سامي عبد العال - أين الفيروس الكافر؟!

في ظل العدوى وسقوط الضحايا بسبب فيروس كورونا، بدت النكاية من الاسلاميين في بلاد الغرب واضحةً، ذهب بعضهم إلى أنَّ كورونا مؤمن ( تمام الإيمان)، ذلك أنَّه (برأيهم) يحمل سيف الموت على الكفار وأهل الفسق والفجور: إمَّا ردعاً لمواقفهم المتعنتة تجاه المسلمين(اضطهاد مسلمي الإيغور الصينية) وإمَّا لإعطائهم درساً حيَّاً بسبب الابتعاد عن الله (الإلحاد وانحراف الغرب). وأنَّه الفيروس الذي يعلن تحديه لكل أنظمة العلوم المختلفة، إذ اخفقت في إيجاد علاجٍ له ولم تستطع تنفيذ ما يُتوقَّع منها. وبالتالي - كما يواصِلون- لا يصح اتخاذ العلم إلهاً من دون الله الواحد القهار. والمبررات الباحث عنها هؤلاء: أنَّ كل من مات في البدايةِ كان من بلاد الكفار والفاسقين (الصين وأوروبا وأمريكا). وقيل إنَّه لم يصب الوباء هؤلاء المنكوبين إلاَّ لشرودهم عن شريعةِ الفطرةِ. فلو كانوا قد سمِعُوا تعاليم الاسلام وامتثلوا بالابتعاد عن المنكر واجتناب الأطعمة المحرمة ما كان لينتشر الموت بينهم على هذا الحال.

طبعا هذا الرأي وصل إلى مداه حتى أصبح لوناً من السخرية إزاء انتشار كورونا. ولا يخفي أنه يصرف الاحتقان الايديولوجي التاريخي ( من قبل الاسلاميين) تجاه المجتمعات الأخرى في ثوانٍ معدودات لكنها بمساحة تاريخ التكفير. وهو رأي يسدد الضربات الخلفية للدول المتقدمة سواء أكانت الصين أم إيطاليا أم اسبانيا أم أوروبا. وينضح بعمق الكراهية للعالم إنْ لم يكن للإنسان. والغريب أنَّ هذا الموقف جزء من أن هؤلاء المتشددين يترحمون على انسانية بلغت مداها في الشقاء دون تعاليم الدين ومجافاةً للسماء. كانوا يدعون علهم صباحاً مساءً: ألهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأن تذيقهم من عذابك حتى ينتهوا عما يفعلون...".

وبالطبع لم يخلو هذا الرأي من استعمال النصوص الدينية والأحاديث النبوية حول عواقب الكفر وتبعات انكار النعم الإلهية والانحراف الاخلاقي والشذوذ والفسوق واستعمال الأشياء والكائنات في غير ما خُلقت له ووضعت لسلامته ومحاربة الشرع والنزول عن جادة الحياة... ودوما تساق هذه المعاني بترديد الآية القرآنية... (ظهر الفسادُ في البحر والبحر بما كسبت أيدي الناس...).

مع العلم بأن الآية ليس لها علاقة بموضوع كورونا إذا سلمنا بإمكانية الاستناد إليها:
  • لم تُشر الآية إلى سياق الايمان والكفر حصراً. وهو دلالة على أنَّها مسألة غير واردة وأنه لو نددت الآية بأفعال البشرية، فلن تكون من باب العلم والطبيعة.
  • الفساد أعم من الإصابة بالفيروسات هنا أو هناك. فالإصابة نتيجة عدوى، كمظهر طبيعي مصدره كامنٌ في الكائنات وقد مر بتحورات جينيةٍ من وقت لآخر.
  • تأويل الفساد لا يخضع للمكان ولا ينسبه إليه ( الغرب أو الصين). فلا تقرر الآية أنَّ مكاناً بعينه هو الفاسد لمجرد كون الفيروس هناك، ولا لكونه مصدر انتشاره بالمثل.
  • ذكرت الآية الكسب مقرونا بالناس، وهو دال على الخيط الأخلاقي الموجود بها، وليس الظرف الوبائي ولا العلمي. والكسب عمل إنساني يدخل دائرة المحظور، وليس هو الطبيعي الذي قد يتمُ تلقائياً نتيجة سلسلةٍ من التغيرات.
  • جاءت كلمة أيدي الناس لتُدخِل كل البشر (حتى المسلمين) في دائرة الفساد. فلم تقل أيدى الكفار ولا أيدي الصينيين ولا أيدي الأوربيين، الفيروسات قد تأتي من بلاد المسلمين كما ماجت وغرقت بالأوبئة في عصور سابقة.
  • الفساد ليس مقصوداً به العدوى تخصيصاً، وليس تهمة تلصق بالمخالفين دينياً، لكنه ممارسة إنسانية تخضع لتقييمات قابلة للتعديل والإلغاء. أمَّا لو ظهر وباءٌ فتذهب عبارة الفساد لأصحابه مباشرةً، فلا يدل على مواقف معياريةٍ حياديةٍ بقدر ما هو موقف منحاز وعاطفي.
على أي حال، يشكل الجدال التأثيلي والتفسيري للنصوص الدينية بعضاً من شفاء غليل الاسلاميين. لأنه الأرضية التي يجيدون التزلق عليها يمينا وشمالاً، وإذا تمت مقارعتُهم عليها، فهذا غاية المطلوب وهو الذي يجعل الجدال ضرباً من المناورات والصدمات التي تغيب الوعي وتستحث المتحاورين على ثنائية مع أو ضد، صحيح أو خطأ. وهو ما يعني وجود مرجعية دينية، الإسلاميون وحدهم هم الذين يمتلكونها، والرجوع إليها هو تنفيذ المطلوب بما يهدفون إليه.

ولأجل أن نكسر هذه الدائرة الجدلية، ثمة سؤال: كيف عرف الاسلاميون أنَّ الفيروس مؤمن؟ لماذا يعمل أي فيروس لصالح الايمان، بجانب أصحاب الايمان؟ ولماذا يعد الفيروس القاتل جُنداً من جنود الله؟ هل لدى الاسلاميين وسيلة طبيعية( أو لاهوتية نبوئية) لمعرفة طبيعة الفيروسات الخلقية والدينية؟!

طبعاً لا تُوجد إجابات واضحة إلاَّ عودة للمرجعية الدينية مرة أخرى. وهذا يعني قطع العلاقة بين الفهم المفتوح للنصوص وبين آراء هؤلاء الاسلاميين. ولا توجد أية دراسة مهما تكن دينية ولا علمية بإمكانها الإجابة عن هذه الأسئلة. الآراء التي يطلقها هؤلاء ليست إلاَّ تمنيات فقط أو لا تكون. وفي هذا الحال تمثل أضعف ما تكون من آراءٍ تُقال بذلك الصدد.

الأنكى أنَّ الكلام الذي يطلقه الاسلاميون يفترض شيئاً آخر: أين " فيروس الكورونا الكافر" طالما أن كورونا الصين والذي انتشر بالعالم كان مؤمناً؟ أين شهادة الإيمان الخاصة به طالما قد قتل أعداداً كثيرة منهم؟ وعلى افتراض أنَّ الاستفهام مبدئياً وصالحاً للاستعمال، لماذا يكون ثمة انحياز فيروسي لأهل الإيمان فقط؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وما القول حين انتقل الفيروس لبلاد المسلمين وحصد منها ما حصد من أرواح؟ ما الموقف الديني من هؤلاء؟ هل كانوا أهل كفر أيضاً؟ كيف فرز الفيروس المؤمنين من الكفار في بلاد المسلمين؟

وبالنتيجة إذا لم يكن السؤال عن الفيروس الكافر وارداً، فالسؤال عن الفيروس المؤمن باطل بالتبعية. وجود هذا المؤمن يستحضر ذاك الكافر بالضرورة وغياب الكافر يبطل المؤمن بالسبق. وهذا التناقض يرجع إلى سوء فهم لماهية الفيروس مما نقل المسألة لحلبة اللاهوت والتشدد الأيديولوجي.

ولنفترض أن الفيروس الكافر هو الفيروس الذي يصيب المسلمين دون سواهم(أي ظهر في بلاد اسلامية خالصة)، وأنه يتقصدهم بلا رحمة. وأنَّه يتفلَّت من الإيمان كما يفلت السهم من الرمية، ويستطيع تمييز الإيمان من الكفر لأنه بطبيعة الحال يسير عكس ما رسُخ من الدين. هكذا سيكون الخوض في تلك القضية نوعاً من الدجل المعاصر والأكثر حداثة لأنه بالتأكيد سيخضع لظروف العصر. لأن المتشددين هم عناصر لأساطير جاءت متأخرةً في عصر معرفي وإنساني يخص الناس جميعاً وينفتح عليهم بلا تفرقة. إنَّ الفيروسات ذات تكوين جيني ولها بيئاتها النشطة أو الخاملة وفقاً لمؤثرات وظروف طبيعية قابلة للمعرفة والدراسة. ولولا أنَّها كذلك ما كنا نحن ككائنات إنسانية لنعرف: كيف توجد وكيف تنتشر وبأية أعرض تصيب الإنسان؟!

تصنيف الفيروسات إلى مؤمن وكافرٍ على افتراض أنَّ الأولى تؤدي اغراض الدين في الأرض( بينما الأخرى مفهومة ضمناً) هو تصنيف خارج التاريخ، خارج الجغرافيا، خارج الحقيقة. وهو عودة إلى ما قبل العلم وقبل فهم الدين بمعنى الايمان الخاص والمسؤولية الفردية. ليس يكشف شيئاً قدر ما يكشف ذهنيةً غير سوية تلوي عنق الواقع. وبلغ بها أنْ تدخلت في فرز الفيروسات على أساس اعتقادي لا ينال منها ولا يصدها. ثم ما الجديد الذي فعله هؤلاء المتشددون إزاء الفيروس(كورونا)؟، هل سنظل نقاومه بالأدعية والأذكار بينما طبيعته تتحور بسرعة ويتفلت من الأدوية المتاحة لأمراض أخرى؟

إنَّ هذا الموقف إسهام في كارثة العدوى بلا نهاية، ليس مجرد انحراف تأويلي لأنَّ الأخير له سياقه ودرجاته المعرفية وبلاغته الخاصة بالسياق، لكنه موقف ينم عن انتاج فيروسات الايديولوجيا بحسب رأي سلافوي جيجك، ونشر عدواها الفكرية الأشد فتكاً من الفيروس الطبيعي. الطبيعة تفلتر (تنقي وتصفي) نفسها بنفسها دون انحياز ثقافي ولا أيديولوجي، أما التكفير– حتى بصدد الفيروسات- أمر يعمم الكوارث ويعمل على انفاذها بأغراض إلهية مقبولة بل مرحب بها. هو موقف إرهابي لما بعد كورونا وقبله، يستثمر في آلام البشرية ولا يبحث عن إنقاذ لأي إنسان مهما يكن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى