علي السباعي: سنوات طفولتي بائسة لأن أحلامي كانت كبيرة.. حاوره: عباس ريسان

علي السباعي، لن تتمنى أن ترمشَ وأنت تقرأ له، يجرّك بجمال كلماته إلى مدن أكثر اتساعاً وأريحية. هنا لقاء معه:

- س1/ الأديب هو ذلك الرائي الذي يكشف عن بصيرتنا أو هو المكتشف الذي يأخذنا إلى عالمٍ جديدٍ كما يقول برجسون، مدى توافقية فن القص مع هذه الفلسفة ؟
> ج/1 الأديب : " مكتشف ملتزم بفعله الإبداعي الذي يخلق لنا وسطاً ثقافياً، عارف متأمل في وضع بلده المأساوي، منخرط في هموم شعبه وقضاياه المصيرية الملحة، منفجر بالحقيقة حتى لو كانت خطرة جداً ". كيف والأديب يعيش واقعاً مكبوتاً ( ( نحن نعيش في مجتمع لا يهمه الجائع إلا أذا كان ناخباً ولا يهمه العاري إلا أذا كان امرأة ! )). انه ينتفض ضده " الواقع " ويعلن ثورته عليه، يحدوه الأمل على بدأ نهضة جديدة يساير بها ركب الحضارة، نتقدم خطوة فخطوة نحو الأمام بدلاً من تراجعنا القهقرى. اغلب الكتابات القصصية تذهب إلى ما ذهب إليه برجسون... جميعها تشكل احتجاجاً على أوضاع المجتمع وسياسة السلطة ، قال الشاعر طه ياسين حافظ : (( وكم موجع حزن الناس في الحياة ))، تشكل كشفاً عن الم الناس من وضعها اليائس، وإذلالهم، وسلبهم لأبسط حقوقهم من قبل سلطة باغية... أدبنا ذو النزعة الإنسانية العميقة يهتم بمنح الإنسان الكرامة والحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية... أديبنا الجاد يأخذ الإنسان بيده إلى ضفاف أكثر إنسانية " أنا امشي ببطء ولكن لم يحدث أبداً أنني مشيت خطوة واحدة للوراء " ذلك مادونه إبراهام لنكولن... كل ذلك يجعل الأديب رائياً

- س2/ إذا قلنا أنَّ الكتابة هي ضربٌ من الجنون وربما هي الجنون نفسه، وعليه، متى يعقل علي السباعي؟
> ج/2 علي السباعي رائياً لا مجنوناً.
أراك تذهب إلى ما ذهب إليه الراحل العالم الجليل علي الوردي : (( مشكلة الناس أنهم يتوقعون من كل إنسان ان يكون مثلهم في عاداته وأفكاره وعند هذا يسمونه عاقلاً )). يا صديقي. الكتابة : خلق. أبداً لم تكن مجرد كتابة. " الأديب الرائي " مبدع لا مجنون. نحن نحتاج إلى ملهم يغير وجودنا " حياتنا " ونمط تفكيرنا بقلقه وحذاقته لا بجنونه. الرسام فان كوخ يؤكد : (( على المرء ان يعمل ويتجرأ إذا كان يريد ان يحيا )). حياتنا مجموعة من الحرائق والضياعات لا يطفؤها المجانين... (( بحر الحرية العاصف لا يخلو أبداً من الأمواج )) هذا ما اخبرنا به توماس جونسون. تثقيف الناس يحتاج إلى بناء عقولهم والبناء امر صعب يحتاج إلى عقول نيره تلتفت إلى الهامشي والمخدوع والمغلوب على أمره. اجد الاديب الرائي اكبر من الحياة نفسها، ومثيراً، وحالماً، ومليئاً بالصدق والإنسانية والمباديء والحب – حب الناس – ففي الحب قوة وحيوية تجعلنا احياء.

- س3/ لأنني قريبٌ منكَ، وأعرفُ إنَّ كلَّ خطوةٍ تقوم بها هي عبارة عن تفكيرٍ دائم، بانشاء عوالم جديدةٍ لقصةٍ ما، أصابعكَ ترتبُ المتبعثر من الحروفِ لتنتجَ رحلةً مفعمةً بالجمال، كيف ترى تلك الرحلة ؟
> ج/3 رحلة القصة خطرة جداً. تبدأ خطرة وتنتهي خطرة، وبين البداية والنهاية تكاد تفقد حياتك لأنها تصبح قضية " مسألة وجود " وإليك وجودي : ".. كانت سنوات طفولتي بائسة لأن أحلامي كانت كبيرة وغالباً ما أستغرق في أحلام اليقظة ووضع ذكريات جميلة – حلوة – لحياتي، كانت تستهويني القراءة، قراءة الكتب، وأحببت درس الإنشاء، وكان المفضل لدي بعد درس الرسم، درس الإنشاء جعلني أدرك مدى تعلقي وحبي للغة العربية، للكلمة، الكلمة التي تنقل الأحاسيس بقوة مؤثرة وتدق بصدق على أوتار القلب، قرأت القصص، وكانت القصص مفعمة بالحياة. لحظتها أكتشفت الضوء الذي أنار داخلي وجعلني إنساناً، وقد أثمر أحتكاكي بغيوم هؤلاء العباقرة في كتاباتهم أن أكون إنسانا قابلاً للمطر، للإبداع. أستمرت أحلام اليقظة عندي " أعيشها " في سماء القصة القصيرة الزرقاء الشاسعة، صرت إنساناً محملا بالغيوم، كان ثمة صوت بداخلي لا يمكنني أسكاته، وهنالك ضوء، ضوء لا يمكنني أطفاءه. آه. ياصديقي. كان هنالك ذكريات لا يمكنني محوها من ذاكرتي، وبعد أول تجربة حب فاشلة " أمطرت " وصرت مضاء بالقصة، وأنا الآن مضاء بها. القصة رحلتها صعبة جداً. تبدأ صعبة وتنتهي صعبة، وبين الولادة والممات تخسر عمرك وأنت تكتب. لكن. تبقى القصة مثلها مثل الحبيبة الأولى مصدراً لتعاستي وشقائي إلا ان القصة تختلف عن الحبيبة بالدهشة. القصة القصيرة مبهرة.
- س4/ هناك أمران طالما أرَّقا تفكيري، كلما حاولتُ أن أنتمي لأحدهما أخفقت، فتراني واقعاً بين بين، هل الولوج في روحِ الكتابة يعتبر ( هم أم إمتياز ) ؟ > ج/4 مذ أحببت القصة القصيرة ملئت توهجاً حد الحزن، وكان حزنها قاساً علي، فأنا كل هذه السنين لم أذق طعم الفرح في حياتي معها، عشت من الحرمانات والهلع والرصاص ما جعلني كاتباً، وحده كان قلبي يصغي لمعزوفته " نبض القصة " في دمي. القصة ألم، وألمها يضيء داخلي، كان نور ألمها يضيئني كالمشكاة. لكنني أكتب بوجع وأضيء بحزن. أكتب تاريخا طويلاً من الخذلان والخيبة والفجيعة حاق بالعراقيين أهلي. أذاً الكتابة : هم، وهمها أدركته باكراً، وعرفت بأني بهمها سأواجه الحياة. نعم. الكتابة : هم. هم تنوء به روحي كأمتياز.
- س5/ محسن الخفاجي، الموسوعة المتنقلة، الإنسان، المعلم، نبيٌّ ليس له إله سوى حروفه، هكذا أراهُ أنا، فكيف يراهُ المشتغل بنفس حقلهِ ؟
> ج/5 أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ. سورة الرعد / آية 17... ويقول الدكتور مصطفى محمود : (( قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته )). الاديب شمعة مضاءة تنير الدرب للاخرين، وقافلة الشموع طويلة بدأت بليالي شهرزاد الف، وطوق الحمام لأبن حزم، وقصة مدينة الشمس، وزرقاء اليمامة، والزباء ملكة تدمر، وقصة القمان، والنسور السبعة، وقصص الحب عند أمريء القيس والاعشى وعمر بن ابي ربيعة، وكتاب الاغاني، وحكايات ابن الانباري ، واحاديث ابن دريد الاربعون التي اوردها الفالي في اماليه، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورسالة التوابع الزوابع لأبن شهيد الاندلسي،...، وزقاق الفئران لنزار عباس، والنخلة والجيران لغائب طعمه فرمان، ورائحة الشتاء لمحمود عبد الوهاب، والشاهدة والزنجي لمهدي عيسى الصقر، والحصار لمحمود جنداري، وزليخه البعد يقترب لجليل القيسي، وهموم شجرة البمبر لكاظم الحمدي، وصولاً لثياب حداد بلون الورد لمحسن الخفاجي.

- س6/ الأسطورة وإسقاطاتها على الواقع المعاش باعتبارها رمزاً متخفياً وشارحاً لما موجود لحظة كتابة النص، الى أيّ درجةٍ كنتَ مستفيداً من ذلك ؟
> ج/6 الاسطورة : " حكاية شعرية مقدسة تتحدث عن زمان ومكان خارج التاريخ والعالم ". بعد ان اصبح الإنسان المعاصر وجهاً لوجه امام مصيره المحتوم، واصبح الامل عسيراً في استعادة الزمان، وصرنا نعيش في تاريخ يصنعه الطغاة حيث تحول المكان إلى جحيم صرنا نميل إلى تصديق الاساطير لأننا كشعب عانينا ما عانيناه من المحن الكثير ومن الآلام ما لا يصدق ونحن مغرقون في العاطفة " نحن عاطفيون ". أنها تجسد حالنا بأفضل شكل. فجاءت مجموعتي القصصية " زليخات يوسف " التي جعلت من المناخ الأسطوري مناخاً لقصصها، وتخليت عن الأحداث والشخوص والحكاية في الأسطورة واستثمرت الشحنة التي تنبعث منها شحنة لقصصها " لقد شحذت طاقة الأسطورة وليس تفاصيلها ". رفعت الكثير من أحداث حياتنا التي دونتها إلى قصص وارتقيت بها إلى مستوى أسطوري أي أنني صغت من الحدث العادي حدثاً اسطورياً عن طريق تحويل الأدب إلى أسطورة.

- س7/ الجوائز مسؤولية تقع على عاتق الذي يحصل عليها، إذ يترتب عليه أن يكون بمستوى تلك الجوائز من ناحية الإبداع، وأن لا يركن قلمه جانباً ويقول: اكتفيت ؟
> ج/7 لقد كرست حياتي للكتابة عن حياة الناس في العراق، والعراق من اكثر البلدان اثارة للحزن في العالم. انه دموي بشكل مبالغ فيه، ونحن نتلظى فيه. كتب الشاعر رسول حمزاتوف مره متسائلاً ماذا يعني ان تكون شاعراً. انها تعني ان يعيش الناس في دمائك , يغتسلون في عروقك. كيف اكتفي ؟ وان عيني رأت اجمل شمس عرفتها في حياتي ؛ انها شمس القصة القصيرة. اجد الإكتفاء صراخاً حزيناً لا طائل من ورائه ومضيعه للوقت. كيف اكتفي وانا تعلمت العيش مثل ناي يطلق النغمات " القصص ". المكافأه لمهمة انجزت هي القوة على إنجاز مهمة اخرى... ذلك ما جاءت به تجربة جورج إليوت.

- س8/ تقول الناقدة الأردنية الدكتورة سناء الشعلان: ( تشكّل قصص السباعي بكلّ صدق صراعه مع الحرمان،وانهزامه أمام معطيات حياته.وهو ينقل لنا الفجيعة كما يراها ويدركها ويفهمها )، من هنا هل نستطيع أن نقول إنّ السباعي ينتهج أسلوب الواقعية في كتاباته؟
> ج/8 نحن نعيش في الحاضر فقط.
وحياتنا اليومية العراقية تجدها تحتشد : " بعذابات مريعة وانكسارات صادمة. لا نهاية لآلامنا العراقية الغزيرة " ومعاناة العراقي الذي صار وحيداً مسحوقاً بقوى ضاغطة، ومكبلاً بالتشاؤم واليأس والعجز، عجزه عن مواجهة قسوة وجمود مجتمعنا الذي انتشر فيه الفساد وانعدمت فيه القيم والمثل، وكثر فيه النفاق. من هنا جاء ولعي بالواقع اليومي الذي انحاز اليه كتابة، كتابة واقعية ادون موضوعاتها صوراً التقطها من حياتنا. " الكتابة الواقعية ".. عن وقائع الحياة اليومية العادية والبسيطة للناس بأسلوب جاد وحديث وكشف كل ما هو مأساوي وخاوي ومبتذل في هذا المجتمع. قصص الواقع تعري خواء حياتنا من كل مسرة. آه. من الانانية وغياب المثل العليا وانحسار الاخلاق لدى العامة. واذا كان اعذب الشعر أكذبه، فإن أصدق القصص اكثرها واقعية.

- س9/ هل اتحاد أدباء ذي قار إلتفتَ اليكَ ذات يوم، ربما إنكَ تبتعد كي تثيرَ الأسئلة وتكون بذلك محط حديث الآخرين، أو هم الآخرون أنفسهم ( حسداً ) يتفننون بإقصاءك، لا أدري ؟
> ج/ 9 حاضنتي الحقيقية بعد مدرسة الحياة اتحاد الادباء والكتاب، والاتحاد كان ولازال دائب الالتفات لأبنائه الأدباء، وأنا لم ابتعد لأثير شيئاً ما. أنما هي مشاغل الحياة والعمل يا صديقي، وكل زملائي الأدباء يتفننون في إظهار محبتهم لي.

- س10/ هل تجد في الواقع العراقي مادتك السردية أم انك تبحث عن عوالم وامكنة اخرى لتبثها في خيالاتك، باعتبار ان البيئة العراقية اصبحت خاوية وغير محفزة؟
> ج/ 10 الكتابة القصصية ؛ هي تجربة ميدانية في الحياة. لذا ايقنت بان الواقع العراقي الذي يتداوله الدين والسياسة والفقر، واقع ساخن نعيشه كتابة فيمنحنا نبضه الحر، حاراً مليئاً زاخراً بأراض بكر لم تحرث بعد كتابة. كل ما نحتاجه رغبة حقيقية في الاكتشاف، وأن المواد الخام العراقية مازالت تنتظر من يدرك حقيقة قيمتها.

- س11/ هل تغيرت ملامح القصة والسرد عموماً لديك بعد 2003 او ما يسمى بفترة الاحتلال عمّا كنتَ تكتبه قبل ذلك ؟
> ج/11 (( عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والافاقون والمتفقهون والانتهازيون وتعم الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوش الفكر )). ابن خلدون.
أرى ان ما يمر به العراق من انكسارات سياسية وفكرية بعد عام 2003 هي، مرحلة تشظي، كانت الطعنة عميقة خلفت نزيفاً بحجمها. نحن بحاجة للكتابة عنها، الكتابة تعريها، فهي وحدها القادرة على هزنا وتفجير الاسئلة عن هذا الخلل، الخلل الذي جعلنا مهزومين ومنكسيرين إنسانياً... بانتظار الصوت الذي يرتفع متحدياً وسط زمن مر كهذا الذي نعيشه. أورد قصة مؤلمة كتبتها جرت لفتاة إبان الأحتلال الأمريكي للعراق، وهي ضمن مجموعتي القصصية " مدونات أرملة جندي مجهول " التي صدرت هذا العام .. (فوق مدرعتهم اغتصبوا فتاة عراقية مشردة ثم رموها ميتة )... " نحن نعيش في لظى " نعيش زمناً ملبداً بدخان الأحترابات الطائفية على مدى السنوات الأحدى عشر الماضية عشنا العديد من التوغلات والمغالطات إلى حد يعجز معها عقل المتلقي أي متلق من الأستمرار والمتابعة. أضف إلى ما أسلفت جمهرة الأخطاء التاريخية التي تتصدر المشهد العراقي المغيب دائماً. يا صديقي. السرد تغير. " أن كل ما لا يتجدد يتدهور ". ذلك ما جاد به الفيلسوف الفرنسي ادغار موران المعني بالدراسات المستقبلية. وقد اصدرت مجموعتي القصصية " بنات الخائبات " هذا العام تجسيداً لما نعيشه الان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى