خيري شلبي - حبل الغسيل.. قصة قصيرة

لم يعد يفصلني عن شباك صراف البنك الأهلي‏-‏ فرع الشواربي‏-‏ سوي خمسة أفراد‏.‏ كانوا جميعا متذمرين‏,‏ ليس بفعل السأم من طول الوقفة في طابور مزدحم‏.

ولكن هذا الواقف أمام الشباك بجسده الضخم قد طالت وقفته وكثر جداله مع الصراف بكلمات غير مفهومة لنا, يتخللها مزاح سمج ومداعبات أكثر سماجة يرسلها إلي الصراف وإلي بعض الجالسين إلي مكاتبهم خلف الحاجز الزجاجي لكابينة الصراف, فلا يضحك لها أحد سواه بصوت كقصف الرعد.
أخيرا فهمنا أنه هو الآخر صراف في احدي الشركات جاء يسحب مرتبات موظفيها, ولا يني يردد أنه لابد أن يرجع بالفلوس مبكرا لتقبيض الموظفين اليوم قبل انصرافهم.
لم أكن متذمرا بقدر ما كنت مغتبطا. فلقد تم كل شيء حتي الآن بسلامة. أهم ما كان يخيفني هو ضياع شهادة الاستثمار( فئة ج) التي كنت اشتريتها بجنيه واحد منذ أعوام مضت, من أول مرتب قبضته من محل السنديوني المتخصص في الأحذية الحريمي, التي اشتغلت فيه بائعا رغم حصولي علي شهادة الثانوية العامة, ثم نسيتها تماما, خاصة أنني كنت كثير التنقل من حجرة في بنسيون إلي حجرة فوق سطح عمارة في وسط البلد إلي حجرة في شقة مفروشة مشتركة مع بعض الزملاء والأصدقاء, وإلي أن وفقني الله وهداني إلي بنت الحلال الغلبانة العياشة فأكملت نصف ديني بالزواج منها وتعاونا معا في شراء شقة صغيرة محندقة بمساكن حي زينهم الشعبية لانزال ندفع أقساطها شهريا إلي اليوم. في كل هذه الانتقالات تاهت أوراق واختفت أشياء وأضيفت أشياء ثم طغت أشياء علي أشياء.. حتي فوجئت البارحة بخطاب يأتيني من البنك الأهلي علي عنواني بمحل السنديوني بشارع الشواربي, يخطرني بأن شهادة الاستثمار الخاصة بي قد فازت في السحب الأخير بعشرة آلاف جنيه.
أسعدتني المفاجأة أكثر من ليلة زفافي. زوجتي مني استخفها الطرب فجعلت تنقر علي قعر الطاسة وهات يارقص أذهلني قدر ما أبهجني بمرونة خصرها الخيزراني. حتي طفلنا جاء يزحف ثم قعد يتفرج علي أمه ويضحك ويصفق بيديه ويصدر أصواتا نزقة صارخة بالفرح.
عند ذاك تذكرت الشهادة, فارتج قلبي شعرت بالفزع والضياع بل تشاءمت ويبدو أن وجهي قد اكفهر. سألتني مني بوجه شاحب:
ـ إيه؟ مالك؟
ـ الشهادة! ألا تعرفين أين هي في كراكيب هذا البيت؟
توقف الدم تماما في وجهها:
ـ لا تقل إنها ضاعت وإلا وقعت من طولي!
ـ اللهم اكفنا شر النحس يارب.
تركتها إلي حجرة النوم. فتشت محفظتي, وتحت الجرائد المفروشة علي أرفف الدولاب, وفي جيوب الملابس المهجورة, وتحت المرتبة. لحقت بي مني, سحبت أدراج الكومدينو كلها, قلبتها فوق الأرض. تبعثرت أوراق كثيرة: قسيمة الزواج, ايصالات أقساط الشقة والنور, كروت بأسماء نخبة من زبائن المحل. راجعنا كل ذلك عدة مرات, لا فائدة. من فرط اليأس والقهر صرت علي أهبة البكاء. فلقد ظهرت في الحال مشاريع اتضح أنها ملحة ولابد من تنفيذها فورا. ولكن, سبحان الله, اللي من نصيبك يصيبك فعلا. انتبهنا إلي طفلي الحبيب تامر زحف بين الأوراق وصار يفركشها بيديه ورجليه. فركعت مني لتجمعها, فحانت منها نظرة داخل فراغ الكومدينو حيث تركب الأدراج, فلمحت ورقة مطوية علي نفسها اربع طيات. مدت ذراعها, قبضت عليها, أخذت تفكها كأنها تفرد طيات قلبي. أطل اسم البنك الأهلي علي المساحة الخضراء ساطعا. زغردت مني, فانتعش تامر وقهقه, فزغردت له مرة ثانية ثم ثالثة.
طويت الشهادة مثلما كانت, حشرتها في محفظتي, وأوينا إلي الفراش في أحضان حلم كأنه الفجر الندي الصبوح.
>>>
في البنك دلوني علي الموظف المختص. راجع بطاقتي العائلية ورد هالي, راجع الشهادة علي دفتر بجواره ثم ردها لي هي الأخري, ثم حرر لي إذن صرف أقبض بموجبه الجائزة من هذا الشباك..
الرجل الضخم الجثة مندمج في عد الرزم وحشرها في حقيبة من نوع المنفاخ..
ـ إزيك ياأستاذ! فينك وفين أيامك؟
امرأة رشيقة القوام فارهة. كل عضو في جسدها بارز بشكل مستفز, دائم الحركة يكاد يستقل عن الجسد. علي وجهها طبقة من المساحيق لابد أنها استغرقت ساعات أمام مرآة التسريحة لكي تقوس الحاجبين وتطيل الرموش وتقص شعرها الغزير المصبوغ بلون الحناء في كعكة متدرجة كهرم سقارة فوق رأسها. ترتدي تاييرا من الشمواه الفاخر زيتي اللون, مفتوح الصدر تكشف الفانلة الداخلية عن بحر من المرمر تحيط برقبة طويلة مبرومة. ثمة سلسلة ذهبية تحيط بالرقبة يتدلي منها مصحف ذهبي في حجم علبة الكبريت, ويتدلي من أذنيها قرط ذهبي علي هيئة جعران فرعوني, وفي معصمها الأيمن أسورة علي شكل ثعبان, وفي الآخر غويشة, وفي أصابعها خواتم بأحجار الفيروز والعقيق..
من تكون يا تري هذه السيدة العجيبة التي حيتني من الطابور المجاور, ولا تلوي رقبتها وتحملق في وجهي بإبتسامة المعاتب المتسامح؟!..
هذه الابتسامة مألوفة لي. هذه الأسنان المفلوجة التي يقال انها علامة حسن الحظ وسعة الرزق سبق لي أن أعجبت بها. حتي الوجه الدائري بملامحه البلدي الخفيفة الظل والجاذبة لم تستطع طبقة المساحيق أن تحجب ظله الكامن في ذاكرتي.
ثم هذا الجسد لقد سبق لي أن تغزلت في تفاصيله. اللعنة علي ذاكرتي التي يبدو أنها باظت. ذاكرتي الآن كحجرة تخزين الكراكيب, تحتاج إلي ضوء قوي للمرور فيها حتي لا أدوس فوق كراكيب وأشياء لم يعد لها ثمة من حاجة لكنني إن دست فوقها دون ضوء فقد تغتالني الأشياء مدافعة عن نفسها عند الصدام المفاجيء, أو علي الأقل تمزق ثيابي إن لم تسبب لي جروحا وكدمات أليمة.
ها هو ذا بصيص من الضوء الخارجي من خصاص باب فتحه صوتها:
ـ نسيتني؟!! إخص عليك: زعلتني.
أكاد أنطق اسمها. هززت رأسي بابتسامة ترحيب وسرور:
ـ كيف حالك؟ منذ مدة لم نتقابل!
بابتسامة عريضة ونظرة ذات معني أزاحت ذقنها في اتجاهي بحركة من يقول: سيبك من الكلام ده. كان وجهها يؤكد أنني لم أتذكرها تماما وأن هذا قد أغضبها بالفعل, حيث أهملتني وانتظمت في الطابور. وكانت توشك أن تقترب من الشباك الذي يستقبل الايداعات.
>>>
دماغي كله دخل في حجرة الكراكيب المهملة بإصرار عنيد. قادني ضوء صوتها.
ـ لا أدري كيف ـ إلي الجانب الخاص بمحل السنديوني في ذاكرتي..
كنت مستجدا في العمل, ولا أزال تلميذا في الثانوية العامة, وأهلي في شبين القناطر قد رموا طوبتي لتكرار رسوبي وارتفاع تكاليفي فأهملوني وضنوا علي حتي بالكسوة, فتحديتهم وجئت إلي القاهرة لأشتغل وأذاكر من منازلهم. من حسن حظي كان محل السنديوني في ثاني أو ثالث يوم علي افتتاحه. ولأن أبي جزمجي يفصل الأحذية للناس في بلدتنا فإن طفولتي كانت عالما من الأحذية بمختلف أنواعها وأشكالها وألوانها وأنواعها ومميزات جلودها طبيعية كانت أو صناعية. ولهذا فقد جذبني هذا المحل الجديد. عرضت نفسي علي السنديوني فأجلسني تحت نظره يوما كاملا إطمأن فيه إلي معلوماتي وحلاوة لساني ورقة طبعي الذي يؤهلني للتعامل مع سيدات رقيقات.
سرعان ما أصبحت البائع الأوحد في المحل يساعدني ثلاثة صبيان. تعلمت كيف أفهم الزبونة من دخلتها, من طريقة كلامها, من مظاهرها وحركاتها. تعلمت كيفية التسلل إلي قلوب الزبونات من خلال قياس أقدامهن واستكشاف الموديل الملائم. زبونات كثيرات كن علي وشك الانصراف دون شراء ليأسهن من العثور علي ما يناسب أذواقهن في اللون أو في الموديل. كنت ألاحظ ذلك وأنا بعد في مرحلة الصبينة في المحل, فكنت أفطن ـ ربما بالفطرة ـ إلي أن يأس الزبونات ليس في عدم وجود ما يناسبهن بل من ضجر البياع في قصر نفسه في تطويل البال وأخذ الزبونة علي كفوف الراحة, فبجرأة لطيفة أعطي نفسي حق التدخل بتشجيع ومباركة من نظرات صاحب المحل, الذي أصبح يصنفني بأنني أعرف بالضبط الحالة المزاجية للزبونة وخاصة إذا كانت بمفردها. من أول نظرة في عينيها أدرك إن كانت تود الشراء حقا أم أنها ستقرفنا لمدة عشرين أو ثلاثين دقيقة وفي النهاية لا يعجبها الأذواق أو الألوان أو الموديلات أو الأسعار فتنصرف مصحوبة بالسلامة. يا هانم وهي قد لا تكون هانم ولا حاجة.. تعلمت أن الزبون صيد وقع في المصيدة بمجرد دخوله المحل ويستحيل التفريط فيه بأي حال من الأحوال وإلا فلا يكون البياع بياعا بحق.. ثم إن الزبونات مستويات وكذلك البضاعة.. ومثلما هناك زبونات سناكيح في لباس الهوانم الثمينة ففي المقابل هناك ألوان من الأحذية يتطابق شكلها مع الموديلات الثمينة إلي حد تكاد تكون شعبية, لكنني أقدمها للزبونة علي أنها من الموديلات الراقية المتطابقة مع المعروضة في الفاترينة, اختار لها الموديل واللون الملائمين لحجم القدم ولون البشرة, تفضلي يا هانم.. تجلس علي المقعد الجلدي المريح, أجلس أمامها مقعيا كجلسة ماسح الأحذية, أتناول قدمها بيد حانية أبث فيها حرارة قلبي المتوفرة المتوقرة, أخلع حذاءها برفق, ألبسها الجديد وأتمم عليه عند الكعب والكاحل فتلمس أصابعي لحم الساق دون إرادة, فيشب وهج الحرارة في قلبي.. أشير لها أن تمضي لتجرب, تروح وتجيء وأنا أصاحبها بالموسيقي التصويرية التي تطربها منطوقة في كلمات: يا أرض احفظي ما عليك, مبروك علي الأرض.. يشرق وجهها بالنور والبهجة حين تعرف أن السعر أقل مما تخوفت. أما الهانم الحقيقية فإنها ليست مجرد شكل براق بملابس ثمينة مستوردة وسيارة فارهة وما إلي ذلك بل ربما كانت لا تملك شيئا من هذا علي الإطلاق; إنما الهانم سلوك يقول لك ـ دون أن يقول ـ احترم نفسك فإنك, أمام هانم حقيقية واضحة الأصول, في صوتها في طريقة كلامها في ألفاظها في حركتها كل شيء فيها متسق غير مفتعل غير منتحل. هذه لها بالطبع معاملة خاصة هي التي تفرضها علي المحل, نقول من فضلك هات الموديل الفلاني ماركة كذا من جلد كذا.. فإن جاءها فحصته بالنظر المتمعن قبل أن تلمسه.. وحين أساعدها في الخلع واللبس أضاعف من أدبي واحترامي لنفسي قبل احترامها, وأكون صادقا معها في كل كلمة, حتي في الموسيقي التصويرية وهي تتمشي رائحة جائية تختبر راحة قدميها في الحذاء, أتخير ألفاظا راقية مهذبة مثلها: منتهي الشياكة, فيري فيري جود, ياسلام لو الطقم اكتمل, وأقدم لها حقيبة يد من نفس الجلد بنفس اللون; وأثناء شرحي لمميزات الحقيبة التي أعدها المصنع لتكون مع الحذاء يكون صوتي دافئا بقدر ما أستطيع, أقرب إلي الهمس الودود, مما يقرب المسافة بيننا, فتعاملني كأنني أخ أو صديق أو زميل; المهم أن البيع لابد أن يتم.. وهكذا كل الزبونات صرن أصدقائي, أحبني, بعضهن يسأل عني أول ما يدخل المحل كأنني أصبحت شرطا للشراء.. ثم إنهن ـ حتي السناكيح المتنكرات في قالب الهانم ـ يغدقن علي من البقشيشات السخية باسم الله ما شاء الله.. بفضل البقشيش استطعت السكني في البنسيونات والحجرات المفروشة, وأدخل السينما وأفنظز مع الصحاب, زجاجتان من البيرة لا بأس, كأس براندي في بار في آخر الليل لا مانع, حجران في تحشيشة مع الصحبة ليلتنا فل وعشرة, امرأة يتصيدها أحدنا في الطريق أهلا بها.. شفت لي يومين حلوين إلي أن قيدني الزواج فعلمني الأدب والاستقامة من أجل بنتين وولد أنجبتهم وراء بعضهم فقعدت زوجتي بهم في البيت وشلت أنا الحمل وحدي فأصبحنا نمشيها بالتيلة..
وذات عصرية بعيدة جدا, في الفترة الميتة قبل حلول المساء, دخلت علينا فتاة فارعة تتأود, تتعمد إظهار مفاتن جسدها الفاتن بالفعل. كانت في حوالي العشرين من عمرها, ووجهها قمحي اللون طازج الملامح, خجلها المصنوع المبالغ فيه أقنعني أنها سنكوحة حديثة الدخول في المقدر.. مساء الخير, مساء النور يا هانم. برقة مفرطة أشارت إلي صندل معروض في الفترينة ممكن أشوفه؟ ممكن طبعا, تفضلي.. ما أن بدأت أدس قدمها في الصندل حتي تأكد لي أنها زبونة جاءت تبحث عن زبون. أنا أيضا ولد مفتح أفهمها وهي طايرة, لاغيتها, بالعين قلت وبالرمش قال. تواعدنا علي اللقاء في العاشرة والنصف مساء يوم الخميس المقبل في حديقة جروبي عدلي.
بنت المجنونة جاءت في موعدها. وفيما نشرب عصير البرتقال قلت لها:
ـ أريد أن أصارحك بشيء يابنت الحلال
ـ إني أموت حبا في الصراحة
ـ نحن ثلاثة أصدقاء نسكن في شقة واحدة ونشترك في كل شيء!
ـ الشرط نور: كل واحد منكم يعطيني جنيها!
ـ الرحمة!
ـ أكره المساومة في هذا الأمر!
ـ تستحقين الأكثر علي كل حال!
ـ إهرش!
وفركت أصابعها كأنها تعد النقود..
ـ تقبضين مقدما!
ـ إذا كان يعجبكم!
كانت ليلة مكلفة جدا, لكنها كانت ممتعة بشكل لا يصدق, أشبه بالخيال; لدرجة أننا بتنا نكررها كل خميس, إلي أن جلست ذات ليلة أمام التليفزيون أشهد الشيخ الشعراوي يفسر القرآن الكريم بطريقة سحرتني وألقت الرعب في قلبي خوفا من عذاب جهنم علي ما اقترفته من خطيئة. ذهبت إليه في المسجد الذي يتكلم فيه, سألته عن كيفية التوبة وهل يقبل الله توبتي؟ فقال جزاه الله كل خير إنني يجب أن أصفي حسابي مع نفسي أولا, وأستمع الي قلبي وضميري وأراعي الله في كل عمل أعمله وكل نظرة أنظرها إلي امرأة, وأن أداوم الصلاة والزكاة والصوم فإن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ثم إن الله غفور رحيم. وقد حصل, كففت عن رؤية سونيا, كففت عن ملامسة سيقان الزبونات وعن نظرات الاشتهاء التي كنت أنقاد إليها دون أن أدري, خدمتني الصلاة بالفعل وجعلتني مطمئن النفس فأقبلت عليها بإخلاص لا أفوت فرضا مهما كنت منشغلا, وأكتفيت بالكلام المحترم لتحسين البضاعة وإغراء الزبون علي الشراء. ثم اكتملت هدايتي بالزواج من بنت الحلال, فسقطت سونيا من ذاكرتي تماما.
>>>
ها هي ذي قد وقفت أمامي حية متوردة الخدين متأودة لم يغادرها الشباب رغم مرور أكثر من عشر سنوات, بل ازدادت نضارة ورعرعة. صارت أمام شباك الإيداع مباشرة, وصار بيني وشباك الصرف شخص واحد كانت سونيا قد فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها عدة رزم من النقود من فئتي الخمسين والمائة: يتناولها الموظف واحدة بعد الأخري فيضعها في ماكينة العد, مرة بعد مرة, ثم يرمي بها إلي جواره, يكتب إيصال إيداع500, يا بنت المجنونة لديك رصيد يبدو كبير في البنك الأهلي! طبعا! رسمالك لايزال ريانا عفيا. أخذت سونيا الإيصال فدسته في حقيبة يدها واستدارت, فواجهتني. غمزت لي بعينها: تأمر بشيء؟ يمكنني أن أنتظرك. قلت بشيء من الود: شكرا ياسونيا مع السلامة انت. فمضت في خطوات معجبانية, ملوحة بزراعها كالفنانات النجمات, فتابعتها بنظرة خاطفة, فلاحظت أن رجلا في طابور الإبداع كان يتأهب لمصافحتها بوجه بشوش لكنها لم تنتبه إليه.
لحظة أن صرت أمام الصراف. أعطيته إذن الصرف.. راجعه, تلفت حواليه وقلب في أدراجه بحثا عن نقود فلم يجد سوي القليل من الفكة. فنقر بأصبعه علي الزجاج الفاصل بينه وكابينة الإيداع قائلا:
ـ هات ماعندك
فتناول زميله الرزم التي أخذها من سونيا وسربها إليه عبر فرجة في الزجاج. فوضع الصراف إحدي الرزم في ماكينة العد, فتأكد من صحة الرقم: عشرة آلاف, ثم أزاح الرزمة أمامي علي الرخامة. فما دريت إلا ويدي تزيحها بعنف مذعور تجاهه, قلت في توسل ورجاء:
ـ لأ! أرجوك! بلاش دي!
ذهل الصراف. راح يرمقني بعين جاحظة كأنه يتفرج علي كائن غريب:
ـ يعني إيه بلاش دي!؟ مش فاهم!
ـ أرجوك! أعطني فلوسا غيرها!
ـ لماذا؟ ما السبب؟!
ـ لـ.. لـ.. لغير سبب إنما أرجوك أن تغيرها من أجل خاطري!
صفق الصراف كفا علي كف, بدت عليه الحيرة, لمحت في عينيه نظرة خوف تشي بأنني في نظره ملئاث. وبدأ الناس من خلفي يجأرون في ضجر:
ـ خلص ياأخينا!
ـ ماهذا الدلع الماسخ؟
ـ المجانين كثروا في هذه الأيام المطينة بطين!
ـ أين شرطة البنك؟ أزاح الصراف الرزمة خارج الشباك هاتفا بجفاء وفي عينيه نظرة تهديد:
ـ وسع! وسع! إللي بعده!
بغلظة قبض الواقف ورائي علي كتفي قبضة مفاجئة آلمتني جدا كأن كتفي صارت في حنك تمساح غرز فيه أنيابه, ثم حدفني بعيدا, صرت أتطوح كالبهلوان أحاول منع جسدي من السقوط علي الأرض. مع ذلك اضطررت إلي الانخناء لالتقاط الرزمة التي رمي بها الرجال ورائي وراح يباشر عمله مع الصراف بثقة كأنه لم يفعل شيئا.
في شعور بالهوان وقفت مهزوما لا أدري ماذا أفعل. لكن شد انتباهي رجل شكله محترم إلا أن وجهه طافح بالمرح والشقاوة والصبيانية, قد راح يرمقني بإشفاق وهو مستغرق في ضحك مكتوم يهتز منه بدنه وتدمع عيناه. إغتظت منه أشد من غيظي من هذا الذي دفعني بقوة. حملقت في الضاحك بنظرة متحدية, ثم اقتربت منه بحركة تهديد توهمت فيها الثأر كرامتي. صرخت فيه:
ـ علام تضحك ياأخ؟ أعجبك مافعله بي هذا المتهور؟
فوجئت بملامح الرجل قد لانت وبدت جاذبة وطيبة, وفي عينية إنسانيه.
حملق في وجهي. كانت عضلات وجهه تتراقص بفعل ضحك مكتوم وعارم يريد الانطلاق في قهقهة. نفس الشعور انتابني فصرت أقاوم الرغبة في الضحك مثله. أدرك هو هذا, فارتمي علي صدري فاتحا ذراعيه ثم احتواني بها في حرارة, واضعا رأسه فوق كتفي, مطلقا الحنان لضحك عميق من ذلك النوع الذي تشعر بأنه يغسل القلب مع أن بعض الواقفين في الطابورين المتجاورين ظن أنه يبكي. ثم سحبني لجنب, وضع يده علي كتفي قائلا بصوت خافت فيه حميمية الأصدقاء القدامي:
ـ أنا الوحيد هنا يفهم موقفك ولهذا ضحكت!
ـ مكشوف عنك الحجاب ياتري؟
ـ نعم!
ـ بركاتك! تشرفنا! قل ياضارب الودع!
ـ أنا أيضا أعرف سونيا!
ـ نعم؟!
ـ رأيتها وهي تلاغيك! ولو هي انتبهت إلي وجودي لتصرفت معي نفس التصرف وربما أكثر!
جرادل من الماء البارد تندلق فوق بدني حتي كدت أرتعش من الشعور بالبرد في العراء:
ـ عليها اللعنة! وشها نحس! ليتني ما تذكرتها!
ـ أنت طبعا كاشش من فلوسها باعتبارها فلوسا ملوثة جاءت من الطريق إياه!
ـ بنت المجنونة كانت تأخذ جنيها من كل فرد!
ـ أنت إذن عرفتها أيام الرخص! اليوم صار الجنيه خمسمائة!
ـ إني متشائم من هذه الفلوس! انطفأت فرحتي وتعكر دمي! انخرط في الضحك!
ـ علي فكرة!! الفلوس بمجرد انتقالها من يد سونيا لإصراف البنك تعتبر قد غسلت وتطهرت!
ـ سأطلب فتوي من مشايخ برامج التليفزيون! لكنها ستكون فضيحة لا لزوم لها وقد تعرف زوجتي فينخرب بيتي!
رتب علي كتفي بيد حانية:
ـ هات أغيرها لك! ومال علي الأرض فأمسك حقيبته من بين قدميه. فتحها نصف فتحة:
ـ كم معك؟
ـ عشرة آلاف!
سحب من حقيبته رزمة من فئة المائة قدمها لي:
ـ ولا تزعل نفسك! سأودعها في البنك علي كل حال!
ووضع رزمتي في الحقيبة وأقفلها وتزحزح الي مكانه الذي تقدم في طابور الإيداع. صافحته بحرارة ودعوت له بالستر, واندفعت خارجا أكاد أطير من الفرح. فإذا بالرجل الذي حدفني خارج الطابور كان واقفا في انتظاري علي مبعدة خطوات. رفعت إليه رأسي في توتر, لا أريد أن أفسد فرحتي بعد أن امتلكت عشرة آلاف جنيه من فلوس طاهرة مستحمة بعرق الكد والشغل الشريف. حاولت أن أتجاوزه, لكنه لم يوسع لي, بل حملق في عيني بوجه بشوش يقطر حرجا:
ـ آسف: ما كنت أقصد إيذاءك لكنني كنت متوتر! آسف!
عندئذ إنهمرت دموعي بغزارة. فاحتضني وربت علي ظهري:
ـ آسف مرة أخري! أنا فهمتك! نحستك المرأة العكنة!
وأعطاني منديلا ورقيا لأجفف عيني. شكرته, صافحته بحرارة ومشيت.
ويبدو أن الدموع الغزيرة قد غسلت عيني وقلبي ودماغي. فإذا بي في حالة من السكون النفسي حتي لقد اختفت أصوات الشارع من أذني, في حالة الروقان الطارئة هذه إذا بصوت في دماغي يهتف بي في مرح: ومن أدراك ياحلو أن هذه الفلوس التي أخذتها من صاحبنا ذاك طاهرة؟! أليس من المحتمل أن تكون هي الأخري آتية من طريق أشد وضاعة وقذارة وحرمانية؟! وهذا الرجل نفسه من يكون؟ أليس من الواضح أنه ممن يدفعون لسونيا بالخمسمائة جنيه في الجلسة الواحدة؟..
شعرت أن الفلوس بدأت تشكشكني في جيبي. في الحال تذكرت البقشيشات التي تأتيني من النساء زبائن المحل, المرجح أنهن لسن كلهن شريفات كما كذلك الرجال! أتكون حياتي كلها مسمومة بالحرام؟! أخذتني هستيريا الضحك القريب من البكاء كأنني اكتشفت شيئا غريبا جدا في هذه الحياة, لم أكن منتبها إليه من قبل وأنني فرح باكتشافه حتي وإن كان يدعو للخوف والحيرة, تماما مثل كثير من المنامات المرعبة التي كثيرا ما أراها بعد أيام من الإجهاد, تفزعني ليلا وترهقني طوال النهار.


---------------------------------------
* عن الاهرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى