عماد العباد - كما في كل ليلة!

ارتميت على الوسادة، تنفست ببطء وحاولت تصفية ذهني من كل الأحداث التي مرت بي اليوم. هكذا يقول خبراء النوم، عليك أن تتنفس ببطء وتخرج مع كل نفس جميع الأفكار التي علقت بذاكرتك حتى تصل إلى مرحلة الصفاء الذهني. ذلك البياض اللامتناهي مثل ضباب متشابك.. وضوء لطيف غامر.
(احتضنت المخدة.. رميت إحدى ساقي على الأخرى)
أحب من حين لآخر أن أفكر في الماضي السحيق، وأن أستدعي ذكريات الطفولة، هذه الطريقة تجعلني سعيداً ومسترخياً. أما الوسيلة الأخرى، فهي عد الخراف التي تقفز حاجزاً.. الخروف هذا المخلوق الجميل ذو الرائحة النتنة قد يكون مفيداً. عامل الشاي عبدالعظيم أصبح ثرياً الآن بعد أن بدأ بالصدفة تجارة الخراف. ذهب ليشتري غنماً لمدير الشركة وعندما أحضرها لم تعجبه فعاد بها إلى السوق وباعها بمكسب. شيء ما بداخله قال له إن هذه هي جرة الذهب التي كان يبحث عنها. قدم استقالته وتفرغ للمواشي، وأصبح الآن من تجار السوق حتى أن صديقه قال لي إن الدفعة الأخيرة التي قام ببيعها ناهزت الخمسة ملايين!
(فركت خدي عدة مرات على المخدة لأتخلص من شعور قهري بعدم الارتياح).
ليت أن لدي خمسة ملايين. كنت اشتريت بها عمارة تحقق لي دخلاً كافياً لأتقاعد وأذهب للعيش في برشلونة.
برشلونة، يا لجمال هذه المدينة الفاتنة. كانت رحلتي لها في الصيف لا تُنسى.
شارع (الرامبلا)، وسوق الفواكه الذي يبدو كلوحة فنية، التوت البري مصفوف بعناية إلى جوار الفراولة والعنب والمانجو وعصيرات من كل صنف ولون. البائعات الجميلات ذوات الشعر الأسود والبشرة البيضاء لا ينقصن نظارة وجمالاً عن ما يقمن ببيعه. ابتسامة البائعة كلفتني عشرين يورو اشتريت بها فواكه لا أحتاجها.
أذكر أني شعرت بدوار مفاجئ، إذ خطر لي في تلك اللحظة سوق (عتيـّقة) في الرياض، الحرارة التي تقارب الخمسين درجة والخضراوات التي تعرض فيه، الذباب و(الخياش) الرطبة وأشكال البائعين وأصواتهم الكئيبة المتحشرجة (على عشرة.. على عشرة.. الحق يا ولد).
(انقلبت على جنبي الآخر بحثاً عن الجزء البارد من المخدة).
كيف يتعايش أهل الرياض مع هذه الكمية من البؤس في مدينتهم! عواصف رملية، وزحام شديد، ووجوه عابسة، وتلك الصفعة الخشنة من الكآبة التي تشعر بها ولا تعرف مصدرها!
لكن.. هل الرياض فعلاً بهذا السوء؟
ربما ليست كذلك إذا ما قارنتها بمدن متجهمة أخرى، لكنها تظل مكاناً لا يصلح للعيش، على الأقل لشخص مثلي يعشق الهدوء والتواجد في أمكنة يقطنها أقل قدر ممكن من البشر.
(أهرش رجلي بنفاذ صبر. لماذا لم يطبق علي النوم حتى الآن).
الهدوء، السكينة، السلام النفسي، كتب تطوير الذات، من المخزي أننا أصبحنا نبحث عن السعادة، وأن ذاتك أصبحت غريبة عنك، تحتاج أن تتعلم أن تتعايش معها بسلام، ولكي تفعل ذلك، عليك أن تمارس تمارين استرخاء. عليك أن تتعلم كيف تتنفس. نعم .. كيف تتنفس!
تذكرت المرة التي ذهبت فيها لطبيبة نفسية. كنت أشتكي من الوحدة قالت لي: (عليك أن تتعلم التعايش مع ذاتك، أن تحبها، أن تقضي أوقاتاً في التعرف على نفسك. نحن نتجه لأن نكون أشد انعزالاً وستشعر بالوحدة أكثر إذا لم تتعلم كيف تقضي وقتاً ممتعاً وأنت وحيد). خرجت من عيادتها وأنا أشعر بالتعاسة.
(قررت أن أنام مثل النجمة طافياً على ظهري. فتحت ذراعي وباعدت بين ساقي).
أحن كثيراً إلى الماضي البسيط، ذلك الوقت الذي يسبق تاريخ ميلاد الاكتئاب. ربما كان قبل نهاية الثمانينات الميلادية.
بدا لي بيت جدتي الطيني. ليست الصور متسلسلة واضحة، مجرد ومضات سريعة، أنا أنزل الدرج مسرعاً، الساعة السادسة صباحاً كما يبدو من خلال ضوء الصباح الذي بدأ يتسلل بلطف، يتبعني ابن خالتي فهد. ليست لدينا خطة محددة. نركض باتجاه المطبخ. ثمة خبزة (تميس) قديمة نتسابق لتقطيعها، لا يوجد ثلاجة. نفتح قدوراً مصفوفة بعناية. نصاب بالإحباط لأنها فارغة. يشير لي باتجاه خزانة المعلبات، تونة، جبن، نقفز فرحاً. أين نجد (فتاحة العلب) أحاول فتح أحد الأدراج تخرج لي في الهواء عبارة (هذا الملف محظور) الرقم السري، ما هو الرقم السري؟ (فهد.. الملف محظور، ما هو الرقم السري يا فهد) جدتي تقف بالباب وخلفها (ستيف جوبز) ينحيها جانباً ويدخل المطبخ، يسحب خبز (التميس) من يدي ويعطيني آيباد. يربت على كتفي ويقول أنت لا تحتاج غير هذا، يبتسم. أصبحت الكلمات تخرج من فمه على شكل عصفور (تويتر) أصبح كل شيء أزرق إلا جدتي. ركضت نحوها وحضنتها. أصبحت عيناي ثقيلتين، تهاوت قدماي. كنت مستمتعاً بهذا الخدر. انزلق جسدي ببطء حتى لامست الأرض وأغمضت عيني.ِ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى