محمد بشكار - تُمْطِرُ أموالاً مَا هيَ بغيْث!

لا أعْرفُ هل ما يَحصُل معي وأنا محاصرٌ في بيتي امتِثالاً للحَجْر الصحي، يحدث أيضا مع غيري ممن يعيشون نفس وضعيتي، أشعر أن التقييد الذي قلَّص من حركة جسدي في حيِّز المنزل، جعلني أبتكر لتجوالي الداخلي شوارع من صخب آخر، وأحرِّر أفكاري المُصْطَرِعة لتتجاوز الجدار، الجميع يُفكِّر الآن في ما يحدث ولِمَ يحدث دون أن يفهم شيئاً، لذلك ربما صنعتْ الظروف العصيبة على مرِّ التاريخ مُفكرين كبارا، ولذلك أيضا لا يعرف معنى الحياة ويتقن صناعة الأمل، إلا من صودرت منه الحرية وأفنى عمره في مُعتقل!
أعلم وأنا داخل منزلي أنَّ العالم يتغير خارجه بسرعة ضوئية حتى لا أقول وبائية تهفو لمستقبل جديد، فبينما تخْتنق الرِّئات البشرية التي دمَّرها الفيروس، تنْشرح رئة البيئة وتتجدَّد أنفاسُها، قيل إن نسبة التلوث انخفضت نتيجة إغلاق المصانع ومنشآت البترول والحد من تنقل السيارات في العالم، وزادتِ الألسنُ في القول إنَّ السماء صارت صافية من الانبعاثات الغازية المسمومة، ولا أعجب إلا كيف للأرض حيث نعيش أن تستعيد حياتها بموتنا، ومع ذلك لا أستغربُ أن تُدافع الطبيعة عن حقها في الوجود بردة فعل وبائية تعجِّل بنهاية البشر، خصوصا أنَّ المُحرِّك الذي ينْفث كلَّ ما يلوِّث حياتنا، ليس مُجرد آلة تتوقف بزرٍّ أو عطلٍ مُفاجئ، بل بشرٌ رأسمالي متوحش أسرع في نَهمه من كل الآلات وهو يبتلع كل شيء.. كل شيء حتى نفسه وهو يُجَرْثِمها تحقيقا للدولار، وليْتَ هذا الدولار اليوم مع الجائحة ينفع !
أسمع وأنا داخل منزلي رنين الذهب وهو يتناثر من كل أنحاء العالم، ولا أحد يجرؤ على الخروج ليصيب بريقاً من صفقة السراب، فقد اتَّضح مع الأيام وتفاقُم الآلام، أنَّ كل هذه الأموال التي كانت مُخزَّنة بِمَعْزِلٍ عن جوعى وفقراء العالم المُعذَّبين، مجرد عملات زائفة تفتقد للحرارة الإنسانية، لذلك لن تُجدي دواءً في هذه المحنة المُسْتأسِدة بضراوة الوباء، كل الحكومات تُخرج اليوم ما في جيبها وتستخرج معها ما في جيوب الأثرياء، وأعترف أني عشتُ حتى رأيت السماء تُمطر أموالا ما هي بغيث، هولندا (22 مليار دولار)، فرنسا (45 مليار يورو)، بريطانيا (400 مليار دولار)، إسبانيا ( 200 مليار يورو)، أيقنت وأنا داخل منزلي أن كل هذا الانهمار الذي يجري بسُيولته المالية هلعاً من تحت المعسكر الرأسمالي، ما هي إلا بداية انهيار نظامه الفاحش رغم كل ما كدَّسه على قلبه الميِّت من ثروات، وإلا بماذا نفسِّر مأزق أمريكا وهي توفر تريليون دولار لمحاربة الجائحة، بينما تعجز عن توفير أجهزة التنفس لآلاف الضحايا المختنقين ببلدها، لقد اتضح وقبل انحسار الطوفان، أنه رغم مظاهر الرفاهية التي تنثر الحكومات النَّهْشْ مَالية قشورها، فالأسبقية كانت دائما لأجنداتها السياسية ومصالحها الاستعمارية وليست للإنسان!
لم يقْتصر الارتجاج الذي أحْدَثتْهُ الجائحة بِحَيْرتها على دماغ الإنسان بعد أن صار مُقيَّدَ الحركة، بل تجاوزه لِيَرُجَّ أعْتى القوى الاقتصادية التي تسيطر على خيرات وموارد الشعوب، ومنها الاتحاد الأوروبي الذي تفكَّكت دُوله في أول أزمة ليست سياسية ولكن صحية ناتجة عن وباء، وعادتْ كل دولة إلى نطاقها الحدودي الضَّيِّق تفكر بنرجسية سوداء في نفسها، دون أن تأبه لدائرة النجمات الصُّفر التي توحدها مع باقي الدول الأوروبية في راية واحدة زرقاء، بل إنَّ أحد المواطنين الإيطاليين عبَّر بليغا عن تفكُّك الاتحاد بعد أن تخلَّتْ الدول الأوروبية عن بعضها في هذه المحنة ، وأنزل أمام أنظار العالم في الشارع العام راية الاتحاد الأوروبي، ثم رفع عوضها عَلَم جمهورية الصين الشعبية، كدلالة على أن الأعالي لا يسْتحقُّها في النفوس إلا من يَهُب لنَجْدة الآخرين !
أعلم أنَّ البيت ليس للرجال، ولكن الموازين التي انقلبتْ على رأسها، تعتبر اليوم أن الشجاع من يحتمي لائذا بمسكنه من الجائحة، ثم إنَّ مناعتي أضعف من أن تقاوم هذا الفيروس ولا أريد أن أكون بمرضي عبئاً على الدولة، ولا ضيْرَ من هذه الوضعية غير المريحة ما دامت تؤازرني في عزلتي سبعة ملايير منْ ساكنة العالم، لكن ما يريحني، أن أفكاراً انقلابية في طور النَّشأة غيَّرت نظرة الجميع لنمط العيش وكيف يجب أن يكون، في علاقة الدولة بمواطنيها وعلاقة المواطن بالمجتمع، وكأنَّ الوجه الخِصْب للأرض يطفو وئيداً على أنقاض رأسمالية ضاقتْ قبراً، بل إنها أبْعدتِ الإنسان من كل حساباتها فلم تستطع توفير ما هو أبسط من الدواء، اليوم شعورٌ آدمي ينْعتق من وبر الحيوان البراغماتي، الجميع يمدُّ ذراعه بالتضامن ولو لم يستطع العناق خشية أن يكون حاملا للوباء، الجميع يتبرَّع لإنقاذ البشرية ولو بأغنية، بل إنَّ أبلغ طرائق المؤازرة ما نُشاهده في هذه الكارثة ولسنا نشاهد فيلما، وهل ثمة تضحية أعمق من أن يُفكِّر مريض على شفا الموت في صِحَّة الآخرين، فيعزل نفسه وهو يحتضر وحيدا لينقذ الحياة ؟

(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 2 أبريل 2020)

L’image contient peut-être : 1 personne, chaussures


159

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى