمحبوبته البومة الصغيرة ، فلا يسعه إلا السعى نشيطا فى مهمته .. نقول فى ديامو : السعد وعد .. والغراب بالتأكيد يسمعنا نتحدث عن أشياء ظاهرة ، وأشياء خافية ، فهل تعلم منا بعض الحكمة ؟ لا نظن ذلك فيه ، فالعشاق لا تهمهم إلا النتائج ، مع أنهم ثرثارون وياللعجب !!
إذن كان الغراب سعيدا ، وكدنا نحسده إلا أننا سمعناه يقول للبومة الصغيرة حين طلبت منه أن يعطى لنفسه فسحة من راحة : الاتفاق هو الاتفاق .. لن أتكاسل عن إتمام مهرك ..
فى هذه اللحظة حمل إليهما الناعى خبر موت البومة الكبيرة أم البومة الصغيرة معشوقة الغراب ، ويالها من نازلة لا ينفع معها عيون تنظر فى عيون ، أو تنهدات يقابلها زفرات ، إلا التهور بإتيان فعل أو أفعال غير محسوبة لعواقب أو نهايات ..
اندفع الغراب نحو عشاش البوم ، وقلنا نحن سكان ديامو : هذا هو تهور العشاق كان الله فى عونه ..
كنا نسمع البوم ، وهو يقول للغراب : احمل حماتك البومة الكبيرة ، وهو يقول : هذا شرف لى .. ولكن اسمحوا لى بسؤال .. أين مدافنكم ؟
قال البوم : فوق سطح القمر .. أتراه ؟
حملق الغراب نحو السماء ، ثم قال : نعم أراه .. إنه بدر .. الأعمى يراه ..
صرخ البوم فى العاشق الولهان : لا نريد فلسفة .. احملها ..
قبل أن يطير الغراب نحو القمر ، تلى عليه البوم ما هو آت : عليك حين تصل فوق القمر أن تبنى لها ضريحا ، وتضع له علامة يمكن لنا أن نراها من فوق جزيرة ديامو سواء كنا فى غربها أو شرقها .. تساءل الغراب : وما معنى العلامة ؟ وكيف تكون ؟! عاد البوم يصرخ : ألا تعرف معنى العلامة أيها الحبيب ؟! لا تسأل .. نفذ .. هذه المهمة هى عربون مهرك .. هيا .. نفذ ..
حمل الغراب جسد أم معشوقته ، وكان يزرف الدمع ، وهو يرى البومة الصغيرة يكللها اليتم فسكنت فى قلبه طعنة ، لأنه لم يستطع أن يحتضنها ، ويمسح على رأسها ، ويجرب معها تلك المشاعر الجديدة التى جاء بها مصاب يجرباه معا لأول مرة ..
كنا نرى الغراب يطير بحمله نحو السماء ، وكان يعود ، فالقمر لا يظل بدرا على الدوام ، فهو يدخل فى محاق ، يضع الغراب حمله ، ويسرع نحو القفف المائة ، وحينما يرى القمر بدرا يحمل جسد البومة حماته ، ويذهب نحوه ، ونشاهده وهو يعود فننظر للسماء ، ونحن فى حيرة من أمره .. وحين نراه يستعد لحمل نعشه نضحك ونحن نقول : هذا يحب العلو ولو على خازوق .. فيصرخ فينا : كما ترونى أراكم .. فلا تلومونى ..

( 3 )
كان الزمان يطوى صفحاته حتى وصل إلى صفحة أخيرة من كتابه الضخم حاول الغراب أن يخرج منها، رفرف بجناحيه محاولا التملص والانعتاق من أسر هذا الكتاب الذى استقر فيه كل العشاق فى دنيا البشر والطير والحيوان الشجاع والجبان ، الغازى المنتصر بجانب المهزوم المنكسر ، وإلى هنا نسكت عن المضى فى هذا البيان ، فالصفحات تموج وتضطرب بكل نقيض ونقيضه ، والإنسان وحده أعرف ، فلا الغراب النوحى سوف يقرأ هذا ، ولا حتى يعلم أنه صاحب حكاية فى ديامو ، المهم أن الغراب قد رأى صفحته ، ولم يقرأ ما فيها ، هكذا العشاق عميان عن رؤية مقبل أيامهم ، وكأنه عندما تمادى فى عشقه تبدلت لعنته ، سمعناه يحدث نفسه قائلا : أود أن أكون شيئا آخر غير أن أكون غرابا ..
نظرنا إلى عشاش البوم وجدنا البومة الصغيرة تصاحب ذكرا من البوم إلى عش فى أحد شقوق حجارة جدار ديامو الأثرى ، كان الغراب ينتف بعض ريشه فوق قلبه ، وهو يقول : لست فؤادى إن رأيتك شاكيا .. آه يا قلبى العبيط !!
كان يمكن أن تنتهى حكاية الغراب عند هذا ، ونأخذ منها حكمة مؤداها أن من يخرج عن طبيعته لا يحصد إلا خيبته ، وغراب ديامو النوحى أبى أن تنتهى حكايته عند معرفة أن البوم للبوم ، والغربان للغربان ، وهو فى حبه كمن قفز قفزة فى الظلام ، كنا نقول نحن المتفرجين : من يذهب إلى جدار الحجارة يترك عاره على حجارته بلا أى ستر ..
هكذا صار الغراب زمنه الذى عاشه ، وبعد مماته مخلصا فى تأديه المهام التى يكلفه بها البوم ، وآخر مهمة سمعنا عنها هى أنهم كلفوه بإحضار لبن العصفور ، وها هو يطير إلى وجهته ليحضرها ..

( 4 )
ألم يعرف أو يتعلم هذا الطائر شيئا من تجارب الحياة ؟!
كيف عاش عمره أعمى ، وله عينان لم ينتفع بهما ليرى المكائد كيف تدبر ، والفخاخ كيف تنصب ؟!
إنه العلامة على وجود من تهون عليه نفسه ، ولا يهش ذبابة رغم ضيقه منها ، ما كان يحيرنا نحن سكان جزيرة ديامو هو هذا العماء المصاب به غرابنا العاشق ..
لماذا هو تابع لا متبوع ؟!
لماذا يرضى بأن يكون هو الخادم لا المخدوم ؟!
ها هم البوم يأمره فيطيع ، عليه أن يحفر بمنقاره أسفل جدارنا الحجرى الأثرى حتى يتفجر النفط .. قال : وما هو النفط ؟ قالوا : ألا تعرفه يا أبله ؟! إنه النفط .. احفر بمنقارك حتى ينبثق من الأرض كالنافورة ..
أهما العينان الزرقاوان ؟! لا .. لا .. نقصد هل هما العينان الخضراوان للمعشوقة البومة ؟! هكذا كان لونهما – نأسف لكثرة الألوان بديامو فقد تشابه علينا الأزرق والأخضر - ها هى صارت أما لأفراخ ، والعاشق ذو عقل مغلق لا يرى حياتها الطبيعية ، ووقع فى دوخة جديدة من تلك العيون الخضراء المستديرة لأفراخها العديدة ، فظن أن العشق يفعل الأعاجيب ، وهو يفعله فعلا ، فها هو يعشق بدلا من بومة واحدة أربع بومات بثمانية أعين خضر ، وتنتابه حالة من جنون نقر الأرض ، ليتدفق النفط ، والبوم لا يأبه إن ثلم منقار الغراب أو تشقق أو تكسر ، فالأعلى لا يأبه من الأدنى ، ربما افترسه ، وهو فى الغالب يفعل ذلك .. أليس الغراب من قدم لهم نفسه ، وخدماته دون مقابل ؟! لماذا إذن لا يجعلونه مسخة؟!
كنا نحن أهل ديامو نتساءل : أننحاز إلى المستقبل لأنه هو الأجمل والأبقى والأنفع ؟ أم نصاب بالحسرة على مصير هذا العاشق الذى تحول لون ريشه الأسود إلى لون أبيض ، وهذا لم يره أحد من العالمين من قبل أبدا
أعلى